المبحث الثالث
المجانية
ماذا عن موضوع مجانية التعليم عند المحدثين؟
في عهد الصحابة، لا نعلم أحدا طلب أجرا مقابل تحديثه. وما تطالعنا به النصوص، صورة للصحابة وهم يتذاكرون فيما بينهم، أو يسألهم شخص فيجيبونه عن مسألته إن كان لهم علم بها، أو يجلس إليهم الناس ليأخذوا عنهم العلم، أو يحدثون الناس في الجمعة قبل صعود الخطيب المنبر، كما كان يفعل
أبو هـريرة ، فعن
عاصم بن محمد عن أبيه - رضي الله عنهما - " قال: رأيت أبا هـريرة رضي الله عنه ، يخرج يوم الجمعة، فيقبض على رمانتي المنبر قائما، ويقول: حدثنا
[ ص: 144 ] أبو القاسم رسول الله المصدوق صلى الله عليه وسلم ، فلا يزال يحدث حتى إذا سمع فتح باب المقصورة لخروج الإمام للصلاة، جلس "
>[1]
وهم في كل هـذا، يرجون جزاء الله وإحسانه إليهم.
ويأتي عهد التابعين أمثال
علقمة ،
وعكرمة ،
ومسروق ،
وسالم بن عبد الله بن عمرو الزهري ، وغيرهم. وإننا لم نعثر على أحد من التابعين يحدث الناس بالمقابل، لكننا وجدنا من كان يقبل تعليم أبناء الأمراء بمقابل
كالزهري ، وهذه مسألة أخرى، إذ أن ذلك من قبيل المناصب، ومع ذلك فقد عيب عليه القيام بهذا العمل.
وعند رجوعنا إلى الأسباب التي دفعت إلى انتقاده، وجدناها راجعة بالأساس إلى كونه لم يبتعد عن السلطان وبابه، في حين أن المحدثين يقولون: إن باب السلطان فتنة، فعلى المحدث أن لا يلجه لئلا يقع في المحذور، فيسايره في هـواه. فهذا
حذيفة الصحابي الجليل، " يقول: " إياكم ومواقف الفتن. قيل: وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه "
>[2] " وعن
ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن على أبواب السلاطين فتنا كمبارك الإبل. والذي نفسي بيده، لا تصيبون من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينكم مثله، أو قال
>[3] مثليه "
>[4] .
[ ص: 145 ]
وإذا علمنا أن أمثال
الزهري لم يكن لتطاوعه نفسه لاتباع أهواء الأمير، بل نجده يقف موقفا صلدا عند الحق، علمنا أن هـذا التخوف لا أثر له عليه، فهو بعيد عن الشبهات. أضف إلى ذلك أنه لم يكن يمنع الناس من علمه، ولا يطلب منهم المال مقابل تحديثهم.
أما عندما ننتقل إلى الأجيال التالية، فإننا سنجد من المحدثين من لا ينشط للحديث حتى يجمع الناس لهم بعض المال. وهؤلاء علمهم اكتسابي.
وسبب طلب هـؤلاء المال هـو الفاقة والعوز، أما الذين لهم ما يعيشون به، فلم يؤثر عنهم ذلك، ومنهم من كان يصبر على آلام الجوع، ولا يمد يده حتى يفرج الله عليه، وعلم أمثال هـؤلاء هـو ما نطلق عليه العلم الاحتسابي، أي يحتسب المحدث أجره لله. منهم
الإمام أحمد بن حنبل ، الذي لم يكن يقبل عطايا التجار والأمراء. فهذا تاجر يعرض عليه عشرة آلاف درهم، ربحها من بضاعة جعلها باسمه، فيأبى أن يقبلها، وها هـو ذا يأبى الصلاة خلف عمه
إسحاق بن حنبل وبنيه، ولا يكلمهم لأنهم أخذوا جائزة السلطان. ويمكث مرة ثلاثة أيام لا يجد ما يأكله، حتى يبعث إلى بعض أصحابه مستقرضا منه دقيقا، فيعرف أهله حاجته إلى الطعام، فيعجلون ويعجنون ويخبزون إليه سريعا، فيقول: ما هـذه العجلة؟ كيف خبزتم؟ فيقولون: وجدنا تنور بيت صالح مسجورا فخبزنا لك فيه. فيقول: ارفعوا. ولم يأكل، وأمر بسد بابه إلى دار صالح. قال
البيهقي : لأن صالحا أخذ جائزة السلطان، وهو
المتوكل على الله >[5] [ ص: 146 ]
ويبعث المأمون مرة ذهبا يقسم على أصحاب الحديث، فما بقي أحد منهم إلا أخذ، إلا
أحمد بن حنبل ، فإنه أبى
>[6]
وذلك راجع إلى موقفه من عطايا السلطان ومصدرها. وهذا ورع منه.
وتنفد نفقته يوما وهو في اليمن، فيعرض عليه شيخه عبد الرزاق ملء كفه دنانير، فيقول: نحن في كفاية. ولم يقبلها
>[7]
عن أمثال أحمد، نقلت إلينا السنة، وأتتنا بضة نقية؛ لأنهم أرادوا بذلك وجه الله، فتفانوا في خدمتها وتمحيصها.
إلى جانب تعفف الأئمة، نجد كرم الميسورين منهم، الذين كانوا يتكفلون بطلبتهم، ما لم يتقلدون منصبا، ويحثون المحسنين على مساعدتهم.
فابن المبارك مثلا، كان يتخذ طعاما ويدعو أصحاب الحديث إليه. وهذا
أبو أسامة يشكو إليه دينا عليه، ويسأله أن يكلم له بعض إخوانه، فيعمد إلى خمسمائة درهم من ماله، فيوجهها إليه ليلا مع رسوله، ويطلب منه أن لا يعلمه من وجهه إليه
>[8] وتارة أخرى نراه يعرض على
أبي نعيم الخروج إلى
صنعاء لطلب الحديث على نفقته.
>[9]
وهذا ما هـو إلا مثال من بين أمثلة عديدة، حدثت بين الشيوخ وطلبتهم، لحثهم على الاستزادة في طلب الحديث والتفرغ له.
[ ص: 147 ]
فهل بعد هـذا يوجد مجال للقول بعدم مجانية التعليم عند المحدثين؟! وقد " قال
ابن عمر : لا يكون الرجل عالما حتى لا يحسد من فوقه، ولا يحقر من دونه، ولا يبتغي بعلمه ثمنا " .
>[10] وبعدما رأينا من تحرج الأئمة من أخذ العطايا هـل يبقى أدنى شك فيما ذهبنا إليه؟!
إلا أن الضرورة دفعت بالبعض إلى طلب المال حال التحديث، لا على أنهم لا يحدثون إلا به، ولكن ليستعينوا به فقط على أحوال الزمان، وليبقوا متفرغين للعلم الشريف. فهم على هـذا، لا يبتغون بعلمهم مالا، ولا جاها، وإنما يبتغون مرضاة الله تعالى. والأصل عند المحدثين هـو نشر الحديث، دون الالتفات إلى الجانب المادي؛ لأنه أمر عارض، وهدفهم أسمى من ذلك، ألا وهو الحفاظ على هـذه الشريعة الغراء، بالذب عن السنة وتعليم الناس أمر دينهم.
ونراهم يتواصون بحسن معاملة الطلبة، فيذكر
الربيع بن سليمان أنه كتب إليه
أبو يعقوب البويطي " أن أصبر نفسك للغرباء، وأحسن خلقلك لأهل حلقتك، فإنني لم أزل أسمع
الشافعي يكثر أن يتمثل بهذا البيت:
أهين لهم نفسي لكي يكرمونها......ولن تكرم النفس التي لا تهينها
>[11]
وهذه المعاملة الطيبة تدفع بالمستمعين إلى تقديم بعض الهدايا للمحدثين، فمنهم من كان يقبلها، ومنهم من كان يرفضها كالإمام أحمد كما سبق ذكره.
وعند التحقيق، نجد أن الهدية مقبولة، ما لم تكن مطية إلى محرم، وقد قبلها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 148 ]
وفي هـذه المسألة، نعرض ما ورد في البستان
لأبي الليث قال: " التعليم على ثلاثة أوجه: أحدها للحسبة، ولا يأخذ به عوضا، والثاني: أن يعلم بالأجرة. والثالث: أن يعلم بغير شرط، فإن أهدي إليه قبل. فالأول مأجور، وعليه عمل الأنبياء، والثاني مختلف فيه، والأرجح الجواز، والثالث يجوز إجماعا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معلما للخلق وكان يقبل الهدية "
>[12]
والأمر السائد بين المحدثين المعتمد عليه، والذين حفظ الدهر صنيعهم هـو الاحتساب. ولهذا فلا مجال لأحد أن يزعم أن الناس لم يكونوا يجدون من يحدثهم حتى يدفعوا المقابل، فالمحدثون كثيرون، والمحتسبون أجرهم متوافرون، بل إن من قيل: إن علمهم اكتسابي، لم يكونوا ليمتنعوا عن التحديث في حالة عدم تقديم النقود لهم، ومن جهة أخرى نجد من النقاد من ضعفهم لهذا السبب.