المبحث الخامس
مكانة المذاكرة
هذه الأهداف التي أدرجناها في دراستنا هـاته، كانت هـي الدافع الأساسي إلى المذاكرة؛ لأنه من طريقها يتم صيانة السنة من الضياع، وتوسيع أفق الراوي، وتصحيح الأخطاء، ومنع الكذب من التسرب إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فميز المحدثون بين الصحيح، والضعيف، والمكذوب. من أجل ذلك نجد
الزهري يقول: " آفة العلم النيسان، وترك المذاكرة "
>[1]
ومن جانب آخر نجد الحث على المذاكرة انطلاقا من عهد الصحابة. " فهذا
علي بن أبي طالب يقول: " تذاكروا هـذا الحديث، فإن ذكر الحديث حياته "
>[2] " وهذا
علقمة - من التابعين - يقول: تذاكروا الحديث، فإن ذكره حياته "
>[3] [ ص: 92 ]
وعن
عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: " تذاكروا فإن إحياء الحديث مذاكرته "
>[4]
ولا يشترطون تحديث شخص بعينه؛ لأن هـدف المحدث أولا وقبل كل شيء حفظ ما لديه من مرويات، ولو اقتضى ذلك تحديث جارية لا تفهم العربية، أو مذاكرة الحديث مع نفسه، " فعن
إبراهيم النخعي قال: إنه ليطول علي الليل حتى أصبح فألقاهم، فربما أدسه بيني وبين نفسي، أو أحدث به أهلي " ، قال
أبو أسامة ، يعني بقوله: " أدسه " يقول: أحفظه
>[5]
وفي رواية أخرى عنه أيضا " قال: من سره أن يحفظ الحديث، فليحدث به، ولو أن يحدث به من لا يشتهيه "
>[6]
فإذا كان الأمر كما ذكرنا، وجب أن يداوم المحدث على المذاكرة، حتى يصل إلى درجة عليا من الإتقان والعلم، سواء كان علما بالنصوص أو الرواة. وناقد من نقاد الحديث، وهو
عبد الرحمن بن مهدي ، يصور هـذا المعنى بقوله: " إنما مثل صاحب الحديث مثل السمسار، إذا غاب عن السوق خمسة أيام، ذهب عنه علم أسعار ما في السوق "
>[7]
فالمذاكرة كما تبين، كان لها دور رائد، سواء على صعيد التعليم أو الذب عن السنة. فإذا كانت كذلك، فإن الرحلة في طلب الحديث لا تقل عنها أهمية، فما هـي أبعادها؟ وما هـي شروطها؟ هـذا ما سنحاول دراسته في الفصل التالي.
[ ص: 93 ]