المبحث الثاني
أهداف الرحلة
أهداف الرحلة بالأساس أهداف تربوية تعليمية
>[1] ، ابتداء من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي تتعلق إما بطلب العلم، أو نشره عن طريق البعثات التعليمية... وميزة المحدثين أنهم يعتبرون أنفسهم دائما في مرحلة الطلب. وهذا مما يزيد في تنمية معارفهم ومداركهم.
[ ص: 95 ]
والإخلاص الذي نجده لديهم في خدمة الحديث الشريف، وتفانيهم في ذلك، وتحملهم المشاق في سبيل ذلك، نابع من الوازع الديني تحقيقا لقوله تعالى:
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [الحجر: 9]؛ لأن الحديث تفسير للقرآن، وصيانة القرآن تقتضي صيانة ما يفسره
>[2]
وفيما يلي سنقوم برصد هـذه الدوافع في العصور الأولى، ليتضح لنا بجلاء مدى خدمة المسلمين لدينهم الحنيف. المطلب الأول: الرحلة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم لقد كانت للرحلة في عهد الرسول عليه السلام أهداف عدة، نذكرها على الشكل التالي:
1- الدخول في الإسلام
إذا ما عدنا إلى كتب الحديث والسيرة، فإننا سنلاحظ تلك الرحلات التي كان يقوم بها الناس، فرادى، وعلى شكل وفود، لزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بقصد إعلان إسلامهم.
2- التعرف على الدين الإسلامي من منبعه
كما رحل الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتعرف على الدين الإسلامي منه، بعد ما سمعوا به، كما هـو الشأن بالنسبة للأعرابي، الذي روى قصته
طلحة بن عبيد رضي الله عنه ،
( إذ قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [ ص: 96 ] من أهل نجد، ثائر الرأس، يسمع دوي صوته، ولا يفقه ما يقول حتى دنا، فإذا هـو يسأل عن الإسلام... ) >[3] ( وعن أبي رفاعة قال: " انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يخطب، قال: فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه ) >[4] 3- التعرف على الأحكام الدينية في واقعة ما
من الناس من رحل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، للتعرف على الأحكام الدينية في واقعة، أو وقائع معينة، كما في حديث العسيف الذي
( رواه أبو هـريرة وزيد بن خالد الجهني ، قالا: إن رجلا من الأعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قل " . قال: إن ابني كان عسيفا عند هـذا، فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني: جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هـذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله. الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هـذا، فإن اعترفت فارجمها. قال: فغدا عليها. فاعترفت، فأمر رسول [ ص: 97 ] الله صلى الله عليه وسلم فرجمت ) >[5] 4- البعثات التعليمية
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهتم بإرسال البعثات التعليمية، لنشر الدين الإسلامي، وتبيين قواعده للناس، وأحيانا يطلب منه أهل بلد، أن يبعث إليهم من يعلمهم أحكام الدين.
ففيما يتعلق بمبادرته عليه السلام ،
( يروي عمار بن ياسر رضي الله عنهما : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حي من قيس أعلمهم شرائع الإسلام فإذا قوم كأنهم الإبل الوحشية، طامحة أبصارهم، ليس لهم هـم إلا شاة أو بعير، فانصرفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمار ما عملت؟ فقصصت عليه قصة القوم وأخبرته بما فيهم من السهوة فقال: يا عمار ألا أخبرك بأعجب منهم؟! قوم علموا ما جهل أولئك، ثم سهوا كسهوهم ) >[6] ( وعن أبي موسى الأشعري أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، بعث معاذا وأبا موسى رضي الله عنهما إلى اليمن ، وأمرهما أن يعلما الناس القرآن ) >[7]
أما فيما يخص الطلبات التي وجهت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليبعث بمن يعلم القوم أمور دينهم، فإننا نجد
أنس بن مالك رضي الله عنه يروي
أنه " جاء
[ ص: 98 ] ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من
الأنصار ، يقال لهم القراء، فيهم خالي
حرام ، كانوا يقرءون القرآن، ويتدارسونه بالليل ويتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه، ويشترون به الطعام لأهل الصفة والفقراء "
>[8] المطلب الثاني : الرحلة في عهد الصحابة
1- الرحلة لسماع الحديث لم يستقر الصحابة في مكان واحد، إما بسبب البعثات التي كانت ترسل إلى البلدان، أو لغيرها من الدواعي منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبالتالي، فمن الطبيعي أن لا يعلم أحد الصحابة، أو مجموعة منهم بحديث أو أكثر، لكنهم عندما يسمعون أن أحدا يرويه، فإنهم يرحلون إليه للسماع منه، إن كان ما يزال على قيد الحياة، كما فعل
جابر بن عبد الله الذي تحمل مشاق السفر في سبيل سماع حديث واحد، بلغه أن أحدا يحدث به. وفي ذلك قال: بلغني عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم أسمعه منه، قال: فابتعت بعيرا، فشددت عليه رحلي، فسرت إليه شهرا حتى أتيت
الشام ، فإذا هـو
عبد الله بن أنيس الأنصاري ... "
>[9] [ ص: 99 ] 2- الرحلة لضبط الحديث
نظرا لأهمية حديث رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، اهتم الصحابة بضبطه بشتى الطرق، منها: الرحلة إلى الراوي، وفي ذلك عودة إلى المصدر، وأحيانا يكون الصحابي المرتحل بدوره سمع الحديث الذي يرويه غيره، إلا أنه يحب أن يتأكد من إتقانه له. وفي ذلك يروي
عبد الله بن بريدة : " أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، رحل إلى
فضالة بن عبيد ، وهو
بمصر ، فقدم عليه وهو يمد لناقة له. فقال: مرحبا. قال: أما إني لم آتك زائرا، ولكن سمعت أنا وأنت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رجوت أن يكون عندك منه علم. قال: ما هـو؟ قال: كذا وكذا...
>[10] 3- الرحلة لنشر العلم
إن نشر الدين الإسلامي رسالة ومسئولية ملقاة على كاهل العلماء. وقد قام الصحابة بهذه المسئولية خير قيام، فرحلوا إلى الآفاق في سبيل تبليغ رسالة الله، واهتم الخلفاء الراشدون بإرسال فقهاء الصحابة إلى الأمصار، لنشر العلم، والقضاء بين المختصمين، وفي ذلك روى
حارثة بن المضرب قال: " قرأت كتاب
عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أهل الكوفة: " أما بعد، فإني بعثت إليكم
عمارا أميرا،
وعبد الله معلما ووزيرا. وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاسمعوا لهما، واقتدوا بهما. وإني قد آثرتكم بعبد الله (هو ابن مسعود) على نفسي أثرة "
>[11] [ ص: 100 ] المطلب الثالث: الرحلة في عهد التابعين ومن بعدهم بقيت الرحلة نظاما تعليميا متبعا في عهد التابعين أيضا، لذلك سنقوم بإبراز الأهداف التي كان المحدثون يتوخونها منها:
1- طلب العلم
في هـذه الفترة نجد شيوع الرحلة للسماع من الصحابة، وباقي الشخصيات العلمية، وكذا الكتابة عنهم. وقد كانوا يعدون بالألوف، كما سبقت الإشارة إليه، عند الكلام عن المجالس عند المحدثين.
2- الرجوع إلى المصدر
إن المرء يرجع إلى المصدر قصد الاطمئنان النفسي لما سمع، لذا نجد أمثال هـذا النوع من الرحلات التي تهدف السماع مباشرة من الأصل، إن كان ما يزال على قيد الحياة، زيادة في التحري، وطلبا لعلو الإسناد، كما فعل عامر بن شرحبيل الشعبي الإمام التابعي. فقد خرج إلى مكة في ثلاثة أحاديث ذكرت له، لعله يلقى رجلا لقي النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعها منه
>[12] " وعن
أبي قلابة قال: " لقد أقمت في
المدينة ثلاثا، ما لي حاجة إلا وقد فرغت منها، إلا أن رجلا كانوا يتوقعونه، كان يروي حديثا فأقمت حتى قدم، فسألته "
>[13] [ ص: 101 ]
وعن
أبان بن أبي عياش قال: قال لي
أبو معشر الكوفي : " خرجت من
الكوفة إليك إلى
البصرة في حديث بلغني عنك. قال: فحدثته "
>[14] 3-ضبط الحديث
وهذا ورع من المحدثين، كان له دوره في الحفاظ على السنة. فلم يكن محدث عدل ضابط ليقبل زيادة حرف أو نقصانه. لذا نجد
مسروقا وأبا سعيد ، كلا منهما رحل لضبط حرف واحد في حديثهما
>[15] 4- سماع الكتاب من صاحبه
كان طلاب العلم يقومون بالرحلات، لسماع الكتب من أصحابها، وعرض مكتوباتهم عنه عليه، ليقرهم عليها... لهذا، نجدهم لا يكتفون بسماعها عن أحد الرواة عنه، إذا كان ما يزال حيا، بل يرحلون إليه، كصنيع العديد من العلماء، أمثال
يحيى بن يحيى الليثي ، فإنه لم يكتف بسماعه الموطأ
للإمام مالك بن أنس - رحمه الله - على يد
زياد ، الملقب بشبطون في
الأندلس ، لذا نراه يرحل إلى المدينة لسماعه مباشرة من صاحبه.
5- نشر العلم
كان العلماء يرحلون لنشر العلم إما اختيارا، وإما بتكليف رسمي على شكل بعثات تعليمية. ومن بين الذين رحلوا بهذه الصفة:
حبان بن أبي جبلة القرشي التابعي،
[ ص: 102 ] الذي بعث به
عمر بن عبد العزيز إلى
أفريقية في جماعة من الفقهاء ليفقهوا أهلها
>[16] 6- التكوين المستمر:
الإنسان دائما محتاج إلى مزيد من التعلم، أما إذا توقف عن مزيد الطلب، فإنه سيتأخر حتما عن الركب؛ لأنه سيفوته الكثير. لذلك كانت الرحلة في سبيل التكوين المستمر منذ العهد الأول؛ لأن المسلم يعتبر نفسه دوما في رحلة الطلب، ويتوق إلى معرفة السنة النبوية، والأحكام المتعلقة بالعبادات والمعاملات وغيرها، فلا عجب أن نجدهم حريصين على السماع، أيا كانت مكانتهم العلمية. وبقي الأمر كذلك، وأثر عن المحدثين التزامهم بهذا التكوين. فهذا
ابن معين وهو على فراش الموت، لا يشتهي شيئا غير الخلوة والإسناد العالي
>[17] والحسن بن منصور يصرح أنه سيبقى طالبا للعلم حتى يتوفاه الله
>[18]
وهذا
يوسف بن يحيى بن يوسف الأزدي (المتوفى سنة288هـ) من أهل
قرطبة ، نراه يرحل في طلب الحديث، ويترك حلقته التي يدرس فيها، وقد كان شيخا إماما
>[19] 7- جمع الحديث وكتابته في كتاب
كان الحديث ينقل عن طريق الرواية الشفوية -وهو الأمر الغالب- والرواية المكتوبة، إلى أن دخلت طورا جديدا، وهو مرحلة التدوين،
[ ص: 103 ] حيث نادى بضرورة تدوين السنة
عبد الملك بن مروان بن الحكم (ت85هـ) ، والد
عمر بن عبد العزيز ، ثم سيتكرر هـذا النداء من طرف عمر بن عبد العزيز (ت101هـ) خشية دروس العلم وذهاب العلماء
>[20]
وقد كان لهذا النداء ثمرته، حيث صنفت مؤلفات جليلة، ضمت بين دفتيها أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ككتب السنن والمسانيد وغيرها، رحل أصحابها في سبيل ذلك، وطوفوا البلاد.
8- إفراد الصحيح من الحديث في كتاب
انتشرت كتب الحديث، وكان منها ما يضم الصحيح والضعيف، فأحس المحدثون بضرورة إفراد الصحيح في كتاب، فتوجهت الأعين إلى
البخاري ؛ لأنه كان مؤهلا لذلك. فطاف البلدان، وانتقى الحديث، وعانى في سبيل ذلك عناء شديدا، لا يتحمله إلا الأبطال الصابرون. وأخيرا بعد ستة عشر عاما من الرحلة عاد إلى بلده، وقد جمع حديث
بخارى ،
وبلخ ،
ومرو ،
ونيسابور ،
والري ،
وبغداد ،
والبصرة ،
والكوفة ،
ومكة ،
والمدينة ،
ومصر ،
ودمشق ،
وقيسارية ،
وعسقلان ،
وحمص ...
>[21]
فكان أول من ألف في الصحيح.
ثم سار على نهجه
الإمام مسلم في جمعه للصحيح، فكان ثاني من صنف فيه.
بعد عرضنا لهذه الأهداف، يمكن لنا أن نخلص إلى أن الدوافع تتلخص فيما يلي:
[ ص: 104 ]
1- طلب المعرفة.
2- ضبط المعرفة.
3- نشر المعرفة.
وفي كل عنصر من هـذه العناصر، تحمل المحدثون العناء الشديد، خصوصا عندما نلاحظ أن منهم من يرحل من أجل حرف واحد إلى مصر، وقد يمتد سفره إلى الشهر أو يزيد، بالإضافة إلى بساطة وسائل النقل، وهذا راجع إلى عنايتهم بالحديث الشريف، وتحرزهم من نقل حرف زائد أو إسقاط حرف. وعلى هـذا نطلق اسم " الأمانة العلمية " التي نفقدها اليوم عند الكثير من الكتاب والمؤلفين.