المبحث الأول
انتشار حلقات العلم
ترتبط الحلقات العلمية عند المسلمين بظهور الإسلام. ولا نغالي إذا ما قلنا: إنها وجدت منذ بداية الدعوة الإسلامية، حيث كان الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، يجتمع بمن آمن به في
دار الأرقم ، يعلمهم الدين الذي ابتغاه الله لهذه الأمة.
كما كان عليه الصلاة والسلام ، يعرض نفسه على كفار
قريش ، وغير القرشيين
بمكة وغيرها، يطلعهم على خبره، ودعوته، فيتبعه من أراد الله به خيرا، ويكفر به من ختم الله على قلبه.
وقد كان الإسلام ثورة على الواقع الجاهلي، ثورة على القيم والتقاليد، والمعتقدات.. جاء ليؤسس واقعا جديدا ينبني على الصفاء، والنقاء وسمو المعتقد، واقعا ينبني على إخلاص العبودية لله، وعدم تدنيسه بأدنى صور الشرك.. وهذا يتطلب بناء صرح جديد متكامل البنيان، له خصائصه ومميزاته، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا عن طريق الإرشاد والتبليغ..
والدعوة إلى الإسلام صورة من صور التعليم؛ لأن التعليم إما تزويد بالمعلومات أو إلغاء أو تقويم لها، وكذا شأن الدعوة لما فيها من تبليغ للحقائق اليقينية الموحى بها، وبيان لفساد المعتقدات الضالة، وتصحيح للمفاهيم.. لهذه الأسباب، نفهم دواعي حرص الرسول على الاتصال بالناس، وعقده للحلقات مع الوفود التي تفد عليه لإعلان
[ ص: 36 ]
إسلامها، وبقائها معه أياما لتعلم الشرائع، أو يرسل معها من يعلمها أصول الدين.
في هـذا الجو المتطلع إلى المعرفة، معرفة هـذا الدين الجديد، نستطيع إدراك سبب مفارقة الشباب الأهل والأحباب لصحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ولو مدة معينة، إنهم يريدون أن ينهلوا من المنبع الصافي، منبع النبوة، وفي ذلك يروي لنا
( مالك بن الحويرث قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شبيبة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا، فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا، وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه. فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلموهم، ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة، فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم ) .
>[1]
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس معهم يعلمهم الشرائع، ويرونه وهو يطبق، فأخذوا عنه العلم، والعمل.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يجتمعون حوله، ليأخذوا عنه تعاليم الدين الحنيف، وكثيرا ما نرى هـؤلاء الصحابة، وهم يتدارسون فيما بينهم، كتاب الله العزيز، أو حديث الرسول الكريم. ومن قبيل ذلك ما كان يفعله
عبد الله بن رواحة ، إذ " كان يقول للصحابة: تعالوا نؤمن ساعة " فيجلسون إليه، فيذكرهم العلم بالله، والتوحيد في الآخرة. وكان يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فربما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم مجتمعون عنده،
[ ص: 37 ] فيسكتون، فيقعد إليهم، ويأمرهم أن يأخذوا فيما كانوا فيه، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : بهذا أمرت .
>[2]
هكذا كان الأمر في عهده صلى الله عليه وسلم ، وبعد وفاته، اهتم الصحابة بتعليم التابعين كتاب الله وتفسيره، وحديث رسول الله، والفقه... وتكونت حلقات عديدة في الأمصار، نذكر منها:
- حلقة في
المدينة لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
- حلقة في
مكة لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما .
- حلقة في
اليمن لمعاذ بن جبل رضي الله عنه .
-حلقة في
البصرة لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه .
- حلقة في
الكوفة لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
- حلقة في
مصر لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما .
كما كانت لصحابة آخرين حلقات أمثال
أبي هـريرة >[3] وعمران بن حصين >[4] رضي الله عنهما .
وعلى هـذه السنة، سار من جاء بعدهم من التابعين وأتباعهم وبقية العلماء على مد العصور.
وهكذا، نجد
هـشام بن عروة >[5]
وقد تحلقت عليه جماعة من الناس، وهو يحدث في المسجد، كما نجد في جانب آخر حلقة
[ ص: 38 ] ليحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي >[6] " ويحدثنا
شعبة بن الحجاج فيقول: دخلت
المدينة بعد موت
نافع بسنة، فإذا
لمالك حلقة "
>[7]