المبحث الرابع
التكوين المستمر
إن الإنسان كلما أطال النظر في علمه، إلا وظهرت له أشياء كان غافلا عنها، وكلما طلب علما إلا واتسع أفقه. فما هـو موقف المحدثين من استمرارية التكوين؟
سئل
عبد الله بن المبارك ذات يوم: " إلى كم تكتب الحديث؟ " فأجاب: " لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أسمعها بعد "
>[1] [ ص: 149 ]
وسئل الحسن بن منصور الجصاص
أحمد بن حنبل : " إلى متى يكتب الرجل الحديث؟ فقال له: حتى يموت "
>[2]
ومرة قال: " أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر "
>[3]
ونفس السؤال يوجهه
ابن حزم إلى
أبي علي الفاسي ، إذ قال له: " متى تنقضي قراءتك على الشيخ؟ فأجابه أبو علي: إذا انقضى أجلي. فاستحسنها منه "
>[4]
من خلال هـذه النصوص إذن، يظهر لنا بجلاء، أن المحدثين يركزون على استمرارية التكوين؛ لأنهم بذلك يبقون متمكنين من علمهم، فلا ينسون حديثا، والسبب في ذلك راجع إلى المذاكرة، مذاكرة الشخص لنفسه، ومذاكرته لغيره.
كما يبقون دائما على اتصال بما يروى في الساحة، ويمثل هـذا أهم عنصر، إذ بفضله تمكنوا من معرفة الأحاديث المكذوبة، والرد عليها، بما يناسبها، فحافظوا على السنة من الأهواء والبدع. ولولا يقظتهم لتسربت أحاديث مكذوبة إلى السنة دون علمهم، لكنه لم يقع والحمد لله.
وهناك جانب آخر يدفع بالمحدثين إلى الاستزادة من طلب الحديث، وهو راجع إلى فضله واعتباره بمثابة صلاة، حتى
قال
سفيان : " ما أعلم
[ ص: 150 ] على وجه الأرض من الأعمال أفضل من طلب الحديث، لمن أراد به وجه الله "
>[5]
وعن
وكيع : " لولا أن الحديث أفضل عندي من التسبيح، ما حدثت
>[6] . وعن
محمد بن عمرو بن عطاء قال: " كان
موسى بن يسار معنا يحدث، فقال له ابن عمرو: إذا فرغت من حديثك فسلم، فإنك في صلاة "
>[7]
إذن فالوازع الديني له دور كبير في ظهور مبدأ التكوين المستمر عند المحدثين، وهذه هـي عزيمة صامدة أمام نوائب الدهر، فهم لا يهمهم المال لأنه أمر عارض، ولكنهم يحتسبون أجرهم، فلا نستغرب عندما يطالعنا أشخاص هـم أوعية للعلم، جردوا أنفسهم لجمع الحديث وتمحيصه، لا يبتغون من وراء ذلك إلا ثواب الآخرة. فالمثابرة على الطلب هـو ما نلمسه في المدرسة المحمدية. وهذا ما كفل تفتق أذهان المحدثين، وتكوين شخصيات فذة، تنافح عن الدين من زيغ أصحاب الأهواء.