العقل العربي وإعادة التشكيل

الدكتور / عبد الرحمن الطريري

صفحة جزء
العقل العربي: نظرة تحليلية على الصعيد المحلي

في تحليلنا للعقل العربي، على الصعيد المحلي، لا بد من الإشارة إلى أنه من الصعوبة بمكان الفصل بين بنية العقل في تناوله للأمور والشئون العالمية، وبين بنية العقل في تعامله مع القضايا المحلية. إلا أن عملية التقسيم، جاءت من أجل التبسيط في معالجة واقع العقل العربي، بالإضافة إلى أن التعامل مع القضايا، يعتبر نسبيا من حيث درجة الاهتمام، والتركيز، والمعالجة، فالعقل هـو العقل، بصورته العامة، وتكوينه القائم على أسس وخبرات، قد تكون على درجة من الصلابة والجودة، أو تكون هـشة، بسيطة، أميل إلى السذاجة والسطحية، وهذا دون شك، سينعكس على واقع العقل العربي، وتكوينه.

تبين لنا في عرضنا للعقل العربي على الصعيد العالمي، القوى، والمؤثرات، والمبادئ النفسية، التي تسهم في صياغة العقل العربي، وتشكله، بالإضافة إلى واقع العقل العربي في نظرته، وتحليله، وتعامله مع القضايا، والأمور المحيطة به، عالميا، وبالمثل يوجد قوى وعناصر ومرتكزات نفسية، أسهمت، وتسهم في تشكيل العقل العربي، على صعيده المحلي.

الجو العام، الذي يميز المجتمع له تأثير قوي على عقول الناس، فمن خلال الجو العام، يمكن التمييز، بين الحق، والواجب، [ ص: 118 ] وبين الملكية العامة، والملكية الخاصة، وبين النظام والفوضى، وقد تكون الحدود بين هـذه الجوانب واضحة، ومميزة في مجتمع من المجتمعات، إلا أنها قد تكون خلاف ذلك في مجتمع آخر، وهنا سيكون الاجتهاد والعبث هـو السائد، إذ أنه لا يمكن إقناع الناس، بأن هـذه ممتلكات عامة، عليهم الحفاظ عليها، واحترامها، كما لا يمكن أيضا إقناعهم باحترام النظام، إذا كان خرق النظام، والتلاعب به هـو القاعدة السائدة، ويمارسه من أوكل إليهم حفظ النظام ورعايته.

تصور أن مجتمعا من المجتمعات، تتغلغل الواسطة فيه، في كل أمر من الأمور، صغر أو كبر، وهذه حقيقة قد تنطبق على بعض المجتمعات العربية ماذا سيكون عليه حال الناس في مثل هـذا المجتمع، الحال سيكون أن هـؤلاء القوم تجسد لديهم الإحساس، بأن أمورهم لا يمكن قضاؤها إلا من خلال الواسطة >[1] ، في هـذه الحال عليهم البحث عن صديق، أو قريب، أو التقرب من شخص ذو مكانة في المجتمع، كي يأمر صاحب المسئولية، فينجز الأمر. خطر مثل هـذا الجو، هـو أن الناس سينصرف تفكيرهم عن الإجراءات النظامية، ويركزون على الطرق غير النظامية، وغير الشرعية في كثير من الأحيان، ولذا نجد المثل الشعبي يقول: (عسى في كل خرابة لنا قرابة) حيث يؤكد [ ص: 119 ] هذا المثل الحالة التي عليها الناس، حينما يكون التوسط شائعا، بل قاعدة تسير المجتمع في كل نشاطاته، وفي مثل هـذا الوضع تفقد اللوائح، والأنظمة، والمؤسسات هـيبتها، ودورها، ويحل محلها العلاقات الشخصية، والمعرفة، وهذا سيكون على حساب الحق، والكفاءة، ومن ثم الإنتاجية والعطاء.

الواقع الاجتماعي أو الأرضية الاجتماعية، تشكل إطارا، يحدد الكيفية، التي يدرك بها الأفراد متغيرات الحياة، فالصورة العامة، أو الكلية، كما في مصطلح مدرسة الجشطلت النفسية، تلعب دورها في التأثيرعلى كيفية الإدراك، قد تكون الصورة العامة مشبعة ومليئة بالتجاوزات والأخطاء، ولكن تصور هـذه الأشياء على أنها أمور طبيعية، وحسنة، ومن هـنا ينظر لها الناس وفق هـذا المنظار، دون أن يكون هـناك ردود فعل سلبية، نحو هـذه الأشياء، وعلى هـذا الأساس تنقلب الصورة في أذهان الناس، ويختلط الحابل بالنابل، كما يقول المثل.

إلهاء الناس بالشعارات، أسلوب من الأساليب، التي تنطلق منها الكثير من الحكومات، حيث تجد أن رائحة الشعارات الفضفاضة، والبراقة، تفوح من وسائل الإعلام، وغيرها، من خلال تصريحات الرسميين، ورجال النخبة. وكم كانت الشعوب العربية، وما تزال، تعاني من هـذا الوضع، فالشعارات مادة يتم من خلالها إلهاء الشعوب، وتذويبها، والقضاء على طموحاتها، ومتطلباتها. ويختلف الأمر من مجتمع لآخر، فقد يرفع في مجتمع شعارات الحرية والديمقراطية، [ ص: 120 ] وهو أبعد ما يكون عن ذلك، وقد ترفع شعارات الأمن، والعيش الرغيد، في مجتمع آخر. كما أنه قد ترفع شعارات القومية، والوطنية في مجتمع ثالث. وهكذا فقد يكون من الشعارات أيضا رفع شعار الإسلام، وترديده في كل مناسبة، أو لقاء، وفي كل تصريح، أو مقابلة، وذلك للاستهلاك المحلي، والإقليمي، أو حتى العالمي، وذلك لأهمية البعد الديني، وقيمته، وتوغله في نفوس الناس، وعلى هـذا الأساس يأتي ترديد الشعارات المرتبطة به علما أن هـذه الشعارات، قد تكون فارغة المحتوى تماما، لو تمت مقارنتها بواقع المجتمع السـياسي، والاقتصادي، والثقافي، والاجتماعي، ولكن كما تم القول: هـذه الشعارات تؤدي دورا استهلاكيا، يلهي الناس ويصرف انتباههم، عن التفكير في الواقع، بل ويقنع السذج منهم بصحة هـذه الشعارات.

خلال السنوات الماضية، تعرض العقل العربي إلى عملية تسفيه، ممعنة في التردي، وذلك من خلال لخبطة الأولويات، وعدم وضوحها لدى الإنسان العربي، حيث إنه لم يعد قادرا على التمييز بين ما هـو في عداد مصلحة الأمة، أو المصلحة العامة، وبين ما هـو في عداد المصالح الذاتية. تقام الحروب، وتشعل لسنوات طويلة، تهدر الأموال، تزهق الأنفس البريئة، يدمر الاقتصاد، تقام العلاقات وتقطع، تشن الحملات الإعلامية، وتوقف، أعداء الأمس أصدقاء، وإخوان اليوم، تقدم الهبات المالية، والمعونات لدول، وتوقف عن أخرى، كل هـذه الأشياء، تحدث دون أن يكون للإنسان العربي، فرصة [ ص: 121 ] للتفكير، أو التساؤل، لماذا هـذه الأشياء، وما الأهداف التي تتوخى خدمتها وتحقيقها ؟

خلال العقود الماضية كدس السلاح، في قواعد الدول العربية، أنفقت مليارات الدولارات على أمل محاربة إسرائيل ، وهزيمتها، ولكن الذي حدث، أن الحروب اشتعلت بين الدول العربية ذاتها، والذي حدث هـو هـزيمة دول عربية، من قبل دول عربية أخرى، والتشفي بها، وبواقعها

كم هـو مخز ومخجل، حينما تصور الهزائم على أنها انتصارات، لماذا انتصارات؟ لأن العدو فشل في قتل الزعيم الفلاني، أو إسقاط النظام الفلاني. تقدم هـذه الأشياء، وكأنها حقائق لا تقبل الجدل، بينما العقل العربي، يستمر في بلاهته وسدره.

كم هـو مخز، حينما تقام الأحلاف، والمعاهدات العسكرية، على الأرض العربية، والنتيجة أن يكون العرب هـم ضحايا هـذه الأحلاف؟

كم هـو مخز، حينما تبذل الجهود والاستعدادات، ولكن في النهاية توجه لقتل الإنسان العربي، وكأنه لا يوجد عدو متربص على أرض فلسطين؟

كم هـو مخز ومخجل، في الوقت نفسه، حينما يوجه الإعلام لخدمة سفاسف الأمور، وتهمل الأمور الجهورية والأساسية؟

وأخيرا كم هـو مخز ومخجل، حينما تصرف الأموال الطائلة على أشياء، أقرب ما تكون إلى القشور، وتهمل المرافق العامة كالطرق، [ ص: 122 ] المدارس، المستشفيات، المصانع، الزراعة، والجيش.. إلخ ؟ باختصار قائمة الأولويات في العالم العربي، لا تقوم على أساس شرعي، أو علمي، أو موضوعي، بل ترتب وفق ما يخدم مصالح خاصة، لزعيم، أو نظام سياسي. ولذا فهي تتغير، وتتبدل، بما يخدم هـذه المصلحة ويحققها.

أثر الهالة معروف لدى علماء النفس، وقدم تم استغلاله من قبل النخبة، في المجتمع العربي، وذلك لإضفاء صورة جديدة، وغير حقيقية، حول فرد أو نظام، على أن تكون هـذه الصورة براقة، وجذابة، ومحببة للنفوس.

الهالة تكون بعدة صور من خلال الكلمة، الصورة، السلوك، الملابس، الإجراءات المتبعة لمقابلة شخص، أو الحديث معه، سكن الشخص، أو مكتبه، والأبهة التي يتمتع بها الخدم، والحشم المحيطين بالفرد، العبارات والجمل الرنانة، والخطب الحماسية والنارية.

ويدخل ضمن إطار أثر الهالة استخدام الدعاية، بشكل شعوري أو لا شعوري، من أجل خلق صورة عقلية جديدة، لدى جموع من الناس، وتغيير آرائهم، وأفكارهم، وقيمهم، ومن ثم سلوكهم، وتصرفاتهم. وقد تكون هـذه الدعاية من خلال الخطب، والصور، والرسوم الكاريكاتورية، والكتب، ككتب التاريخ، والقصص، والأفلام، والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، حيث تحشد فيها أحكام مسبقة، غير قابلة للمناقشة، مثل عبارات المديح، والثناء، [ ص: 123 ] والبطولات، والكرم، والشجاعة، والحكمة، والدهاء.

وتقوم هـذه الأحكام على أسس نفسية، قوامها عملية الإيحاء، والمنطلقة من أن ما يقدم من معلومات، وآراء، وأفكار ذات ارتباط أساسي، وجوهري، بالمعتقدات الراسخة لدى الناس، أو عموم المجتمع.

إن النتيجة الحتمية للدعاية هـي إعطاء صورة وهمية، لكنها في نظر الناس، تعتبر حقيقية، لا تقبل المناقشة، وعليه تتمحور مشاعرهم، وأحاسيسهم، حول هـذه القضايا، التي تقدمها الدعاية الموجهة لخدمة الفرد، أو الحزب أو النظام.

الشائعات تلعب دورا مهما في كثير من المجتمعات، من خلال الشائعات، يتم التلاعب في مشاعر الناس، وأحاسيسهم، وكذلك توجيه تصرفاتهم، كما يتم من خلال الشائعات رصد توجهات الناس، وآرائهم، وأفكارهم حول بعض القضايا والأمور، وذلك من خلال رصد وتحليل ردود الفعل الناجمة عن إطلاق مثل هـذه الشائعة أو تلك. على سبيل المثال: قد تسري بين الناس شائعة مفادها أن هـناك زيادة في الرواتب، أو أن سلعة من السلع سيرتفع ثمنها، مثل هـذه الشائعات تعطي مطلقها سواء فرد أو جهة رسمية، فرصة لمعرفة الاحتياجات، والتطلعات الفعلية، لدى الناس وعليه يتم اتخاذ إجراء معين، أو سن سياسة معينة. الشائعة سواء كانت ذا طابع سلبي، أو إيجابي، تؤدي دورها الفعال في إشغال الناس، وصرف انتباههم، [ ص: 124 ] واهتمامهم، نحو قضايا وأمور تعتبر أقل أهمية من أمور أخرى، فلو قدر أن بلدا يمر بأزمة سياسية، ويتعرض نظامه لخطر ما، فلا مانع من إطلاق شائعة، تصرف أذهان الناس عن المشاكل، التي يعاني منها، ويتعرض لها ذلك النظام، الشائعة بالطبع تطلق بتوقيت معين، وبأسلوب معين، حتى تؤدي غرضها، والهدف المرجو منها، ولذا فبعض المجتمعات أصبحت مسرحا للشائعات، خلال فترات من تاريخها، وفق ما تمر به من صعوبات، وأزمات سياسية، واقتصادية وتنموية.

المجتمعات العربية أصبحت هـدفا ومسرحا للشائعات، وقد عني خبراء الشائعات في العالم العربي بالربط بين الشائعات، واحتيجات وتطلعات، ومشاكل المجتمعات العربية. فعلى سبيل المثال قد تكون الشائعات موجهة لإحداث تغيير اجتماعي، غير مقبول، أو مرفوض، فمثلا قد يكون دور المرأة في المجتمع، أو وضعها الاجتماعي هـدفا من أهداف الشائعات، التي تطلقها الجهات الرسمية، بغرض إلهاء الناس وصرفهم عن قضايا وأمور مهمة، وذلك كلما تعرض النظام لأزمة، أو مشكلة، أو أصبح مهددا من قوى داخلية.

باختصار.. الشائعة تحدث البلبلة والفوضى، في صفوف المجتمع، كما أنها تفتت الجهود الموجهة لقضية من القضايا، وذلك لما تحدثه من صدمة نفسية، وتشتت ذهني، وما تخلفه من مشاعر وأحاسيس جديدة، متعلقة بالموضوع الجديد، الذي تم إطلاق الشائعة من أجله.

إشغال الناس لا يقتصر على الشائعات، ولكنه يتعدى إلى بعض [ ص: 125 ] الأفعال والأعمال، لا سيما إذا كان الظرف حساسا، وحاسما، بالنسبة للبلد أوالنظام. ومن الأعمال التي يتم الترتيب والتنظيم الرسمي لها بصورة غير مباشرة، أو مباشرة، المهرجانات، والاستعراضات الثقافية، وكذلك المظاهرات، والمسيرات المطالبة ببعض الإصلاحات، أو الحقوق، أو المنددة ببعض الإجراءات والسياسات. حتى إن بعض الدول التي لا يوجد في أنظمتها ما يجيز المظاهرات، تعمد إلى تنظيم شيء من هـذا القبيل، بغرض إشغال الناس وإلهائهم، لفترة من الزمن، وكي تكون المظاهرة حديث المجالس، والمنتديات، وتصرف جهودهم وأذهانهم عن التفكير في الأمور الأساسية، والأوضاع الحرجة، التي يمر بها البلد أو المجتمع.

من الممارسات، التي دأبت جماعة النخبة السياسية في العالم العربي على استخدامها مع الشعوب، هـو إعطاء الوعود، والمزيد من الوعود، مع تكرار هـذه الوعود، في أوقات الأزمات والظروف الحرجة، وذلك بغرض استرضاء الناس، والتقرب منهم، وتبديد مشاعر الإحباط والتثبيط التي تصيبهم. وعلى سبيل المثال، قد تكون هـذه الوعود على شكل إصلاح سياسي، وقد تكون شكل تحسين للأوضاع المعيشية والاقتصادية، وقد تكون على شكل استبعاد لعناصر معرفة معروفة بفسادها الإداري والأخلاقي، أو قد تكون على شكل إصلاح في النظام الاقتصادي، والمالي في البلد، ولا شك أن مثل هـذه الوعود، تحدث أثرا عند الناس، أو عند بعضهم على أقل تقدير، فهي تقلل من مطالبتهم بهذه الأشياء، طالما حصل وعد بذلك، وهي كذلك تحد من نشاطهم [ ص: 126 ] وأفعالهم، كما أنها تبدد مشاعر الغضب، وتقلل من حملات الانتقاد. وقد تتحول هـذه الوعود، أو جزء من هـذه الوعود، ولو بصورة شكلية، إلى عمل وفعل، وهذه تندرج ضمن ما يمكن تسميته بسياسة الإسفنجة، حيث يتم امتصاص مشاعر العداء والكراهية، وذلك من خلال بعض الإجراءات، التي تحقق رضا الناس، وقناعتهم، ولو لفترة وجيزة حتى يتم استعادة الأنفاس، وترتيب الأوضاع من جديد، وبالصورة التي تخدم مصلحة النظام، أو الفرد القائم على الأمر.

إن التعامل مع العقل العربي على الصعيد المحلي، ومحاولة ترويضه، وإعداده بالصورة المتناسبة مع مصلحة النخبة السياسية، تستدعي الغموض في التصريحات، والأفعال، حتى تكثر الاجتهادات والتفسيرات، التي من شأنها معرفة هـذا التصريح، أو ذلك الفعل، وقد تكون المحصلة في النهاية تصب في مصلحة النخبة السياسية، إذ أنه لا يمكن أن يدان بأمر من الأمور طالما أن تصريحه، أو فعله، اتسم بالغموض، وعدم الوضوح. كما أن الغموض في التصريح، أو الفعل يبدد ما قد يسري من أخبار أو شائعات في الأوساط الاجتماعية، وعندها يكون في غموض العبارة مجال للنقاش، والتساؤل من قبل عامة الناس، أو الفئة المستهدفة في التصريح أو الفعل، ويترتب على ذلك إحلال معلومة، بدل معلومة، ورأى نتيجة هـذا الغموض وعدم الوضوح.

سياسة فرق تسد الاستعمارية، التي تمت الإشارة لها، عند الحديث عن العقل العربي، على الصعيد العالمي موجودة، ويعمل بها على [ ص: 127 ] الصعيد المحلي. لقد شقيت الشعوب العربية كثيرا، من عملية تصنيفها إلى فئات، وطبقات قائمة على اللهجات، أو المناطق، أو الانتماءات العرقية، أو المستوى الاقتصادي والاجتماعي. لقد تعود الإنسان العربي، أن يسمع في قاموسه السياسي: فلان من منطقة كذا، وفلان من المكان الفلاني، وهكذا. لقد تردد في أسماعنا كثيرا مصطلحات تصنف الأفراد إلى متزمتين، وإلى أصوليين، وإلى علمانيين، وإلى قوميين، حتى تحولت الشعوب إلى جيوش، يحارب بعضها بعضا، ويكون العداء لبعضها الآخر، وتناسوا أنهم يجب أن يكونوا أمة واحدة، يدينون، ويعتقدون بدين واحد، ويعملون لهدف، أو أهداف واحدة. لقد حلت العداوة والشقاقات، محل الإخاء، وحل الشك محل الثقة، واستبد الخلاف واستفحل. من الذي يجني ثمار مثل هـذه الأفعال؟.

لا شك أن النخبة السياسية التي تعمل على إيجاد هـذه الخلافات، وتأجيجها بين فينة وأخرى، هـي الكاسب الوحيد، أما الخسارة فهي للشعوب، وللأمة بشكل عام.

كنتيجة لهذا التقسيم الطبقي، والإقليمي، والثقافي، والاقتصادي، وجدت طبقات طفيلية اعتمدت النفاق الاجتماعي، أسلوب حياة تتقرب من خلاله للنخبة السياسية، وتجني من وراء هـذا العمل الكثير، من المكاسب المادية، والمعنوية. وبحكم التركيب النفسي لهذه الفئات فقد لجأت إلى أساليب ممعنة في القذارة كالدس، والإساءة وتشويه سمعة الآخرين، ونقل الأخبار الكاذبة، وتصوير الأمور بغير [ ص: 128 ] صورتها الحقيقية، وقلب الأكاذيب إلى الحقائق، والحقائق إلى أكاذيب، حتى أصبحت المجتمعات العربية أشبه ما تكون بالغابة، بعضها يفترس بعضها الآخر.

ومن المؤسف أن بعض المحسوبين على المثقفين، والمتعلمين، هـم من هـذه الفئة، فأصبحت الوشاية مهنة لهم، والنفاق الاجتماعي علاقة وسمة مميزة لهم. ومن خلال الفئة التي تسعى فقط لمصالحها الذاتية، صورت الأخطاء والعيوب على أنها مكتسبات للأمة، واعتبر التراجع الاقتصادي، والاجتماعي، تقدما، ونظر للأمية والجهل والمرض على أنها قفزات حضارية.

من خلال هـذه الفئة، تم تجاوز المبادئ والمرتكزات الاعتقادية والحضارية، وبجهود هـذه الفئة، شوهت الثقافة، ومزقت القيم، وأهينت كرامة الأمة، وأحدثت فوضى فكرية، وبلبلة عقائدية. ترى أين هـذه الفئة التي ربطت نفسها بوثاق من حديد، لتكون عامل هـدم وتمزيق وتشتيت للأمة، من سلف هـذه الأمة، الذين ينظرون برؤية ثاقبة، لا تحجبها المصالح الدنيوية، وهم بذلك يعرضون أنفسهم للمحن، والابتلاء، بمواقفهم الشجاعة. هـا هـو أبو حنيفة يرفض القضاء، حينما دعاه والي العراق سعيد بن هـبيرة في أواخر الحكم الأموي، إذ أدرك بعين بصيرته أن هـذا الوالي وخلفاءه، يريدون أن يتخذوه وأمثاله من العلماء مطية للشر، ومركبا للخطر، إذ يتخذونهم للقضاء، فيعلمون الناس، أن رجال الفقه، وحماة الشريعة، يؤيدون حكمهم الطاغي، ويباركون عهدهم الظالم، وقد كان رد أبي حنيفة صريحا: والله لو أراد ابن [ ص: 129 ] هـبيرة ، أن أعد له أبواب مدينة واسط ، لم أدخل في ذلك، فكيف وهو يريد أن يكتب بضرب عنق رجل مؤمن، وأختم أنا على ذلك الكتاب، والله لا أدخل في ذلك أبدا >[2] .

هذه الفئة الطفيلية الخاصة بحكم ما تحوز عليه، من معرفة، واطلاع، وبحكم النظرة الاجتماعية التي تعتبرها فئة علم، بالإضافة إلى ما تتمتع به هـذه الفئة من تمكين، وبيان، وقلم، استطاعت هـذه الفئة أن تسهم في تجهيل العقل العربي، وإيراده موارد الضلال، والتيه، حتى أصبح لا يميز بين الغث والسمين، ولا بين الحق والباطل، وأصبح واقع العقل العربي ينطبق عليه قول المتنبي ، حينما حذر من أن يظن أن بروز أنياب الأسد ابتسامة، وأن الشحم والعافية ورم وانتفاخ غير طبيعي.

الأساليب والتكتيكات ، التي تم عرضها فيما مضى، تكشف لنا الكيفية التي من خلالها تم تكوين، وصياغة العقل العربي، ليتسم بسمات معينة، ومحددة سلفا، وبما يخدم مصالح محددة، وليدرك الأمور والمتغيرات من حوله بالطريقة المؤدية إلى خموله، وكسله، وتراجعه، وبالفعل فقد أثمرت هـذه الأساليب، والطرق، مجموعة من السمات، والخصائص، التي اكتسبها العقل العربي، عبر مراحل التجهيل هـذه، ومن أبرز معالم العقل العربي على صعيده المحلي، هـو اتسامه بسمة المذلة والخنوع، كنتيجة لحالة السحق النفسي، التي يعيشها، نتيجة الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والثقافية، [ ص: 130 ] حتى إن إدراكه لموقعه في المجتمع، أصبح غير واضح له، وليس له دور في تحديده، لأنه لا الكفاءة، ولا المؤهل، سيشفعان له في ذلك، بل إن ما يشفع له، ويقربه، هـو سلوك التذلل، والخضوع التام، والتقريب بعبارات المديح، والثناء الكاذب.

وقد ترتب على هـذا الوضع، أن مسخ عقل الإخلاص والرؤية السديدة، وحل محله عقل التملق، والخداع، والكذب، والتزلق. يضاف إلى ذلك، إحداث ما يمكن تسميته: بعقل الإنقاذ والطاعة العمياء، والذي لا يسمح لنفسه بمناقشة الأمور، وتحليلها، أو التساؤل، ولكن يجب أخذها كما هـي، ودون تكليف للنفس بالدخول في متاهات التفاصيل، والسبب والنتيجة، والحق والباطل، والمقبول واللامقبول، والجائز وغير الجائز، والنافع والضار، فهذه أمور لا تعنيه، ولا يجب عليه الاهتمام بها، أو الدخول في غمارها. ومثل هـذا الوضع، ينطبق عليه تشبيه الأمعات، التي تسير دون هـدى وبصيرة واضحة.

لقد نتج عن مثل هـذا الواقع، تشكيل عقل، لا يعتبر أن له حقوق، لكنه يدرك، أن ما يحصل عليه تفضل ومنة من الآخرين تستوجب الشكر، والثناء لهم، حتى إن مفهوم الواجب اختلط في أذهان الكثير من الناس، ولم يعد بمقدورهم إدراك وتمييز الواجب، والعمل من أجله ولا إدراك الحقوق، وتحديدها، والمطالبة بها، والسعي من أجل تحقيقها. في هـذا السياق لقد أفرزت معارك هـدم العقل العربي التي أشرنا إليها عن إيجاد أشخاص يظنون أنهم غير قادرين على العمل، وما عليهم في هـذه الحالة إلا انتظار عطاء الآخرين، وكرمهم، [ ص: 131 ] وتصدقهم عليهم. قد يكون من المناسب استحضار صورة ذهنية لشخص ترتسم على وجهه علامات التعاسة، ويسيطر عليه اليأس والخذلان، ينظر للآخرين نظرة استكانة، ومهانة، يتطلع إلى عطفهم وشفقتهم عليه، شعورا منه بالعجز، ويقينا ترسخ لديه، من أنه لا يمكنه إسعاف ذاته، والوقوف على رجليه، والاعتماد على جهوده الذاتية.

لقد تبين لنا، ونحن نعرض عقلية الإنسان العربي، على الصعيد الدولي، كيف أن إحالة قضايانا وشئوننا للآخرين كي يحلوها، أو ينفذوها، أصبح عرفا سائدا، وتقليدا معتبرا، وما وضع العقل العربي على صعيده المحلي، إلا امتداد لما أصابه على الصعيد العالمي. ولذلك لم يعد للإبداع أي مكان يحتله داخل العقل العربي، حيث تحول إلى عقل يستهويه الاستهلاك، هـذه الصورة، تمثل حال الأمة بكاملها، وهي تستجدي على عتبات الأمم المتحدة، وفي المنظمات الدولية الأخرى.

إن التلقي من الآخرين وتقليدهم في ضروب الحياة المختلفة، لم يعد أمرا مكروها، أوغير محبب، لقد تحول إلى نمط حياة مرغوب، وجذاب، مما ترتب عليه انتقال أنماط سلوكية، وطريقة تفكير خاصة، وعادات في المأكل، والمشرب، والمسكن، والمركب.. إلخ. من فئة اجتماعية إلى فئة أخرى، دون وعي، أو محاولة لفهم، ما يمكن أن يترتب على مثل هـذه الأشياء من ضرر، على الصعيد الفردي، والعائلي، ومن ثم الاجتماعي، بشكل عام. حالة التقليد والمحاكاة هـذه أوجدت أفرادا ينطبق عليهم المثل الصيني: لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم، حتى إن حالة النقد الموضوعي، لم يعد لها وجود، [ ص: 132 ] في المجتمعات العربية، وأصبح من يريد إظهار نفسه بمظهر الناقد الحريص، على الأوضاع العامة، يقدم مديحا وثناء، بما يشبه الذم، فهو في كلمة منه أو عبارة يوحي بالنقد، ولكن المتمعن والمستكمل للموضوع، يجد المدح هـو الفكرة التي تستقر في الذهن، عند نهاية المطاف.

لقد اكتسب العقل العربي خاصية سلبية، تمثلت في إصراره على اعتبار أن ما تحقق، هـو أقصى ما يصبوا إليه، وأن الأمور بوضعها الحالي، تمثل وضعا مثاليا، لم تصله الدول والشعوب الأخرى. إن هـذه الخاصية السلبية، تعبر عن نفسها، من خلال تكرار عبارات، من قبل: ليس بالإمكان أفضل مما كان، وكل شيء على ما يرام. لقد ترك هـذا الوضع العقلي انطباعا لدى الإنسان العربي، أنه ليس بحاجة لبذل الجهد، وتقصي الأمور حقيقتها، ومعرفة الجوانب الإيجابية، والسلبية، وكرديف لهذه الخاصية، ومعرفة مفهوم ما يسمى بسددوا وقاربوا، وبشكل لا يتناسب مع مفهومه الحقيقي، كما وضحه الرسول صلى الله عليه وسلم ، والذي يقتضي بأن تكون الرمية أو الرأي موجهة بشكل دقيق وسليم، حتى يتحقق الهدف. لقد رفع شعار سددوا وقاربوا بصورته الخاطئة، في وجه بعض الأصوات المنادية بالإصلاح، بين فئة وأخرى، والتي تنطلق من أفراد معدودين، وفي فترات غير متقاربة أيضا.

الدافعية للإنجاز، والعمل، والعطاء المثمر، تم تحطيمها، إن لم يكن القضاء عليها تماما، لأن كل شيء يصور على أنه على ما يرام، ولا يمكن تحقيق أفضل منه، إذن الرسالة التي تستقر في النفس، هي أنه لا [ ص: 133 ] داعي للجهد، أو مزيد من النشاط، لأنه لن يحقق أفضل، مما هـو متحقق في الوقت الحاضر.

استعراض المنجزات، والتباهي بها، أصبحت هـي الأخرى سمة مميزة للعقل العربي، على الصعيد الفردي، وعلى الصعيد الرسمي، وقد يكون هـذا الشيء محدودا، إذا أريد به تقوية الثقة بالذات، ورفع المعنويات، وإذا استخدم بحدود معقولة، ومدروسة، ويقدم وفق أسس علمية سليمة. أما إذا أصبح على حساب الموضوعية، واستخدم للتغطية على الأخطاء والهفوات، ففي هـذه الحالة يكون الأمر عيبا، لأنه يخدع الناس، ويصور لهم، أن ما وصلوا إليه هـو الغاية، والمنتهى، وليس هـناك من حاجة لبذل مزيد من الجهود. كما أن الاستعراض للمنجزات، يصرف الأنظار عن العيوب، ويجعل الناس، وكأنهم في حالة خدر، لأن ما تم إبرازه لهم هـو ما أنجز، دون ذكر العيوب الموجودة فيه، ودون إشارة إلى ما يجب إنجازه، أو ما خطط لإنجازه.

هذا العقل الذي يهمه إبراز ما تحقق، يتكون لديه ميل إلى أن يسمع ثناء الآخرين، ومدحهم، لأن في ذلك إطراب، وإسعاد له، حتى إنه أصبح من بين التقاليد الرسمية في البلاد العربية، أن نأخذ الضيوف بجولة حول المدينة، أو البلد، مع إصرار أن يكون ما يشاهده هـي تلك الأماكن، التي نظن أنها ستنال إعجابه، ومن ثم يحصل بناء على ذلك، مديحه وثناؤه، ولذا تجدنا نتلقف أي كلمة مدح، وثناؤه، تصدر منه، لنخرجها من خلال وسائل الإعلام، وقد ارتدت أفخر حلى البلاغة والبيان، وحازت على مساحة، ووقت، ليس بالبسيط. وأبرزت في عناوين كبيرة وجذابة. [ ص: 134 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية