المطلب الرابع
أثر التكليف بإنفاق " العفو " على تعبئة الموارد المحلية
انتهينا في المطلب السابق إلى أن المسلم مكلف بإنفاق " العفو " من إمكانياته المختلفة، وأن هـذا التكليف فرض على الكفاية، يعم كل المالكين للعفو، وأن إنفاقه قد يكون على الأغراض الاجتماعية، كما قد يكون على تحقيق الأهداف الاستثمارية، وأن الظروف التي تواجه صاحب " العفو " ، هـي التي تحدد صورة الإنفاق التي يختارها.
ومهمة هـذا المطلب هـي بيان الأثر المترتب على انفعال المسلم بهذا التكليف، في حجم " العفو " المتولد لديه من ناحية، وفي المسارعة إلى استخدامه في أغراضه المختلفة من ناحية ثانية، وبعبارة أخرى: أثر انفعال المسلم بهذا التكليف، على تعبئة الموارد المحلية.
إن القضية - كما هـو واضح - قضية فكرية؛ والموقف الفكري للمسلم من " العفو " هـو أهم ما فيها؛ وشحن المسلم بأبعاد هـذه الفكرة، بإدخالها في البرنامج التربوي الذي ينشأ عليه، كي تظهر بعد ذلك في الميدان العملي، سلوكا يعيشه المسلم، وواقعا يحياه، ويمارسه، وتصطبغ به حياته، هـو المقدمة التي لا بد منها لاتخاذ سياسات تمويلية تتمحور حول هـذه الفكرة: " فكرة العفو " وتستخدم طريقا لتحقيق
[ ص: 61 ] التقدم الاقتصادي.
وعندما يشعر المسلم بهذا التكليف، ويبدأ بسؤال نفسه عن علاقة إمكانياته باحتياجاته، ليتعرف على موقفه، وهل هـو من أهل " العفو " ، أم ليس منهم؟ في هـذه اللحظة، نكون بصدد تغير كيفي، هـام جدا في حياة المسلم، الذي درج في عصرنا على أن يرى نفسه مستهلكا، دون أن يرى نفسه منتجا، حتى لقد وصلت طاقته الادخارية إلى الحدود الدنيا، مقارنة بالطاقة الادخارية للفرد في المجتمعات المتقدمة، وترتب على ذلك أن أصبحنا مستوردين لمدخرات غيرنا من الشعوب، مع أن الادخار الكامن، و " العفو " لدينا، ليس قليلا. والقضية هـي موقف الفرد الفكري، وموقفه النفسي من فكرة " العفو " ، فلقد ربي الأفراد تربية غير إسلامية، غيبت عندهم - من بين ما غيبت - فكرة " العفو " ، وضرورة البحث عما لديهم منه، حتى يوجه إلى المجالات المطلوبة، مهما قل حجمه.. وغيبت لديهم فكرة أكثر أهمية، وهي أن هـذا " العفو " ليس حقا خالصا لمن تولد لديه، وإنما حق بقية المسلمين عنده، وأنه مكلف بأن يوصل إليهم حقهم:
( فمن كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل ) >[1] .
وعندما تبنى الذات المسلمة بهذه الأفكار، يبدأ المسلم بسؤال نفسه
[ ص: 62 ] سؤالا له أهميته العملية هـو: هـل هـو من أهل التكليف بإنفاق " العفو " ؟ وإذا لم يكن، فمتى يصل إلى هـذا الحد؟ وعند ورود هـذا السؤال - كما قلنا - تبدأ شخصية جديدة في الظهور مخالفة للشخصية الأولى، شخصية لها حساسية خاصة نحو كل سلوك استهلاكي غير رشيد، فتحاول التخلص منه، ولها حساسية خاصة نحو كل سلوك إنتاجي مفيد، فتحاول الزيادة فيه، حتى تكون صادقة مع النفس، وصادقة مع الله تعالى في الوصول إلى الإجابة الصحيحة للسؤال المطروح.
إن التغير النفسي المترتب على هـذا الإحساس، هـو أهم ما في قضيتنا هـذه كما قلنا، وإن آثاره لتنعكس على كل جوانب حياة الفرد، وبالتالي على كل جوانب حياة الجماعة.. ففي ميدان ممارسة الأعمال، لا يستطيع العاطل بالوراثة، الذي لا يمارس عملا، أن يطمئن نفسيا، وهو يوجه إلى نفسه السؤال السابق: هـل هـو من أصحاب العفو؟ إذ سيتبين له أن وقته كله، وجهده كله " عفو " ، ينبغي إسلاميا أن يستغل، فيما يفيد النفس والمجتمع. وعند هـذه اللحظة يبدأ التغير النفسي (الذي بدأ لديه) في التحول إلى تغير عملي، يتمثل في بحثه عن عمل يمارسه، حتى يكون صادقا مع ربه، صادقا مع نفسه، مطمئنا إلى سلامة موقفه، يوم أن يواجه بين يدي ربه سبحانه، سؤالا، لن تزول قدمه حتى يجيب عليه، وهو سؤاله:
( عن عمره فيم أفناه؟ ) >[2] [ ص: 63 ]
وصاحب الثروة التي أحكم إغلاق الأبواب عليها، ومنعها من أن تنساب في جنبات المجتمع، يوم أن ينفتح قلبه لفكرة " العفو " ، ويتشبع بها فكره، سيكتشف أنه قد أكثر الخطأ في حق المجتمع، عندما حرمه فضل هـذا المال، الذي هـو مالكه الحقيقي قبل مالكه الفردي، وعند ذلك سيسارع إلى وضع أمواله في خدمة المجتمع، وتيسير شئونه، حتى يملك حجته عند ربه يوم أن يسأله عن ماله: من أيك اكتسبه، وفيم أنفقه؟
>[3] وليس بمنج له أن يكون قد حصل على هـذه الأموال بالطرق المشروعة، وإنما يجب أن يتبع ذلك بإنفاق هـذه الأموال في المواطن المشروعة أيضا.
إن تغيرا سلوكيا هـاما، سيصيب كل من ينفتح قلبه لهذه الفكرة، والتي هـي جزء لا يتجزأ من التربية الإسلامية الصحيحة، التي غابت عنا في خضم ما غاب عن مجتمعاتنا المعاصرة، من قيم وسلوكيات الإسلام.
فإذا جاوزنا ميدان ممارسة الأعمال، واستخدام الثروات، إلى مجال الاستهلاك، لوجدنا لفكرة " العفو " واستشعارها، أثرا ملموسا في السلوكيات الاستهلاكية للمسلمين، فالشخص الذي درج - في ظل غياب هـذه الفكرة - على الإيغال في الاستهلاك، بما يجاوز الحد، والذي يفضل على مائدته ما يكفي أسرا، بل لا تطمع كثير من الأسر في أن يكون هـذا الفاضل على موائدها، ويقوم هـذا المسرف بالتخلص من هـذا الطعام
[ ص: 64 ] الزائد بإلقائه في صناديق القمامة.. هـذا المبالغ في الاستهلاك، منطلقا من أن إمكانياته تسمح بذلك، وأن من حقه أن يتمتع بما يملك، عندما تغرس في نفسه فكرة التكليف بتقديم " العفو " من إمكانياته إلى من يستحقه، يبدأ فينظر فيما يستهلك سائلا نفسه: هـل هـو في حاجة إلى هـذا الكم يضعه فوق مائدته، ثم يقوم عنه ليلقى حيث يلقى؟ أو ليس معظم هـذا الكم فضل عن الحاجة، ينبغي أن ينفق في وجوه إنفاق " العفو " من مال الإنسان؟ وعند هـذه اللحظة من التساؤل يبدأ سلوك الشخص الاستهلاكي في الانضباط والوقوف عند الحدود الرشيدة التي تفي بحاجته، ولا تبدد جانبا من ثروة المجتمع في سلوك استهلاكي غير رشيد.
وهذه السيدة التي ملأت خزانتها بشتى أنواع الملابس، هـذا للصيف، وذاك للشتاء، وهذا للصباح، وذاك للمساء، وهذا للأفراح وذاك للأتراح، وهذا للمنزل، وذاك لخارجه، وهذا حديث الطراز، وذاك قديمه، إلى غير ذلك من المناسبات الكثيرة، التي تتقن المرأة التفنن فيها، والاهتمام بها، والاستعداد لها، مبددة في هـذا السبيل جانبا هـاما من ثروة المجتمع.
هذه السيدة عندما تستيقظ عندها فكرة التكليف بإنفاق " العفو " في وجهه، وتدرك أنها مسئولة، بل مؤاخذة على تجاوز الحدود في حجم استهلاكها، تجد نفسها في غير حاجة إلى معظم الكم المحفوظ لديها من أدوات وأشياء، قد لا تقع عينها على جانب منه في العام مرة، فضلا عن أن تكون في حاجة إلى استخدامه فعلا، وستتبين أنه يمثل فضلا عن حاجتها، وأنه " عفو " لديها، قد كلفها الله تعالى بتوجيهه،
[ ص: 65 ] فيما يعود بالنفع عليها وعلى أمتها. عند ذلك تستقيم فطرتها، وتعتدل طريقة تفكيرها، وتستخدم هـذه الإمكانيات فيما يسد للمجتمع حاجات أكثر أهمية من رغباتها، التي كانت تجنح إلى إشباعها، غافلة عن السؤال الذي لا بد وأن تواجهه يوم القيامة، وهو سؤالها عن مالها: " من أين اكتسبته، وفيم أنفقته "
>[4] . وإذا كان موقفها في شق اكتساب المال سليما، فماذا هـي قائلة عن شق إنفاقه؟
وهكذا يمثل استشعار هـذا التكليف، ضابطا لسلوكيات المسلم الاستهلاكية والإنتاجية، مما يقف بالاستهلاك عند الحدود الرشيدة، البانية للحياة الإنسانية، ويدفع بالإنتاج إلى الحدود القصوى التي تستغل كل الطاقات، فتملأ جنبات المجتمع بالطيبات التي تحقق الحياة الطيبة لأفراد المجتمع.
ويعني ذلك أن حجم " الفائض الاقتصادي " سيكون - باستشعار ـذا التكليف، والنهوض به - أكبر ما يمكن، وتكون الفرصة سانحة أمام المجتمع كي يعبئ هـذا الكم الكبير من الفائض الاقتصادي، ويدفع به في قنوات الاستثمار المختلفة.
وتعبئة هـذا " العفو " ، وتوجيهه نحو الاستثمارات المطلوب القيام بها، مسألة فنية، لكنه ييسر منها أن الفرد لا تبرأ ذمته بمجرد توفر الفائض لديه، وعدم تبديده، وإنما عليه أيضا أن يخطو الخطوة التالية، وهي السعي في تعبئته وضمه إلى بقية الفوائض لدى غيره، إذا كان ما لديه منه لا يقوم بمفرده بسد الحاجة، التي يرى أنه مطالب بسدها، ومن ثم فإن
[ ص: 66 ] مهمة المؤسسات التي تتكون من أجل تعبئة الفائض في المجتمع، وتوجيهه وجهته الصحيحة، لن تكون عسيرة أبدا، إذ يكفي أن تبني لدى الأفراد الثقة فيها، فإذا هـم يهرعون إليها، كي تساعدهم في القيام بالواجب الذي ألقي على كاهلهم أساسا، فهم المكلفون بالقيام بفروض الكفاية التي تتطلب حاجة المجتمع القيام بها.
إن الدولة، والمؤسسات المصرفية، والجمعيات الخيرية، والأحزاب السياسية، لن تجد كبير مشقة في تعبئة الفائض من أموال الناس وجهودهم، كل بحسب اتجاهه، في ميادين الوفاء بفروض الكفاية ، في ظل استشعار الأفراد، بأنهم ليسوا مكلفين بتكوين الفائض فحسب، وإنما هـم مكلفون أيضا بإنفاقه حيث ينبغي أن ينفق، وأن يعودوا به على من ليس لديه حاجته منه.
وهكذا تتلاقى رغبات الأفراد، مع رغبات هـذه الهيئات القائمة على تعبئة " العفو " وتوجيهه، الأمر الذي يجعل هـذا " العفو " أكثر إنتاجية، حيث إن تكلفة تعبئته تكون أقل ما يمكن، إذ بينا أن الأفراد سيهرعون به إلى هـذه الهيئات، بمجرد توفر الثقة فيها، وهم سيقيمون أمثالها مما يثقون فيه، إذا لم تتوفر الثقة في المؤسسات القائمة.
[ ص: 67 ]