المطلب الأول
مأزق تمويل التنمية وإهمال تعبئة الفوائض المحلية
تعيش أمتنا مشكلة التخلف الاقتصادي، تلك المشكلة التي طفت على سطح حياتنا إثر خروجنا من الدائرة الاستعمارية التقليدية، وتستحق هـذه المشكلة أن تتضافر كل الجهود للتخلص منها. وعند إمعان النظر في الدروس المستخلصة من تجارب ومحاولات النمو في بلادنا الإسلامية خلال نصف القرن المنصرم، يتبين لنا أن تمويل التنمية كان هـو المحدد الأساس لجهود التنمية، وأن هـذه البلاد قد بالغت في الاعتماد على التمويل الخارجي حتى وقع الكثير منها في مشكلة الديون الخارجية، التي لا تملك لها وفاء من ناحية، وتمتص خدمتها جل الثمار التي تحققت، إن لم تزد عليها، من ناحية أخرى.
وطبيعي في مثل هـذا الموقف - موقف العجز عن خدمة الديون الخارجية - أن تقبض المصادر الخارجية يدها، وأن تواجه البلاد المدينة صعوبة في الحصول على مزيد من التمويل الخارجي.
ومن هـنا، فإن على هـذه البلاد أن تهتم بالمصدر التمويلي، الذي كان يجب عليها أن تركز عليه من قبل، حتى لا تقع في شرك المديونية الدولية، الناجمة عن الاعتماد على التمويل الخارجي. هـذا المصدر هـو
[ ص: 37 ] الفوائض المحلية المتاحة، وتمويل التنمية داخليا، ببذل كل الجهود من أجل تعبئة رأس المال الداخلي، أي زيادة المدخرات الوطنية، وتوجيهها لتمويل المشروعات الإنمائية المطلوبة.
لقد غدت مشكلة الديون الخارجية - في ذاتها - مستغرقة لجهودنا، حتى لقد غطت على المشكلة الأصلية، وهي مشكلة التنمية الاقتصادية، وأصبحت التنمية مطلوبة، لا لرفع مستوى معيشة الشعوب، وإنما للتمكن من خدمة الديون، فكأنما شعوبنا تكافح وتبذل، ليستولي المال الأجنبي على ثمرة كفاحها وعائد بذلها، وما كان ذلك ليحدث لو أننا وجهنا اهتمامنا إلى تعبئة الفوائض المحلية، ووجهناها لتمويل التنمية .. تلك الفوائض التي ادعينا، جهلا أو عجزا، أنها غير كافية، وبررنا بهذا الادعاء، الاعتماد على التمويل الأجنبي للتنمية اعتمادا شبه كامل.
إن إهمال تعبئة الفوائض المحلية، واستسهال الحصول على الفوائض الأجنبية، هـو الذي أوصلنا إلى هـذا الوضع الحرج.. وليس الخلاص منه، في التمكن من جدولة الديون الخارجية، ولا في تخفيض أسعار فوائدها، أو تنازل الدائنين عن بعضها، فكل ذلك - وإن خفف من حدة المشكلة - لن يقضي عليها، ولا يحول دون تفاقمها مرة أخرى
>[1] [ ص: 38 ]
إن الخلاص من هـذا الوضع، يتمثل في القضاء على السبب الذي أدى إليه، وهو كما قلنا: إهمال تعبئة الفوائض المحلية.. وعلاج ذلك يكون بالاعتماد على النفس في تمويل التنمية ، وبذل الجهد الذي يكفل تعبئة الفوائض المحلية، وتوجيهها نحو المجالات المطلوبة، ولن نتمكن من تحقيق هـذه الغاية إلا إذا سلكنا إليها طريقا نستفيد فيه من العوامل الكامنة في نفسية إنسان مجتمعنا، تلك العوامل التي يستجيب لها إذا دعي بها، ولن نجاوز الحقيقة إذا قلنا: إن الإنسان في مجتمعاتنا إنما يستجيب إذا دعي باسم العقيدة التي يؤمن بها، والشريعة التي شكلت ثقافته على مر العصور.. ومن ثم فإن السياسات التمويلية، يجب أن تنطلق من هـذه العقيدة، وتلك الشريعة، فهي السياسات التي تتناسب مع ظروف المجتمع الذي نطلب تنميته. ولقد جربنا من قبل سياسات ادخارية تقوم على الإغراء بسعر الفائدة المرتفع، والذي وصل في بعض الأوعية إلى ما يربو على سعر الفائدة في بنوك لندن، وبرغم ذلك فشلت هـذه الأوعية، في استقطاب المدخرات الوطنية، وليس لذلك من سبب - مع القطع بأن الفوائض موجودة بكميات كبيرة - إلا تجاهل هـذه الأوعية وتجاهل القائمين عليها للعوامل المؤثرة في استجابة الناس، وإغرائهم بما يتعارض مع العقيدة التي يؤمنون بها. ومن ثم فلم تلق هـذه الإغراءات من غالبيتهم إلا التجاهل.. ولقد ترتب على إفراغ كل الجهد في نشر هـذه الأوعية، والدعوة إليها، أن أهملت الأوعية التي يمكن أن يستجيب الناس لها، بل لقد وصل الأمر إلى حد محاربتها في أحيان كثيرة، بزعم أنها هـي سبب إعراض الناس عن الأوعية الرسمية القائمة على ما يتعارض ومعتقدات الناس.
[ ص: 39 ]
ولم يحدث ذلك - في الحقيقة - إلا بسبب جهل القائمين على سياسات الادخار بالواقع الذي تطبق عليه سياساتهم، أو تجاهلهم لهذا الواقع، وهم في الغالب إما خبراء أجانب، قدموا من مجتمعات تختلف عن مجتمعاتنا في ثقافتها، وإما مواطنون قد انتقلت عقولهم بحكم التربية التي خضعوا لها، فأصبحوا لا يختلفون عن الفريق الأول في الجهل بثقافة شعوبنا، أو تعمد تجاهلها، ووضع الفريقان كل هـمهم في تطبيق السياسات التي طبقت في المجتمعات الغربية أو الشرقية، زاعمين لها صلاحية مطلقة، مرجعين فشلها البادي لكل ذي عينين إلى عيب في شعوبنا، وكأن على شعوبنا أن تتخلى عن هـويتها، وتترك خصوصياتها حتى تكون في وضع يسمح لها بالاستفادة من هـذه السياسات.
ولا شك في خطأ الدخول مع الشعوب في عملية إكراه لها، على التخلي عن خصوصياتها، والانسلاخ عن هـويتها، فلن تكون نتيجة هـذه المواجهة إلا ضياع فرص التنمية من بين أيدينا فرصة إثر أخرى. وأن الواجب على من وضع في مقام اختيار السياسات الإنمائية بصفة عامة، والسياسات التمويلية بصفة خاصة، أن يكون خبيرا بمن يطبقون هـذه السياسات، ومن تطبق عليهم، عارفا بما يقبلون منها، وما لا يقبلون، حتى يأتي اختياره متفقا مع مشاربهم، مستجيبا لما تحمله نفوسهم من قيم، وما تنطوي عليه جوانحهم من مبادئ ومسلمات. وإذا كان من المؤكد أن شعوبنا، إنما تكون في قمة استجابتها عندما تدعى إلى كتاب ربها، وشريعته التي ترى فيها العلاج الصحيح لكل مشكلاتها، فإنه يكون لزاما على من يطلب من الجماهير أن تعبئ طاقاتها لتمويل التنمية، أن يتقدم إليها بأوعية مشتقة من هـذه الشريعة،
[ ص: 40 ] وأن يلتزم في كل خطوات تعبئة واستخدام الفوائض، بتعليماتها تمام الالتزام.
هذا وإن الأوعية التي أرشد إليها القرآن الكريم، وأرشدت إليها السنة المطهرة كثيرة، وفي مقدمتها فكرة " العفو " ، التي تجعل كل ما يزيد عن كفاية الشخص مما لديه من إمكانيات، تجعله كله محلا للإنفاق على مصالح المجتمع
>[2] ، والأمر يقتضي العمل على ابتكار أوعية ادخارية مشتقة من هـذه الفكرة، التي إن بعثناها وأحييناها في نفوس الجماهير المؤمنة بالمصدر الذي قرر الفكرة، فلن يكون منها إلا الاستجابة، وعندها يمكن توفير المطلوب لتمويل التنمية بالاعتماد على جهودنا وإمكانياتنا الذاتية.
ومن قبيل الإسهام في بعث الفكرة وإحيائها في نفوس الناس، أن نتعرض لها بالبحث والدراسة، والتحديد، وبيان المضمون، وطريقة الاستخدام. فهذا يقربنا خطوة من بلوغ الآمال التي نصبو إليها، وهي أن تكون لنا قدرتنا المستقلة على ولوج ميدان الإنجاز، غير مقيدة بمشيئة الآخرين الذين إن رضوا ساعدوا، وإن سخطوا كفوا أيديهم، وقد علمنا الله تعالى أنهم لا يرضون عنا أبد الدهر، ما دمنا على طريق الحق الذي هـدانا الله إليه، وبه كل حوافز التقدم ودوافع الارتقاء. وإنه لمن العجز الفاضح أن تكون تحت أبصارنا، وفي متناول أيدينا، الأوعية الادخارية القادرة على تعبئة الفوائض، ثم لا نستطيع استخدامها في تعبئة هـذه الفوائض، وتوجيهها الوجهة الصحيحة لإنقاذها من المصير الذي يترقبها، إما بإنفاقها فيما يفسد من الترف وميادين العبث،
[ ص: 41 ] وإما ببقائها مكتنزة، لا تسهم في إنتاج، ولا تساعد على تقدم. ويصل العجز إلى حد الجرم الشنيع، عندما نعمد إلى استبعاد هـذه الأوعية عن قصد وتبييت نية، والحرص على استخدام أوعية جرت على استخدامها شعوب أخر، غير عابئين بالنتائج النهائية التي نجنيها اليوم ديونا أجنبية تستنزف كل إمكانياتنا، ونضوبا للأوعية الادخارية المتبناة من الجهات الرسمية، وأموالا تهيم على وجهها تبحث عن مكان تستقر فيه، غالبا ما يكون بلدا مصدرا للمال إلينا، يقوم بتصدير أموالنا إلينا بأعلى تكلفة. وقد كان في مقدورنا - لو أحسنا العمل - أن تكون هـذه الأموال في خدمة التنمية في بلادنا دون وساطة من أحد، ودون تكلفة اقتصادية وسياسية نتحملها اليوم، وتفرغ - عند التحقيق - جهود التنمية التي نقوم بها من مضمونها
>[3] وهكذا نرى أن إهمال تجميع الفوائض المحلية بالأساليب القادرة على ذلك، هـو الذي أوصلنا إلى مأزق تمويل التنمية الذي تمر به معظم
[ ص: 42 ] الشعوب الإسلامية، وأن المخرج من هـذا المأزق يتمثل في تدارك الخطأ الجسيم الذي وقعنا فيه، والمسارعة إلى تبني أدوات تمويل تملك القدرة على تجميع الفوائض الكامنة في الاقتصاد الوطني، وهي تشتق من الشريعة التي لها السيطرة على قلوب الناس، بخاصة فكرة " العفو " التي جاء بها القرآن الكريم وأكدتها السنة النبوية المطهرة، والتي يتكفل المطلب التالي بتحديد مفهومها.
[ ص: 43 ]