3 - الأحزاب السياسية
نأتي هـنا إلى مؤسسات، على جانب كبير من الأهمية، في نقل فكرة " إنفاق العفو " ، من الميدان النظري، إلى الميدان العملي التطبيقي، مؤسسات لا يقل دورها أهمية، عن دور البنوك الإسلامية، أو التنظيمات الطلابية، إن لم يزد في الأهمية، حتى ليكاد يقارب دور الدولة في هـذا السبيل. هـذه المؤسسات، هـي الأحزاب السياسية، التي يمكنها أن تلعب دورا كبيرا في توجيه " العفو " ، بصوره المختلفة، وتتمكن بالتالي من الإسهام الفعال، في تمويل التنمية الاقتصادية، وإنجازها.
ومن منطلق أن التنمية، في ظل الإسلام: هـي نتائج الجهد الفردي أساسا
>[1] ، فإن المنظمات التي يكونها الأفراد، يقع عليها عبء كبير في تنظيم إمكانياتهم، من أجل الوفاء بالأعباء، والتكاليف الملقاة على عاتقهم، والأحزاب السياسية، من أهم هـذه التنظيمات، التي يمكنها أن تجمع طاقات الأفراد، وتتنافس في هـذا السبيل، ذلك أن الأحزاب في الإسلام، إنما يختلف بعضها عن بعض، في طرق الوفاء بتكاليف الإسلام،
[ ص: 132 ] وإلا فكلها ينطلق من أيديولوجية واحدة، هـي كيفية سياسة المجتمع بالدين
>[2] وكيفية جعل المجتمع ملتزما بمنهج الإسلام، في شتى المجالات، وتحقيق ذلك بالعمل والممارسة، ولا يعفي الحزب في ظل الإسلام، من العمل على الالتزام بمنهج الإسلام، أني يكون خارج سدة الحكم، بل هـو ملتزم بذلك، سواء أكان في صفوف المعارضة، أم في سدة الحكم، فهو في الحالتين مسئول، بقدر ما يملك من إمكانيات وقدرات وصلاحيات. فإن كان في الحكم كان مسئولا عن جميع القطاعات في المجتمع، وإن كان خارج الحكم، كان مسئولا عن توجيه الحزب الحاكم، ومسئولا عن توجيه أعضائه من باب أولى، وعند هـذه النقطة تجيء قضية توجيه " العفو " ، ودور الأحزاب السياسية فيها.
فعند التطبيق الإسلامي، سنجد أن توجيه " العفو " ، أرحب مجال تتنافس الأحزاب الإسلامية فيه، وبقدر جهدها في رسم سياسة ناجحة، وتنفيذها بنجاح أيضا، وهي في سدة الحكم، وبقدر قيامها وهي خارج الحكم، برسم سياسة ناجحة، وتنفيذ بعضها، بجهود أعضائها، بقدر ما تثبت جدارتها للاستمرار في الحكم، أو لتولى الحكم والأمر، في المجتمع.
وأظهر دور للأحزاب في توجيه " العفو " ، هـو دورها في توجيه " العفو " من الجهد البشري، ذلك أن العمل الحزبي في أساسه،
[ ص: 133 ] يقوم على استغلال " العفو " ، من الجهود البشرية، عند أعضاء الحزب، في سبيل الله ومصلحة المجتمع. وإذا كان هـذا النوع من " العفو " ، هـو أغزر أنواعه، كما بينا من قبل
>[3] ، فإن الطاقات التي يمكن للأحزاب أن تجمعها، وتوجهها إلى تحقيق مصالح المجتمع، هـي أكبر ما تكون في هـذا المجال.
تستطيع الأحزاب، أن تتعاون في ذلك مع التنظيمات الطلابية، وغيرها، من تنظيمات الشباب، في تنفيذ برامجها، في القطاعات الاجتماعية، والاقتصادية، والفكرية، فهي إحدى الجهات التي عنيناها، عندما أشرنا في البند السابق " الاتحادات الطلابية " ، إلى الجهات التي يمكن التنسيق معها، حتى يمكن استغلال طاقات الشباب، في الوفاء بفروض الكفاية المختلفة.
إن قضية مثل " محو الأمية " ، تستطيع الأحزاب، باستغلال " العفو " من جهد أعضائها، ومن يتعاون معها من غيرهم، تستطيع التخلص منها ورفع وصمتها، التي تصم المجتمع الإسلامي اليوم، والتي يتعارض وجودها مع دعوة القرآن الكريم، التي افتتح بها توجيهاته، عندما كان أول ما نزل منه هـو قول الله تعالى:
( اقرأ باسم ربك الذي خلق *
خلق الإنسان من علق *
اقرأ وربك الأكرم *
الذي علم بالقلم *
علم الإنسان ما لم يعلم ) [العلق:1-5].
هذا ولا تقف الأمية، عند الجهل بالقراءة والكتابة، ولكننا نقصد ما هـو أبعد من ذلك، في هـذا الخصوص، فهناك الأمية السياسية،
[ ص: 134 ] والأمية الدينية، والأمية الفنية (في الزراعة، والصناعة، والتجارة) ، وكلها ميادين متسعة، تستطيع فيها الأحزاب، باستغلال " العفو " من الجهد البشري لأعضائها، تقديم أجل الخدمات للمجتمع، إذ لا يخفى ما لرفع الأمية عن أفراد المجتمع، في هـذه الميادين، من آثار اجتماعية، وسياسية، ودينية، وأخلاقية، واقتصادية.
فعن طريق التربية السياسية، والتثقيف السياسي، تتمكن الأحزاب من إيجاد الفرد القادر على متابعة شئون مجتمعه، ثم المساهمة في توجيه سياسته، إلى ما يحقق المصالح الدينية والدنيوية.. وعن طريق التربية والتثقيف الديني، تستطيع الأحزاب، أن تغرس في الفرد فضائل هـذا الدين، وقيمه العملية، وتنشئه على اعتبار العمل الصالح، وممارسة الإنتاج، عبادة من أجل العبادات، وأنه معيار التفاضل بين الناس، في الدنيا والآخرة، بل ومعيار الحب والبغض من الله تعالى، وبذا تجعل من أعضائها عاملين مخلصين، في كل مجال يوجدون فيه.. وعن طريق التربية، والتثقيف المهني تستطيع الأحزاب، أن تؤهل أعضاءها في شتى الميادين، التي تتناسب وإمكانياتهم، العقلية، والجسدية، والنفسية، فتجعل منهم ممارسين أكفياء لشتى الحرف، ومختلف المهن التي يضيفون من خلالها إلى الناتج والدخل القوميين، وكل ذلك يتحقق بواسطة استخدام " العفو " من الجهد البشري لأعضاء الأحزاب، والقليل من " العفو " المالي لديهم أيضا.
ولعل دور الأحزاب في رفع الأمية عن أعضائها في شتى الميادين، وبخاصة الأمية المهنية أو الفنية، ينقلنا إلى دور هـام للأحزاب، يمكنها أن تقوم به، إذا استخدمت " العفو " من الإمكانيات المالية،
[ ص: 135 ] مع " العفو " من الجهود البشرية، عند أعضائها، ألا وهو دورها في التخلص من البطالة التي قد تلحق الاقتصاد القومي، ويقع في براثنها الكثير من أفراد المجتمع.
إن الأحزاب هـنا بحكم وجودها على كل المستويات، وانبثاثها في كل المناطق، تستطيع بواسطة لجانها الفرعية المحلية، أن تهتدي إلى الأفكار والمشروعات، التي تناسب ظروف كل منطقة، وتناسب الراغبين في العمل من أبناء هـذه المنطقة، وعن طريق تكافل جهود الأعضاء في كل منطقة، وتجميع فائض الجهود القادرة على العطاء، وتجميع الفوائض المالية القابلة للاستثمار، وتجميع الفائض من رأس المال العيني، يستطيع كل حزب، أن يقوم بدور جوهري في القضاء على البطالة، وإتاحة فرص العمل، لكل من ينتمي إليه على الأقل، أي في المناطق التي تعد قواعد جماهيرية له، بل وفي غيرها من المناطق، وستكون قدرته هـذه هـي عامل الجذب، الذي يدفع الناس إلى الانتماء إليه، وتفضيلهم أن يعهدوا اليه، بتولي المسئولية، والعمل على حل مشكلات المجتمع.. فنجاحه في حل المشكلات، وهو خارج الحكم، مؤشر على نجاحه وسلامة برامجه، التي سينفذها إذا تولى الحكم.
ولا غرابة في أن يوجه الحزب جهوده، لحل مشكلات المواطنين جميعا، المنتمين إليه وغيرهم، فالأصل أن الأحزاب في ظل الإسلام، تجمعات هـادفة إلى تقديم العون للآخرين، ولقد شهد الرسول صلى الله عليه وسلم تجمعا من هـذا القبيل في الجاهلية، وأثنى عليه بعد الإسلام، بل قرر استعداده للاشتراك في مثله، لو دعي إليه، في ظل الإسلام.
[ ص: 136 ] يقول صلوات الله وسلامه عليه:
( لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا، ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت. تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها، وأن لا يعز ظالم مظلوما ) >[4] .
وفضلا عما للأحزاب، من دور كبير في توجيه " العفو " ، من الجهد البشري، فإنها هـي المرشحة الأولى، للقيام بتوجيه " العفو " من المال العيني، الممثل في المعدات والأدوات، والتي ناقشناها في المطلب الخاص بمكامن " العفو " ، إذ تعد الأحزاب، أفضل تجمع، يلتقي فيه مالكو " العفو " من المال العيني، ومن هـم في حاجة إليه، ومن ثم فهي أفضل من ينسق بينهم، لتبادل " العفو " العيني، وتحقيق الصالح الفردي والعام، وعلى المستويات الحضرية والريفية.
إن الأمر ليتطلب، أن تضم الأحزاب في هـيكلها التنظيمي، أمانة مهمتها: الإشراف على تبادل المال العيني، وتنظيمه؛ تقيم المعارض للتعريف ب " العفو " المتاح، كما تقيم الندوات، للحث على اكتشافه، والدعوة إلى تقديمه، بل تستطيع أن تستخدمه بواستطها،
[ ص: 137 ] في إقامة المشروعات، التي تعالج بإقامتها الكثير من المشكلات، التي تواجه المجتمع، بعد أن تجمع بينه، وبين " العفو " من المال النقدي، و " العفو " من الجهد البشري، حيث تتضافر كل أنواع " العفو " في الوفاء بهذه المهمة.
هذا ولا نستطيع، أن نغفل هـدفا رئيسا من أهداف الأحزاب السياسية، تصل إليه عن طريق استغلال الفائض من الجهد البشري لأعضائها، هـذا الهدف، هـو " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ، في شتى المجالات، التي تضطلع الدولة فيها بدور. فالأحزاب عندما لا تكون في سدة الحكم، تقوم بدور الرقيب على تصرفات وممارسات الحزب، الذي يتولى مسئولية الحكم في المجتمع، وبقيامها بهذه المهمة، تؤدي دورا على جانب كبير من الأهمية، في توجيه السياسات الحكومية، وجعلها محققة للصالح العام. وهي إذ تفعل ذلك، تجعل جهود أعضائها فعالة مؤثرة، بخلاف ما لو تولى كل فرد، بصفته المستقلة، هـذه المهمة؛ ففي هـذه الحالة، لن تكون لجهود الأفراد الفائضة كبير تأثير، بل ربما تتضارب هـذه الجهود، أما عند انضوائها تحت مظلة تجمع ما (حزب في حالتنا هـذه) ، فلا شك في تأثيرها، وتمكنها من إزالة المنكر، وإقرار المعروف في كل تصرف وسلوك.
وهكذا نتبين أن الأحزاب السياسية، يمكن أن تكون أهم جهة لتجميع " العفو " من الجهد البشري، و " العفو " من المال العيني - كما يمكن أن تؤدي بعض الدور، في تجميع " العفو " من المال النقدي - وذلك يجعل منها جهازا، لتعبئة هـذين النوعين من " العفو " ، ثم توجيههما إلى الإسهام في تحقيق التنمية الاقتصادية، وبهذا تستطيع الأحزاب، إذا
[ ص: 138 ] إذا انطلقت من فلسفة " إنفاق العفو " ، والوفاء بفروض الكفاية ، أن تنقل المجتمع خطوات إلى الأمام، في شتى الميادين، باستخدام فكرة " إنفاق العفو " ، الكامن لدى أعضائها.
وبقدر ما يتاح للمجتمع الإسلامي، من أحزاب مؤمنة بهذه الفلسفة، وقادرة على تطبيقها، وإخراجها من الميدان النظري، إلى الميدان العملي، بقدر ما يكتب لهذا المجتمع من صعود، على طريق التقدم الاجتماعي والاقتصادي. هـذا وربما كنا في حاجة إلى أحزاب جديدة، تؤمن بهذه الفلسفة، وتنطلق منها، أو على الأقل في حاجة إلى إحداث تغيير جوهري في الأحزاب القائمة، يعيدها إلى الصيغة الإسلامية، ويجعلها مؤهلة لأداء هـذا الدور، القائم على الانطلاق من استخدام العفو في الوفاء بفروض الكفاية، وسياسة الدنيا بالدين.