العقل العربي بعد الإسلام
أخذا في الاعتبار الواقع، الذي كان عليه العقل العربي قبل الإسلام، وما اتصف به من ضياع، وشتات، وتمزق، وتخلف عقائدي، ومادي، بالإضافة إلى الانحراف في السلوك، والممارسات، وأخذا في الاعتبار لطبيعة العقل، والكيفية التي يتشكل بها أو من خلالها، والتي تتطلب معرفة ووعيا حقيقيين، وأساسا وقواعد ثابتة، ومنهجا محددا واضحا، وإطارا مرجعيا، متكاملا، وشاملا، وبيئة اجتماعية وثقافية نشطة، بالإضافة إلى وجدان حي، قادر على استلهام المعرفة، والتفاعل معها، وتحويلها، إلى سلوك وفعل منتج.
لقد كانت مهمة الإسلام أبعد من أن تقتصر على جانب واحد من الإنسان العربي، بل إن المهمة أشمل وأوفى، حيث جاء الإسلام ليهز هـذا الكيان البشري، ومن خلال أهم ما فيه.. من خلال عقله، ومن خلال وجدانه، وذلك لكي يغير سلوكه، ويوجه تصرفاته. كان على الإسلام أن يحدث هـزة عنيفة، وقوية، في داخل الإنسان، تجعله يعود لذاته، ليراجعها، ويتعرف على مكامن الخطأ فيها، ويعود لبيئته وما يحيط به من واقع، ويتبصر به ويحلله، ويستخرج الاستنتاجات، ويكتشف القوانين والسنن. لكي يحدث هـذا التحول، كان لا بد من نسف كثير من المسلمات السائدة، واستبدالها بمسلمات جديدة، ومتناقضة تماما مع المسلمات السابقة، وما أصعب مثل هـذا التحول والتبدل، على النفس الإنسانية الضالة.
[ ص: 76 ]
ولقد كان المدخل الطبيعي الذي تتم من خلاله هـذه التحولات، هـو العقل، بما يزود به من معرفة، وبما يرسخ به من مبادئ ومفاهيم، وبما ينتج عن ذلك من اتجاهات وسلوك. وقد عني الإسلام بهذا المدخل، لأهمية العقل، بالنسبة للإنسان، فهو الذي يوجه النشاط والحركة الإنسانية، وهو الذي يبني، ويهدم، وهو الذي يؤلف، ويفرق، وهو الذي يبدع، أو يخمل، ويكسل، وغني عن التأكيد، أن الإسلام بنظرته هـذه، ينظر نظرة شمولية تجمع بين العقل، والوجدان، والسلوك، حتى إن التعبير عن هـذه الأشياء، ليتداخل في بعض الأحيان، وذلك لأنه من الناحية العملية، ومن ناحية مصلحة الإنسان نفسه، في حياته الدنيا والآخرة، يجب ألا يفصل بينهما، فما قيمة المعرفة إذا كانت معرفة منحرفة وضالة؟!
ما قيمة العلم، الذي يقود الإنسان إلى التردي والهاوية ؟! وما قيمة الاختراع الذي يدمر به الإنسان ذاته، وحياته وكوكبه ؟! وما قيمة الشعر أو القصة، أو المسرحية، التي تثير الغرائز، وتهيجها؟! ولنا في واقع حياتنا المعاصرة، الكثير من الأمثلة فكم من المال والوقت والجهد الذي بذل في صناعة أسلحة التدمير الشامل؟! ومن الذي صنعها؟! الإنسان نفسه، وهو الذي يدعو لتدميرها الآن، في الوقت الذي يعاني فيه أناس آخرون من الجوع، والفقر، والجهل، والمرض، وحتى البلدان التي تصنع هـذه الأشياء، يتسكع أبناؤها، ويقطنون الشوارع، والأزقات، ومحطات الميترو. ما قيمة الأدب والثقافة، التي تولد العداوات، وتثير الحزازات؟! وما قيمة الإعلام الذي يولد الاتجاهات السلبية، والاحتقار للآخرين ؟!
[ ص: 77 ]
هذه النظرة الشمولية، تحقق في نهاية المطاف، ضبط وحسن توجه الإنسان، في فكره، ومشاعره، وسلوكه، وهذا هـو ما يريده الإسلام للإنسان على هـذه الأرض.
( والسر -والله أعلم- في إغفال ذكر العقل بلفظه، كأداة لمستوى معين من الإدراك، وإضافة ذلك الإدراك إلى القلب، هـو ألا يفهم أن المراد من عقل الأشياء، مجرد الوقوف بها عند الجانب التجريبي، والعملي الجاف، دون التجاوز إلى مجالي الانفعال والوجدان، اللذين هـما من الحركات القلبية، إذ الوقوف بالأشياء عند مرحلة المعرفة المجردة، ليس مراد الدين فقط، وإنما يراد مع الإدراك لها، التعاطف معها، وغمرها بدفء الإحساس، وحرارة الوجدان)
>[1] .
لسنا بحاجة أن نثبت عناية الإسلام بالعقل، فالنصوص التي وردت حوله وكما سبقت الإشارة - في القرآن الكريم كثيرة، وكذا في السنة النبوية المطهرة.
ترى مع هـذه المنزلة الرفيعة، التي يحتلها العقل في الإسلام، كيف تعامل الإسلام مع العقل العربي في أول الأمر؟ وما الأهداف التي قاده إليها؟ وما القواعد والمبادئ التي رسخها فيه؟ وما المنظومة المعرفية التي قدمها له؟
[ ص: 78 ] ومن ثم، ما الأسس الفكرية والعقلية التي أحدثها فيه وأصبحت تمثل منظومة عقلية متكاملة للإنسان العربي، يفكر من خلالها ويهتدي بثوابتها، ويسير ويسلك وفق منهجها؟.
لإحداث التغيير في بنية عقل الإنسان العربي، بدأ الإسلام من العقيدة وذلك بطرح التساؤلات على هـذا العقل، حول طبيعة الإله، أو الآلهة التي يعبدها، وقيمتها، وجدواها، من أجل إثارة الشك والريبة حولها، ولكي يعرفها على حقيقتها.
( ما هـذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ) (الأنبياء: 52) .
وإذا كان هـذا الخطاب القرآني، يحكي موقف
إبراهيم من أبيه، وقومه، فهو يمثل واقع العرب أيضا، وهذا دأب القرآن، حيث يحكي واقع الأمم الأخرى، لأخذ العبرة منها. والموقف نفسه وقفه الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث بدأ يسأل قومه، وعشيرته، حول آلهتهم، التي كانوا يعلقونها على
الكعبة المشرفة . ويستمر القرآن في إثارة التساؤلات، حول هـذه الآلهة وطبيعتها:
( قال بل فعله كبيرهم هـذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ) (الأنبياء: 63) .
سؤال منطقي يوجهه القرآن، من أجل أن يلفت العقل إلى واقع هـذه الأصنام، والتي لا تعدو كونها جمادا، لا تنطق ولا تتحرك. هـذا وقد خاطب القرآن العقل البشري من خلال المنفعة والمصلحة، ولذا عاب على من سبق، بسؤال استنكاري حين قال:
( قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ) ( الأنبياء:66) .
وبعد هـذه التساؤلات، التي تفضح واقع الآلهة، وطبيعتها، يقود الإنسان إلى مواجهته بحقيقة حتمية، إذا هـو استمر في غيه وضلاله، حيث يبصره إلى أن مآله ومصيره هـو النار:
( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) ( الأنبياء : 98) .
[ ص: 79 ]
ويضيف الإسلام بعدا جديدا، في تركيبة العقل العربي، حيث يحدد العلاقات في هـذا الكون، وأنه - أي الله - هـو الذي تعود إليه جميع هـذه الأشياء، وهو خالقها،
( له ما في السماوات وما في الأرض ) (البقرة :255) .
( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ) (ص :27 ) .
( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ) ( الأنبياء :16) .
ثم يتناول الإنسان نفسه، ويعرفه بحقيقة خلقه، ومادته، التي خلق منها، والهدف من خلقه، وجعلـه على الأرض:
( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) (المؤمنون: 12) .
( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) (البقرة: 21) .
وحيث إن الخلل الاعتقادي، الذي يعانيه الإنسان العربي مرده وبشكل كبير إلى طريقة التفكير السائدة في ذلك الوقت، والقائمة على التقليد، ولا سيما تقليد الاباء، والأجداد، دون محاولة لإعمال العقل، وتوظيفه التوظيف السليم، والسديد، لاكتشاف الحقيقة في الكون، واكتشاف واقع الآلهة المعبودة، لذا ركز الإسلام في الطرق على هـذا الجانب، والتأكيد على أن هـذا الخلل الاعتقادي، مرده التقليد، والتقليد الأعمى، ولا غيره، ولم يأت من تفكير، وتمحيص عقلي.
( قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ) ( الأعراف:70) .
( أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ) (هود: 87) .
(فإنه ما من خطوة في تاريخ البشرية، حررت العقل وكرمته ووصفته في موقعه الصحيح، كهذه الخطوة: تحويل التوجه الإنساني
[ ص: 80 ] من التعدد إلى الوحدة، ومن عبادة العباد، إلى عبادة الله وحده، ومن عشق الحجارة والأصنام والتماثيل والأوثان، إلى محبة الحق، الذي لا تلمسه الأيدي ولا تراه العيون.. ككسر للحاجز المادي، باتجاه الغيب، وتمكين للعقل من التحقق بقناعات، تعلو على معطيات الحس القريب)
>[2] .
وإذا كانت العبودية ، أيا كانت، موجهة له، تمثل سلطانا مهيمنا على العقل، والوجدان، مما يترتب عليه تحريك المشاعر، والعواطف وتحديد نشاط العقل، ضمن حدود ومسارات معينة، فإن عبودية الإنسان لأخيه الإنسان، تمثل شكلا ممقوتا من قبل الإسلام. ولكي ينتشل الإنسان العربي من الحضيض الآسن، الذي يتقوقع داخله، في حدود القبيلة، والعشيرة، وماءها ومرعاها، ونفوذ شيخها، بين الإسلام أن الرسالة والعقيدة الجديدة، رسالة عالمية، تتخطى الحدود الضيقة، إلى أفق رحب، ومجال أوسع:
( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ) (سبأ: 28) .
( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ( النساء:59) .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف)
>[3] .
إن سلامة الاعتقاد والتصور شرط أساس لضمان العطاء والفاعلية، وبناء مجتمع على أسس جديدة، من العدل، والإخاء، والأمان، لأن
[ ص: 81 ] العقل البشري لا ينتج، حين يكون صاحبه في تيه وضياع اعتقادي، ( ولن يقدر عقل مهما أوتي من فطنة، أن يعمل، ويبدع، ويعطي، وهو يتخبط في التيه، ويكبل بالأغلال )
>[4] ..
الهزة العنيفة الثانية التي أحدثها الإسلام في العقل العربي، هـي في صميم العلم والمعرفة، المتواجدة لديه، وإزاء هـذه القضية، من الممكن أن نطرح بعض التساؤلات، منها: ما مصدر العلم والمعرفة؟ وما نوع وطبيعة المعرفة، التي يجب الحصول عليها؟ وكيف أثار الإسلام هـذه القضية في النفوس العربية الجاهلية، والمحدودة الثقافة، في ذلك الوقت؟
لكي يحدث الإسلام هـذه الآثار الذهنية أخذ يطرق، وبشكل متكرر وقوي على أهمية العلم، وفي الوقت نفسه، يشير إلى أدواته ومقتضياته. العلم يحتاج أن يقرأ الإنسان، وإذا قرأ يفهم، يتدبر يعي، يستوعب، ويستخلص الحكم. العلم يحتاج القلم، والكتاب ويحتاج الجهد والمثابرة،
( اقرأ باسم ربك الذي خلق *
خلق الإنسان من علق *
اقرأ وربك الأكرم *
الذي علم بالقلم *
علم الإنسان ما لم يعلم ) (العلق: 1-5 ) .
وكجزء من الإثارة العقلية الإيجابية، أو الحوافزية، والتدعيم العقلي الإيجابي، يشيد القرآن بالعلماء، وأهميتهم، وانهم لا يمكن مقارنتهم بالجهلة:
( قل هـل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب ) (الزمر:9) .
[ ص: 82 ] ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) (البقرة : 269) .
( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) (فاطر: 28) .
( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ) (آل عمران: 7) .
وبعد هـذه الإثارة العقلية، حول العلم والعلماء، والتعلم، يلزم الإشارة إلى أن العلم المطلوب ليس عبثيا، لا فائدة منه، ولا قيمة له، بل إن المعرفة المرتجاة، والمطلوب السعي وراءها، هـي المعرفة الدالة على وجود الله وعظمته، وخلقه لهذا الكون، وتصرفه فيه، المعرفة التي تؤدي إلى اليقين، لا إلى الشك، والاضطراب العقائدي. معرفة تؤصل التوحيد والشفافية الإيمانية. كذلك يوجه الإسلام الإنسان إلى اكتساب المعرفة الشرعية، التي تبين له الحلال والحرام، تبين له العلاقة الزوجية والأسرية والاجتماعية والسياسية. معرفة تضع أسس الاقتصاد والبناء والنمو. معرفة تؤدي إلى الرفاهية والخير والسعادة. ولا شك أن رفاهية الإنسان في دنياه، تقتضي علمه ومعرفته في القوانين والسنن الكونية في الرياح، المياه، التربة، النجوم، الزراعة، الصناعة.. إلخ.
وهذه تحتاج إلى علم ومعرفة، واستقصاء لخواص وطبيعة هـذه الأشياء:
( وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ) (القصص:77) . وكما في حديث تأبير نخل المدينة: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) .
إذن الإسلام لم يوصد الباب، أمام المعرفة المفيدة النافعة للإنسان، بل شجع، وحث على طلبها. ( بل إن نسيج القرآن الكريم نفسه،
[ ص: 83 ] ومعطياته المعجزة، من بدئها حتى منتهاها في مجال العقيدة، والتشريع، والسلوك، والحقائق العلمية، تمثل نسقا من المعطيات المعرفية، كانت كفيلة بمجرد التعامل المخلص الذكي المتبصر معها أن تهز عقل الإنسان، وأن تفجر ينابيعه، وطاقاته، وأن تخلق في تركيبه خاصية التشوق المعرفي، لكل ما يحيط به من مظاهر ووقائع)
>[5] .
وفي محاولة لإيضاح الأصول المعرفية في الإسلام، يرى
كارم غنيم : أنها ثلاثة جمعت في قوله تعالى:
( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هـدى ولا كتاب منير ) ( لقمان: 20) .
فالعلم، والهدى، والكتاب المنير، ثلاثتها هـي الطريق إلى المعرفة الحقة في الإسلام، ويفسر المفسرون العلم بالعلم الضروري، علم الفطرة، والطبع والغريزة، ويفسرون الهدى بالاستدلال والنظر، الذي يهدي إلى المعرفة، والكتاب المنير بالوحي. ويبرز كارم غنيم أن أصول المعرفة في الإسلام بالوحي:
1- العلم العقلي المبني على الدليل والبرهان.
2- العلم الفطري المركوز في طبائع الناس كافة.
3- الوحي الإلهي الداعي إلى الدين والإيمان والمثل والقيم الحضارية
>[6] .
ونود التأكيد، على أن السنة النبوية المطهرة جزء رئيس من هـذه الأصول:
[ ص: 84 ] ( وما ينطق عن الهوى *
إن هـو إلا وحي يوحى ) (النجم: 3،4) . كما أن المعرفة الناتجة عن الاجتهاد الفقهي، من قبل العلماء المعتبرين، يمثل رافدا من روافد المعرفة، المكونة للعقل.
وفي تناوله للنظام المعرفي ، الذي يتشكل في العقل، يرى
الجابري : أنه يعني جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات، تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما بنيتها اللا شعورية
>[7] . وعلى هـذا الأساس يرى الجابري: أن هـناك ثلاثة أنظمة معرفية في الثقافة العربية الإسلامية، وهذه الأنظمة هـي: النظام العرفاني ، والنظام البياني ، والنظام البرهاني .
لحدوث هـذا التحول العقلي الكبير، من الجهل إلى العلم، ومن الضلالة إلى البصيرة، والهدى، ومن التخمين إلى اليقين، كان للإسلام أن يضع منهجا سليما، تتم من خلاله عملية التحول هـذه، ويرى
عماد الدين خليل : أن المنهج الإسلامي، يأخذ ثلاثة اتجاهات: هـي السببية، القانون التاريخي، والمنهج الحسي التجريبي. والسببية تعني البحث في الأسباب، التي تكمن وراء الظواهر والحوادث الاجتماعية، والطبيعية، وعدم الاقتصار على النظرة السطحية البسيطة، بل لا بد من العمق والربط بين الأجزاء، والنظرة إليها ككل متكامل، إذ بدون النظرة التركيبية، لن يكون بمقدرة الإنسان معرفة الحقائق بل إن إحدى طرائق القرآن المنبثقة عبر سوره ومقاطعه من أقصاها إلى أقصاها، هـي التأكيد
[ ص: 85 ] على ضرورة اعتماد هـذه الرؤية السببية للظواهر والأشياء، من أجل الوصول إلى معجزة الخلق، ووحدانية الخالق سبحانه.. إذ بدون هـذه القدرة على الربط بين الأسباب والمسببات، فإن العقل المؤمن، لن يكون قادرا على التحقق بالقناعات الكافية
>[8] . ولنا في قصة
إبراهيم حينما طلب رؤية الله، فرأى القمر، ثم الشمس، فأفلتا، أكبر دليل على ضرورة استعمال العقل، وعدم الاقتصار على الظواهر، كما تبدو في ظاهرها، بل لا بد من الاستقصاء والتمحيص في كل الأمور.
الاتجاه الثاني، هـو القانونية التاريخية ، ونعني بها: القوانين والنواميس الكونية ، التي تحكم سير المجتمعات والأمم، فهي كغيرها من مخلوقات الله، لا تسير بغير هـدى وفوضى، بل إنها تسير وفق أنظمة تحكم قوتها، وضعفها، وجودها، وفناءها،
( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) (الحجرات: 13) . حيث يتم التعارف من خلال الزواج، اللغة، المصالح، المبادئ.. وغيرها.
ومن سنن الله في المجتمعات، أن تأتي أمة، وتفنى أمة أخرى
( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) (آل عمران: 140) . كما أن تغيير واقع المجتمعات، لا يتم اعتباطا، وبدون أسباب، سواء كان هـذا التغيير إيجابيا أو سلبيا. إذ يتم وفق مقتضيات معينة،
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد: 11) . وقد عرض القرآن الكريم قصص كثيرة من الأمم السابقة، مثل:
عاد ،
وقارون ،
فرعون ،
قوم صالح ،
قوم لوط ،
وقوم هـود .. إلخ، ليوجه العقل
[ ص: 86 ] للبحث في الأسباب، التي أدت إلى محق هـذه الأمم وهلاكها. ولنا في تاريخنا المعاصر الكبير من العبر الكثيرة، التي تعبر عن واقع بعض المجتمعات.
الاتجاه الثالث في المنهج الإسلامي، يقوم على الحس والتجريب، حيث إن الإنسان أمده الله، ومنحه مجموعة من الحواس القادرة على الإدراك، والملاحظة، والمتابعة، والتفاعل، مع ما يحيط بها، من ظروف ومتغيرات. مادية، واجتماعية، ونفسية. إن حواس الإنسان السمعية، البصرية، الشمية، الذوقية، اللمسية، تمكن الإنسان من إدراك المتغيرات، والتعرف عليها، وقد أكد القرآن في مواضع كثيرة، إلى ضرورة الاستفادة من هـذه الحواس، من خلال إطلاقها في هـذا الكون الفسيح للإدراك، ومن ثم التبصر والاعتبار.
( ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) (الإسراء: 36) .
وفي موضع آخر يقول جل شأنه:
( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت *
وإلى السماء كيف رفعت *
وإلى الجبال كيف نصبت *
وإلى الأرض كيف سطحت ) (الغاشية: 17- 20) .
في تحليله للعقل العربي، مقارنا بالعقل اليوناني الغربي، يرى
الجابري : أن النظام المعرفي للعقل الغربي، يقوم على ثلاثة عناصر هـي: الإنسان. الله، الطبيعة. إلا أن العلاقة الرئيسة تكون بين العقل والطبيعة مع الغياب النسبي لفكرة الله، وذلك في العقل الغربي. حيث يكون دور فكرة الله، من أجل تبرير وإضفاء المصداقية على المعرفة والقوانين، التي يكتشفها العقل في الطبيعة. أما في العقل العربي:
[ ص: 87 ] فالعلاقة بين الله والعقل، حيث إن الله يمثل مصدر المعرفة، التي يحصل عليها العقل، وهذا سيترتب عليه غياب الطبيعة
>[9] .
حسب قول
الجابري .. هـذا الطرح يحتوي على مغالطة كبيرة، فالأمر يحتاج إلى التفصيل في نوع المعرفة. فالمعرفة الغيبية، لا شك أن مصدرها هـو الله سبحانه، والبشر يتلقونها من الله، وذلك من خلال الوحي والرسول. أما المعرفة الخاصة بالقوانين والسنن الكونية والطبيعية فإن الله يدعونا، وكما سبقت الإشارة، إلى التمعن، النظر، والتبصر، واستخدام الحواس، وإعمال العقل لمعرفتها، والخروج بحقائق حولها. وعليه سيكون غياب الطبيعة في النظام المعرفي الإسلامي، أمر غير وارد، وهذا خلاف ما يراه الجابري.
ترى بعد هـذه الهزات العنيفة، التي أحدثها الإسلام في العقل العربي والتي تناولت ثوابت أساسية، لم يكن يخطر على بال أمرىء تغييرها، كيف سيكون عليه العقل العربي بعد هـذه التحولات؟ وما أهم الملامح التي تميزه؟.
إن ملامح هـذا التحول تتمثل في أمور شتى، ومتعددة، ومنها على سبيل الأمثلة لا الحصر، عقلية الوحدة، ونقصد الأمة بمفهومها الرحب والواسع، لا وحدة القبيلة فقط، وحدة المسلمين أين ما كانوا، وكيفما كانوا في ألوانهم، وألسنتهم، وأوضاعهم الاقتصادية، والاجتماعية. لا يفرقهم لون ولا جنس، ولا لسان، ولا طبقة.
( واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم [ ص: 88 ] بنعمته إخوانا ) (آل عمران: 103) .
وينبثق عن هـذه الميزة، ميزات أخرى على صعيد العقل، فيما يتعلق بأموه الاجتماعية. فالمسلمون مطالبون بالعمل الجماعي، (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا)
(المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوا تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) . ومن ملامح هـذا العقل، عقلية الإيثار والتعاون،
( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) (الحشر: 9) .
الإسلام ثبت في عقل الإنسان العربي، دعامة مهمة وأساسية، وهي حب العمل، والحض عليه:
( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) (التوبة: 105) .
ومن الأمور التي نسفها الإسلام في تركيبة العقل العربي، التقليد والسير على ما سار عليه الآباء والأجداد، حتى ولو كان على غير هـدى، ولذا عاب الإسلام على العرب، تقليدهم لآبائهم:
( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) (المائدة: 104) .
وفي هـذا الإطار يؤكد الإسلام على التثبت واليقين، ونبذ الظن كاسأس للعلم والمعرفة،
( وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) (النجم: 28)
( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ) (الحجرات: 6) .
كما يأتي في سياق سلامة المعرفة، استبدال الحكم القائم على الحق والنظرة الموضوعية، بالنزعة الذاتية، والهوى في الحكم على الأشياء،
[ ص: 89 ] ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ) (المائدة: 49) .
ومن الثوابت التي أكدها الإسلام وأصلها، في عقل الإنسان المسلم الجهد الفردي، والنشاط والحيوية والذاتية، حتى لا يكون الإنسان عالة على غيره.
( بل الإنسان على نفسه بصيرة ) (القيامة: 14) .
إن مجمل هـذه القواعد والمبادئ، تؤكد أن الإسلام أراد أن يوجد عقلا جديدا، في منظموته المعرفية، وفي أسلوب وطريقة تفكيره، ومن ثم في عطائه وإبداعه. عقل يتفاعل ويستلهم، يتلقى الثقافة والحضارة، ويفهمها ويستوعبها، ومن ثم يحرك فيها ويبدع وينجز، وعليه لن يكون هـناك مجال للجمود والخمول، وهذا هـو بالفعل ما حدث في عقل الإنسان العربي، حين تمكن في بداية الأمر من الاستضاءة بإشراقات المعرفة الإسلامية.
[ ص: 90 ]