أسباب الورود عند الإمام البلقيني
وتتبع النماذج التي قدمها
الإمام البلقيني ، وتحليلها، يؤكد لنا ضرورة العناية بالاستقراء الشامل لكل روايات السنة المطهرة، للوقوف على علاقة النصوص بأسبابها.
ويبدأ حديثه عن النوع التاسع والستين من أنواع علوم الحديث، معرفة أسباب الحديث، بعبارة
ابن دقيق العيد ، في شرح العمدة، في الكلام على حديث
( إنما الأعمال بالنيات ) >[1] .
ويفيد كلام ابن دقيق العيد، أن التصنيف في أسباب الحديث كان متأخرا، وهذا قد يعود إلى قرب عهد الرواة بمعرفة الأسباب والملابسات، التي قيلت فيها الأحاديث، واعتبار أن هـذه المعرفة قد تجد طريقها في مباحث التاريخ والسير، إلا أنه قد لفت انتباهنا في الربط بين أسباب الحديث، وأسباب النزول للكتاب العزيز، وكما أن معرفة أسباب النزول تعين على الفهم الصحيح لبعض الآيات، فكذلك الحال في كثير من الأحاديث النبوية، التي يتوجه فيها المعنى الصحيح وجهته الصحيحة، بمعرفة أسباب ورودها، وهذا ما دفع المتأخرين إلى التصنيف في أسباب الحديث، كما صنف في أسباب النزول للقرآن الكريم، ولما أحب ابن دقيق العيد أن يعمل في هـذا المجال، فقد وجد أن ما ورد في ذلك من الكتابات شيء يسير، وأن الأمر يحتاج إلى تتبع، وإلى نظر في الأحاديث؛ فقد يكون السبب موجودا في الحديث نفسه، وهذا أمر يسير، يحدده راوي الحديث أو القارئ له، ولكن الأصعب في ذلك أن
[ ص: 108 ] يكون الحديث مجردا من سببه، ويحتاج إلى تتبع هـذا السبب في روايات أخرى، وفي كتب أخرى، وعند رواة آخرين.
والحديث الذي يذكر كمثال لوجود السبب في الحديث نفسه، هـو حديث: "إنما الأعمال بالنيات"، فقد ذكر أنهم نقلوا أن رجلا هـاجر من
مكة إلى
المدينة ، لا يريد بذلك فضيلة الهجرة ، وإنما هـاجر ليتزوج امرأة تسمى "أم قيس"، فسمي "مهاجر أم قيس"، ولهذا ذكر في الحديث شأن هـذه المرأة، دون سائر ما ينوى به الهجرة، من أفراد الأغراض الدنيوية.
ويورد
البلقيني حديثا آخر ليدلل به على وجود السبب في الحديث نفسه، مثل حديث (سؤال
جبريل عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وغيرها) ، وكذلك حديث (القلتين)
( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل نجسا: سئل عن الماء يكون بالفلاة وما ينوبه من السباع والدواب ) ... وكذلك حديث (الشفاعة) ، سببه قوله صلى الله عليه وسلم :
( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) .. وكذلك حديث (سؤال النجدي) .. وحديث
( صل فإنك لم تصل ) .. وحديث
( خذي فرصة ممسكة فتطهري بها ) والفرصة بكسر الفاء.. وحديث (السؤال عن دم الحيض يصيب الثوب) .. وحديث (السائل: أي الأعمال أفضل) .. وحديث (سؤال: أي الذنب أكبر) ، وذلك كثير.
ونلاحظ أن البلقيني قد جعل السبب في هـذه الأحاديث يعود إلى "السؤال"، ولكن هـل السؤال المجرد يمكن أن يكون سببا؟
[ ص: 109 ]
إذا قلنا: إن السبب يعني الملابسات، والظروف والمواقف التي صاحبت ورود الحديث، ومعرفتها تبرز لنا المعنى في الحديث؛ فإن السؤال وحده، دون النظر إلى طبيعة السائل، وحاله، وصفاته، وما كان فيه عند السؤال من موقف، لا يحقق هـذا المراد، ولذلك؛ فلا بد مع السؤال المجرد، من تتبع هـذه الأحوال، وهذه الظروف والملابسات في مواضع أخرى، وعلى ذلك فإن هـذا القسم الذي أشار إليه
البلقيني ، يتداخل مع القسم الثاني الذي ذكره في هـذا الشأن بقوله: وقد لا ينقل السبب في الحديث، أو ينقل في بعض طرقه، فهو الذي ينبغي الاعتناء به ... (ومن ذلك حديث:
( أفضل صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة ) . رواه
البخاري ومسلم ، وغيرهما، من حديث
زيد بن ثابت رضي الله عنه .
وقد ورد في بعض الأحاديث، أنه رد على سؤال سائل، وهذا أسنده
ابن ماجه في سننه،
والترمذي في الشمائل، من حديث
عبد الله بن سعد ، قال:
( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أيما أفضل: الصلاة في بيتي، أو الصلاة في المسجد؟ قال: ألا ترى إلى بيتي، ما أقربه من المسجد، فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد، إلا أن تكون صلاة مكتوبة ) ، أخرجه ابن ماجه، وهذا لفظه من حديث شيخه
أبي بكر بن خلف ، وأخرجه الترمذي في الشمائل، عن
عباس العنبري ، عن
عبد الرحمن بن مهدي بسنده.. إلا أنه قال: عن
[ ص: 110 ] حرام بن حكيم >[2] ، وعندما ننظر في هـذا الحديث، نجد أن السؤال قد صحب ببيان حالة أخرى، نبه إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيها تدعيم لهذا الحكم في الحديث، من أفضلية صلاة التطوع في البيت، وهي التي جاءت في صيغة هـذا الاستفهام، الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ، ليقرر قرب بيته من المسجد، ومحبته لصلاة التطوع في بيته، مع قرب المسجد منه إلا في الصلاة المكتوبة.
ومن ذلك حديث:
( من صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ) ، رواه
عمران بن حصين وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحديث عمران في صحيح
البخاري ، وأما سببه فرواه
عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه، عن
معمر عن
الزهري ،
( أن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قدمنا المدينة ، فباء لنا وباء من وعك المدينة شديد، وكان الناس يكثرون أن يصلوا في سبحهم >[3] ، جلوسا، فقال: صلاة الجالس نصف صلاة القائم، قال: فطفق الناس حينئذ يتجشمون القيام ) ، قال عبد الرزاق عقيب هـذا: أخبرنا
ابن جريج قال: قال
ابن شهاب : أخبرني
أنس بن مالك قال:
( قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهي محمة فحم الناس، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون قعودا فقال: صلاة القاعد نصف صلاة القائم، فتجشم الناس الصلاة قياما ) .
[ ص: 111 ]
والطريق الثاني أجود، فإن
الزهري لم يسمع
عبد الله بن عمرو ، وأيضا فقد صح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ما قد يخالف ظاهر ذلك، وهو ما رواه
مسلم وغيره من حديث
هـلال بن يساف عن
أبي يحيى عن عبد الله بن عمرو قال:
( حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة، قال: فأتيت فوجدته يصلي جالسا، فوضعت يدي على رأسي، فقال: مالك يا عبد الله بن عمرو؟ قلت: حدثت يا رسول الله أنك قلت: صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة، وأنت تصلي قاعدا، قال: أجل ولكن لست كأحدكم ) ، فظهر من هـذا الحديث أن عبد الله بن عمرو، لم يسمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم قبل هـذا، بخلاف ما يشعر به ظاهر حديث
عبد الرزاق ، ولعله سمعه من بعض الصحابة أولا، فلا تنافي.
وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن
ابن جريج : أخبرني
عمرو بن دينار ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( إن للقاعد في الصلاة نصف أجر القائم ) ، ولم يتعرض في هـذا الحديث لذكر السبب. وما سبق من السبب، يستفاد منه أن هـذا النصف لمن صلى وبه بعض مرض لا يلحقه حرج بالقيام، ويظهر من هـذا السبب أن الصلاة كانت في المسجد وذلك لأحد أمرين:
(1) إما لأن الظاهر من حال المهاجرين إذ ذاك، أنهم لا بيوت لهم
بالمدينة ، وهذا إنما يستفاد بذكر السبب المذكور.
(2) أن تقريرهم على ذلك لبيان الجواز، وحديث
عبد الله بن سعد السابق نص في تفضيل صلاة النافلة في بيوت المدينة، على صلاة النفل بمسجد المدينة.
وقد اتضح لنا أن تتبع أسباب الورود، يظهر لنا ما قد يكون من
[ ص: 112 ] أسباب ترجيح رواية على أخرى، وإدراك ما بين الرواة من وصف دقيق لطرق التحمل والأداء وما ينشأ عن ذلك من ترجيح رواية على أخرى، كما أن هـذا التتبع بعين المتأمل في معاني النصوص لكي يحسن توجيهها، فإذا وجد هـذا التقرير الذي يفيد أن صلاة الجالس نصف صلاة القائم، وجه ذلك إلى النافلة، وأن المرء إذا تجشم القيام فهو أفضل له، وأن الصلاة من جلوس في النافلة جائزة، ولكن هـل تستوى الفريضة مع النافلة في هـذا التصنيف المذكور؟.
الظاهر من النصوص أن هـذا لا يكون مع الفريضة إذا لم تكن هـناك استطاعة، فالمرء يصلي قائما، فإن لم يستطع فجالسا، وهكذا، ويكون أداؤه في هـذه الحالة جريا على القاعدة القرآنية الكريمة
( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة:286) . كما يتضح لنا من تتبع هـذه الأسباب ما يكون من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم .
ولذلك كان توجيه
سفيان الثوري : هـذا للصحيح ولمن ليس له عذر، فأما من كان له عذر من مرض أو غيره، فصلى جالسا، فله مثل أجر القائم
>[4] .
وحديث:
( لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه ) ، جاء في رواية
( غير رمضان ) ، ورواه
أبو هـريرة ، وهذا الحديث في الصحيحين والسنن
>[5] .
[ ص: 113 ]
وأما سببه: فرواه
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ونحن عنده، فقالت: يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل السلمي يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده فسأله عما قالت، قال: يا رسول الله أما قولها: يضربني إذا صليت فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتها، قال: فقال: لو كانت سورة واحدة لكفت الناس، وأما قولها: يفطرني فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب فلا أصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها وأما قولها: إني لا أصلي حتى تطلع الشمس، فإنا أهل بيت عرف لنا ذلك، لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس. قال: فإذا استيقظت فصل ) . أخرجه
أبو داود في سننه،
والحاكم في مستدركه، وقال: هـذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وفي اللفظ المخرج في سنن أبي داود والحاكم وغيرهما: «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ » ، وفيه دلالة تشعر بأن مبدأ هـذا الحكم، وسماعهم له، كان ذلك اليوم على هـذا السبب، ومعنى ذلك أن البحث عن أسباب ورود الحديث ظهرت مبكرة، ولجأ إليها الصحابة رضوان الله عليهم، لكي يتوجه النص الوجهة الصحيحة، فإذا ارتبط الصيام بإذن الزوج، فليس ذلك عاما، وإنما يخص النافلة التي يتسع المجال فيها بما يشق على الزوج، وهنا يضيع حق من حقوقه برغبة الزوجة في صيام التطوع، والذي قد تبالغ فيه.
وقد ظهر من تتبع هـذا السبب، كيف صارت المرأة في الناحية
[ ص: 114 ] العملية، إلى حفظ الكثير من القرآن الكريم، وإلى كثرة القراءة منه في صلاتها، وكيف أقبلت على عبادتها برغبة، جعلت الزوج يطلب أن تحد منها، كما وجدنا شجاعة المرأة في عرض حالتها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وزوجها شاهد، لأنها لا تريد الانتقاص من استمتاعها بهذه العبادات، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حقق بسنته التوازن في العلاقات، فلها أن تقرأ، ولكن بما تيسر، حفاظا على حق الزوج، ولها أن تصوم التطوع، ولكن بالتنسيق مع زوجها، حتى لا تضيع حقه، كما أنها لا تسكت على منكر، فقد أخذت عليه أنه يصلي الفجر بعد طلوع الشمس، وفي إجابة النبي صلى الله عليه وسلم ما يفيد أن هـذه حالة تخص هـذا الرجل، لأعذار لم تذكر في الحديث، إلا في قوله: " إنا أهل بيت عرف لنا ذلك " . فهل هـذا يعود إلى عمل لهم في الليل، أو إلى حالات قد تكون مرضية لا تمكنهم من الاستيقاظ حتى تطلع الشمس، قد يكون ذلك، لأن الأحاديث الأخرى أخذت على من ينام حتى يصبح، أن الشيطان بال في أذنيه.
فعن
ابن مسعود رضي الله عنه قال:
( ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح! قال: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه -أو قال- اذنه ) متفق عليه.
ولقد كان لتتبعي ما يتصل بهذا السبب المذكور، من ملابسات وأسباب، من النتائج ما يؤكد أن ما نعده سببا لحديث، قد يكون هـو - أيضا - في حاجة إلى بيان ما يرتبط به من أسباب.
فالإذن من النبي صلى الله عليه وسلم
لصفوان بن المعطل ، والمذكور في الحديث السابق:
( فإذا استيقظت فصل ) ، جعلني أتساءل أولا عن موقف العلماء من هـذا الحديث الذي أخرجه
أبو داود في سننه،
[ ص: 115 ] والحاكم في مستدركه، وقال: هـذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. فوجدت أن
الإمام الذهبي قد ذكر الحديث في ترجمة
صفوان بن المعطل >[6] ، ولكن علق عليه بقوله: فهذا بعيد من حال صفوان أن يكون كذلك، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم على ساقة الجيش: فلعله آخر باسمه
>[7] ، فهذا الاستبعاد من الذهبي والذي بلغ التشكيك في كونه المراد بذلك على الرغم من أن محقق الكتاب ومخرج أحاديثه ذكر في تخريجه للحديث أن
أبا داود أخرجه
>[8] ، وكذلك
أحمد >[9] ، ورجاله ثقات، وقال الحافظ في الإصابة
>[10] : وإسناده صحيح.
وأما
الإمام ابن القيم رحمه الله فقال: وقال غير
المنذري : ويدل على أن الحديث وهم، لا أصل له: أن في حديث الإفك المتفق على صحته قالت
عائشة : " وإن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله! فوالذي نفسي بيده ما كشفت عن كنف أنثى قط، قال: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله شهيدا "
>[11] . وفي هـذا نظر، فلعله تزوج بعد ذلك، والله أعلم.
ويذكر صاحب عون المعبود من الملابسات والظروف، ما يوضح هـذا
[ ص: 116 ] الإذن فيقول: " فإنا أهل بيت " ، أي إنا أهل صنعة لا ننام الليل، " قد عرف لنا ذلك " أي عادتنا ذلك، وهي أنهم كانوا يسقون الماء في طول الليالي، " لا نكاد نستيقظ " أي إذا رقدنا آخر الليل. " قال: فإذا استيقظت فصل " ذلك أمر عجيب من لطف الله سبحانه بعباده، ومن لطف نبيه صلى الله عليه وسلم ، ورفقه بأمته، ويشبه أن يكون ذلك منه على معنى ملكة الطبع، واستيلاء العادة، فصار كالشيء المعجوز عنه، وكان صاحبه في ذلك بمنزلة من يغمى عليه، فعذر فيه، ولم يثرب عليه.
ويحتمل أن يكون ذلك إنما كان يصيبه في بعض الأوقات دون بعض، وذلك إذا لم يكن بحضرته من يوقظه، ويبعثه من المنام، فيتمادى به النوم، حتى تطلع الشمس، دون أن يكون ذلك منه في عامة الأحوال، فإنه يبعد أن يبقى الإنسان على هـذا في دائم الأوقات، وليس بحضرته أحد، لا يصلح هـذا القدر من شأنه، ولا يراعي مثل هـذا من حاله، ولا يجوز أن يظن به الامتناع من الصلاة في وقتها ذلك، مع زوال العذر بوقوع التنبيه والإيقاظ ممن يحضره ويشاهده، والله أعلم.
والذي جعل صاحب عون المعبود، يسلك مسلك التأويل المذكور، هـو ما قاله
أبو داود في تخريج هـذا الحديث بعد روايته له: قال أبو داود: رواه
حماد - يعني ابن سلمة - عن
حميد أو
ثابت ، عن
أبي المتوكل .
وطريق أبي داود في هـذه الرواية: حدثنا
عثمان بن أبي شيبة ،
[ ص: 117 ] أخبرنا
جرير عن
الأعمش ، عن
أبي صالح ، عن
أبي سعيد قال:
>[12] .
وأبو المتوكل هـو الناجي البصري، والحاصل أن أبا صالح ليس بمتفرد بهذه الرواية عن أبي سعيد، بل تابعه أبو المتوكل عنه، ثم الأعمش ليس بمتفرد أيضا - بل تابعه
حميد أو
ثابت ، وكذا جرير ليس بمتفرد بل تابعه
حماد بن سلمة >[13] .
يقول صاحب عون المعبود: وفي هـذا كله رد على
الإمام أبي بكر البزار ، وسيجيء كلامه، قال
المنذري : قال أبو بكر البزار: هـذا الحديث كلامه منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال: ولو ثبت احتمل: إنما يكون أمرها بذلك استحبابا، وكان صفوان من خيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما أتى نكرة هـذا الحديث أن الأعمش لم يقل: حدثنا أبو صالح، فأحسب أنه أخذه عن غير ثقة، وأمسك عن ذكر الرجل، فصار الحديث ظاهر إسناده حسن، وكلامه منكر لما فيه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمدح هـذا الرجل، ويذكره بخير، وليس للحديث عندي أصل "
>[14] .
ومن التتبع الذي أرى ضرورته، لتجلية العلاقات بين الروايات ورواتها، وجدت في تاريخ دمشق
لابن عساكر روايتين، لهما علاقة بصحو صفوان رضي الله عنه ونومه، وبهما يرجح تأويل " قول
صفوان : إنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك " وأن هـذا لم يكن عادة دائمة فيه، بل
[ ص: 118 ] يدخل هـذا الأمر في دائرة الضرورة التي تقدر بقدرها، فإذا كان مجهدا متعبا من أثر العمل الليلي، وغلبه النوم فليس في النوم، تفريط.
أما الرواية الأولى، يقول فيها
صفوان رضي الله عنه :
( كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرمقت صلاته، فصلى العشاء الآخرة ثم نام، فلما كان نصف الليل استنبه، فتلا العشر آيات آخر سورة آل عمران، ثم قام، ثم تسوك، ثم قام فتوضأ، وصلى ركعتين، فلا أدري أقيامه، أم ركوعه، أم سجوده، أطول، ثم انصرف فنام، ثم استيقظ ففعل مثل ذلك، فلم يزل يفعل كما فعل أول مرة، حتى صلى إحدى عشرة ركعة ) >[15] .
فالذي يصف حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته بالليل وفي السفر في أقواله وأفعاله، لا نستطيع أن نقول: إن عادته النوم ليلا حتى تطلع الشمس.
ووجدت هـذا الحديث في سير أعلام النبلاء، مع تخريج محقق الكتاب، ويذكر أن إسناده ضعيف لضعف
عبد الله بن جعفر المديني والد علي، والحديث في المسند
>[16] ، والطبراني
>[17] .
والرواية الثانية يقول فيها
أبو هـريرة رضي الله عنه :
[ ص: 119 ] ( جاء صفوان بن المعطل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، إني سائلك عن أمر أنت به عالم، وأنا به جاهل. قال: وما هـو؟
قال: هـل من ساعات من الليل والنهار ساعة تكره فيها الصلاة؟
قال: نعم. إذا صليت الصبح فدع الصلاة حتى تطلع الشمس، فإنها تطلع بين قرني الشيطان، ثم الصلاة محضورة متقبلة حتى تستوي الشمس على رأسك قيد رمح، فإذا كانت على رأسك فدع الصلاة، فإن تلك الساعة التي تسجر فيها جهنم، وتفتح فيها أبوابها، حتى ترتفع الشمس عن حاجبك الأيمن، فإذا زالت فصل، فإن الصلات محضورة متقبلة، حتى تصلي العصر، ثم ذكر الصلاة حتى تغرب الشمس ) >[18] .
فهذا البيان لأوقات الصلاة، فيه ما يتعلق بالوقت المذكور في حديث امرأة صفوان. وجاء في بيان الأوقات:
( إذا صليت الصبح فدع الصلاة حتى تطلع الشمس ) ، فهو خطاب مباشر دون ذكر للحالة التي يمكن أن تطرأ من غلبة النوم.
وعلى كل حال، فإن تتبع الروايات، يمنح المزيد من تجلية المعاني والمواقف، ويصحح الفهم للروايات جميعها.
وحديث:
( إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن [ ص: 120 ] ائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا ) ، وفي رواية: « فاقضوا » .
وقد فسر
ابن الأثير السعي بالعدو، أي المشي السريع، ويدل ذلك على أن المسبوق يدخل مع الإمام على أي حالة وجده، ثم إذا سلم الإمام أتى المسبوق بما بقي.
وسبب هـذا الحديث: ما رواه
أبو نعيم قال: حدثنا
سليمان بن أحمد قال: أنا
أبو زرعه ، أنا
يحيى بن صالح الوحاظي ، أنا
فليح بن سليمان ، عن
زيد بن أبي أنيسة ، عن
عمرو بن مرة ، عن
عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن
معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:
( كنا نأتي الصلاة، فإذا جاء رجل وقد سبق بشيء من الصلاة أشار إليه الذي يليه، قد سبقت بكذا، فيقضي، قال: وكنا بين راكع وساجد وقائم وقاعد، فجئت يوما وقد سبقت ببعض الصلاة، وأشير إلي بالذي سبقت به، فقلت: لا أجده على حال إلا كنت عليها، فكنت بحالهم التي وجدتهم عليها، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قمت، فصليت واستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: من القائل كذا وكذا؟ قالوا: معاذ بن جبل، فقال: قد سن لكم معاذ فاقتدوا به، إذا جاء أحدكم وقد سبق بشيء من الصلاة فليصل مع الإمام بصلاته، فإذا فرغ الإمام فليقض ما سبقه به ) .
وروى أبو نعيم عن سليمان بن أحمد قال: أنا
محمد بن محمد بن التمار البصري ، ثنا
حرمي بن حفص العتكي ، أنا
عبد العزيز بن مسلم ، عن
حصين ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل
[ ص: 121 ] قال:
( كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سبق أحدهم بشيء من الصلاة، سألهم، فأشاروا إليه بالذي سبق به، فيصلي ما سبق به ثم يدخل معهم في صلاتهم، فجاء معاذ والقوم قعود في صلاتهم فقعد معهم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى ما سبق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اصنعوا ما صنع معاذ ) .
فذكر السبب.. بين القصة التي شرحت الأمر السابق، وما صار إليه بعد فعل معاذ، الذي وافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم التقريرية لفعل معاذ، فبين السبب أن المسبوق كان يبتدئ بعد أن يكون منفردا، وقد أجاز ذلك جمع من أهل العلم، ومنهم
الشافعي في أرجح قولية، وقال في موضع آخر: ولا يجوز أن يبتدئ الصلاة لنفسه ثم يأتم بغيره، وهذا منسوخ.
وقد كان المسلمون يصنعون ذلك، حتى جاء معاذ بن جبل، أو
عبد الله بن مسعود ، وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من الصلاة، فدخل معه، ثم قام يقضي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
( إن ابن مسعود -أو معاذا- قد سن لكم سنة فاتبعوها ) ، قال المزني: قوله عليه الصلاة والسلام :
( إن معاذا قد سن لكم ) ، يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستن بهذه السنة، فوافق ذلك فعل معاذ.
ويرى
البلقيني : أن ما قاله المزني يشير به إلى أن معاذا أقدم على ذلك بأمر ظهر له من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 122 ]
وبقي للمجتهدين أن يفسروا ماذا يراد بالقضاء أو الإتمام. فهل القضاء يعني أن ما فاتهم يؤدى على ما أداه الإمام؟ أم أن الإتمام سيجعل المسبوق يحسب لنفسه ما صلاه مع الإمام ثم يتم ما بقي من صلاته؟
ويكفينا من هـذا التساؤل، الإشارة إلى بحث هـذا في موضعه.
وحديـث:
( ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم ) .
وفي هـذا الحديث الذي يقول:
( ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ) ، وهذا الحديث له سبب، وهو ما رواه
الإمام أحمد في مسنده،
وأبو داود في سننه، من حديث أبي نملة الأنصاري، وهو
عمار بن معاذ بن زرارة بن عمر بن غنم الخزرجي الأنصاري ، أنه قال:
( بينما هـو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من اليهود ، مر بجنازة فقال: يا محمد هـل تتكلم هـذه الجنازة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الله أعلم. فقال اليهودي: إنها تتكلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله ورسله، فإن كان باطلا لم تصدقوه، وإن كان حقا لم تكذبوه ) أخرجه أبو داود في كتاب العلم، في الباب الثاني منه.
ففي هـذا السبب، بيان واضح للحديث، وتفسير النهي المذكور فيه، والذي قد يلتبس على من لم يعلم سبب ورود الحديث.. كما أن معرفة
[ ص: 123 ] السبب، بينت جوانب أخرى، هـي من فوائد معرفة أسباب ورود الحديث، ومنها: موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الشيء الغيبي، الذي لا يعلمه، فإنه يقول فيه: لا أعلم، حتى يخبره الله سبحانه بما شاء من علمه، وفي هـذا تعليم لأمته، إذا استفتي أحدهم فلا يستحي من قول: لا أعلم، أو لا أدري، فإن من ترك هـذه العبارة في مواضعها فقد أصيبت مقاتله كما ذكر العلماء.
كما أفاد هـذا الموقف بيان طبيعة
اليهود ، ومظاهر التعنت التي سلكوها، ومنها: توجيه الأسئلة للإحراج، والمصحوبة بادعاء العلم والكذب على الله.
وموقف النبي صلى الله عليه وسلم ، والذي فسره سبب الورود، يصيب الحقيقة دون الانفعال الغاضب من فعل اليهود، فلا تصديق لهم فيما يحدثون به، لأنهم يكذبون، ولا تكذيب لهم كذلك فيما يحدثون، لأنهم قد يخلطون بين حق وباطل، وإنما يكون التصديق بأصل ما نزل على
موسى عليه السلام من التوراة، وأما ما في أيديهم فقد حرفوه، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم :
( وقولوا آمنا بالله ورسله ) .
ومن ذلك، حديـث:
( الخراج بالضمان ) ، فقد رواه الإمامان
الشافعي وأحمد رحمهما الله، وأصحاب السنن، من حديث
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، وحسنه
الترمذي من طريق
مخلد بن خفاف ، عن
عروة عن عائشة، وصححه
ابن حبان من هـذا الطريق.
[ ص: 124 ]
ورواه
الترمذي من حديث
عمرو بن علي المقدمي ، عن
هـشام بن عروة ، عن أبيه، عن
عائشة ، وقال: هـذا حديث حسن صحيح غريب من حديث هـشام، واستغربه
البخاري من حديث عمرو بن علي، وللحديث طرق أخرى.
وقد ذكر سبب هـذا الحديث في بعض طرقه.
فذكر الإمام
الشافعي رحمه الله، من رواية
مسلم بن خالد الزنجي ، فقال: ولا أحسب، بل لا أشك -إن شاء الله- أن مسلما نص الحديث، (ومعنى "نص الحديث":رفعه، ومسلم -هنا- هـو ابن خالد الزنجي) .
فذكر أن رجلا ابتاع عبدا فاستعمله، ثم ظهر منه على عيب، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعيب، فقال المقضي عليه؛ قد استعمله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( الخراج بالضمان. )
وفسر
ابن الأثير الخراج: ما يحصل من غلة العين المبتاعة، وتقديره: الخراج مستحق بالضمان، أي سببه
>[19] .
والذي ذكره الإمام الشافعي، قد أسنده
أبو داود ، من حديث مسلم بن خالد على الجزم، فقال: ثنا
إبراهيم بن مروان ، قال: ثنا أبي، ثنا مسلم بن خالد الزنجي، ثنا هـشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها ،
( أن رجلا ابتاع عبدا، فأقام عنده ما شاء الله أن [ ص: 125 ] يقيم، ثم وجد به عيبا فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فرده عليه، فقال الرجل: يا رسول الله قد استغل غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الخراج بالضمان ) .. ورواه
ابن ماجه من حديث شيخه
هـشام بن عمار ، قال: ثنا
مسلم بن خالد ، ثنا
هـشام فذكره.
قال "
أبو داود " عقب روايته الحديث: هـذا إسناد ليس بذاك. وإنما قال "أبو داود" هـذا من أجل مسلم بن خالد الزنجي، ومسلم بن خالد قد وثقه
يحيى بن معين في رواية
عباس الدوري والدارمي ، ولم ينفرد برواية الحديث عن هـشام، فقد رواه
عمر بن علي المقدمي عن هـشام - كما سبق - وتابعه على ذلك
جرير ، وإن كان جرير قد نسب فيه إلى التدليس .
ولم ينفرد "مسلم بن خالد" بذكر السبب، فقد جاء ذكر السبب من غير رواية مسلم بن خالد، قال
الشافعي رحمه الله: أخبرني من لا أتهم من أهل
المدينة ، عن
ابن أبي ذئب ، عن
مخلد بن خفاف قال: ابتعت غلاما، فاستغللته، ثم ظهرت فيه علي عيب، فخاصمته فيه إلى
عمر بن عبد العزيز ، فقضى له برده، وقضى علي برد غلته، فأتيت
عروة بن الزبير فأخبرته، فقال: أروح إليه العشية فأخبره أن
عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هـذا أن الخراج بالضمان، فعجلت إلى عمر رحمه الله، فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر بن عبد العزيز: فما أيسر علي من قضاء قضيته - والله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق، فبلغني سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرد قضاء
[ ص: 126 ] عمر ، وأنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فراح إليه
عروة ، فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به له.
وقد رواه "
أبو داود الطيالسي "، عن
ابن أبي ذئب بمعنى رواية
الشافعي ، ورواية الشافعي أتم، وذكر السبب يتبين به الفقه في المسألة.
وقد جاء في سنن "أبي داود" أمر آخر، يفهم منه تعدي ذلك إلى الغاصب.
قال "أبو داود": ثنا
محمد بن خالد ، ثنا
الفريابي ، عن
سفيان ، عن
محمد بن عبد الرحمن ، عن
مخلد الغفاري ، قال:
( كان بيني وبين أناس شركة في عبد، فاكتريته، وبعضنا غائب، فأغل علي غلة خاصمني في نصيبه إلى بعض القضاة، فأمرني أن أرد الغلة، فأتيت عروة بن الزبير فحدثته، فأتاه عروة فحدثه عن عائشة رضي الله عنها ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الخراج بالضمان. )
وقد أخذ بهذا العموم جماعة من العلماء من المدنيين والكوفيين، والأخذ بالسبب المرفوع أقوى، لأمور ليس هـذا موضع بسطها.
هكذا يحكي
الإمام البلقيني وهو يورد حديث
( الخراج بالضمان ) ، ويتتبع أسباب وروده بالطرق المتعددة، وقد بين لنا بهذا التتبع أن سبب ورود الحديث قد يرد في طريق ولا يكون في غيره.
ولهذا فإن التتبع، هـو الذي يحقق لنا الوصول إلى سبب الورود.
وأن بعض الطرق قد يكون أقوى من بعض، وقد يكون بعضها
[ ص: 127 ] واهيا لا يعتد به. ومعنى ذلك أن الأسباب تعامل في الحكم عليها معاملة الحديث ذاته، من جهة سندها ومتنها، ولا فرق، وذلك لأن اعتماد سبب الورود سيؤثر في فهمنا للحديث نفسه.
وقد رأينا كيف أن سنن
أبي داود قد جاء فيها ما يفيد أمرا آخر، وهو تعدي ذلك إلى الغاصب.
ولذلك وجدنا عبارة البلقيني، والتي جعلها نتيجة لتتبعه طرق الحديث: والأخذ بالسبب المرفوع أقوى.
فهذه العبارة وإن كان أرجأ البسط فيها إلا أنها تفيد خضوع طرق الأسباب إلى المرجحات المعروفة لدى علماء الحديث، كما أنها تفيد في الوقت نفسه، أن ترجيح السبب المرفوع، يعود إلى الوقوف المباشر على الظروف، والملابسات، والقرائن، التي صاحبت الحديث.
وهذا يعين على فهم الحديث، كما يعين على حسن فقه المسألة، والانتفاع المعاصر بها بالقياس عليها، وقد صرح بذلك
البلقيني في قوله: وذكر السبب يتبين به الفقه في المسألة .
ويذكر البلقيني مثالا آخر، وهو الإرخاص في "العرايا".
فيقول: ومن ذلك الإرخاص في العرايا ، رواه
البخاري ،
ومسلم من حديث
ابن عمر عن
زيد بن ثابت رضي الله عنهم ، ومن حديث
جابر بن عبد الله رضي الله عنهما .
[ ص: 128 ]
وفي الصحيحين من حديث أبي هـريرة، تقييد الرخصة بما دون خمسة أوسق، أو خمسة أوسق - شك داود بن الحصين، أحد رواة الحديث
>[20] .
أما سبب ورود هـذا الحديث، فقد ذكره "الشافعي" وغيره، قال الشافعي رحمه الله في "كتاب البيوع": "وقال محمود بن لبيد لرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، إما زيد بن ثابت، وإما غيره - ما عراياكم هـذه؟ قال: فلان وفلان -وسمى رجالا محتاجين من الأنصار- شكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه مع الناس، وعندهم فضول من قوتهم من التمر؛ فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها، من التمر الذي في أيديهم يأكلونها رطبا".
وقال الشافعي رحمه الله في "كتاب اختلاف الحديث": "والعرايا التي أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ما ذكره محمود بن لبيد قال: سألت زيد بن ثابت فقلت: ما عراياكم هـذه التي تحلونها؟ فذكر معنى ما ذكره في البيوع، قال الشافعي رحمه الله: "وحديث سفيان يدل على مثل هـذا الحديث". وهو ما رواه الشافعي رحمه الله، عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، قال: سمعت سهل بن أبي حثمة يقول: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالتمر، إلا أنه رخص في العرايا أن تباع بخرصها تمرا، يأكلها أهلها رطبا.
[ ص: 129 ]
وأراد
الشافعي بذلك قوله:
( يأكلها أهلها رطبا ) ، وليس يدل على تتمة السبب.
فتتبع سبب الورود، فسر العرايا من جهة، وأزال الاختلاف والتعارض من جهة، وأزال الاختلاف والتعارض من جهة أخرى.
واختيار
البلقيني لهذا المثال، يدل على ذلك.
وأكد البلقيني هـذه الفائدة من فوائد تتبع أسباب الورود، وهو إزالة التعارض في هـذا المثال الآخر، وهو حديث النهي عن كراء الأرض
>[21] - وفي لفظ: كراء المزارع، وهو المراد بالأول.
رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، جماعة من الصحابة، منهم
رافع بن خديج ، ولحديث طرق، منها ما رواه
نافع :
( أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان وصدرا من خلافة معاوية، حتى بلغه في آخر خلافته أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدخل عليه وأنا معه وسأله فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن كراء المزارع ، فتركها ابن عمر بعد ذلك، فكان إذا سئل عنها بعد، قال: "زعم ابن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها ) ، رواه
مسلم بهذا اللفظ.
وفي
البخاري نحوه إلى قوله:
( ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 130 ] نهى عن كراء المزارع، فقال ابن عمر : قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء بشيء من التبن. )
والحديث في كتاب البيوع، من صحيح
البخاري ، قال
القسطلاني على هـامشه: قوله: الأربعاء، بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الموحدة ممدودا: جمع ربيع، وهو النهر الصغير.
وقوله: من التبن، بالموحدة الساكنة. وحاصل حديث ابن عمر هـذا، أنه ينكر على
رافع إطلاقه في النهي عن كراء الأرض ، ويقول: الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم ، هـو الذي كانوا يدخلون فيه الشرط الفاسد، وهو أنهم يشترطون ما على الأربعاء، وطائفة من التبن، وهو مجهول
>[22] .
وفي رواية لنافع، أن ابن عمر كان يؤجر الأرض، قال: فنبئ حديثا عن رافع، قال: فانطلق بي معه إليه. قال: فذكر عن بعض عمومته،
( ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن كراء الأرض، قال: فتركه ابن عمر فلم يأجره ) ، رواه
مسلم بهذا اللفظ.
ومنها رواية
سالم بن عبد الله :
( أن عبد الله بن عمر كان يكري أرضه، حتى بلغه أن رافع بن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء الأرض، فلقيه عبد الله فقال: يا ابن خديج، ماذا تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض؟ [ ص: 131 ]
قال رافع بن خديج لعبد الله: سمعت عمي - وكانا قد شهدا بدرا - يحدثان أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض. قال عبد الله: لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تكرى، ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث في ذلك شيئا لم يكن يعلمه، فترك كراء الأرض ) رواه
مسلم . وأخرج
البخاري قول عبد الله بن عمر الذي في آخره.
وفيها رواية
أبي النجاشي ، مولى رافع بن خديج، عن رافع أن
ظهير بن رافع - وهو عمه -
( قال ظهير: لقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقا، فقلت: وما ذاك؟ ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو حق.
قال: سألني كيف تصنعون بمحاقلكم؟ فقلت: نؤاجرها يا رسول الله على الربع، والأوسق من التمر والشعير، قال: فلا تفعلوا، ازرعوها، أو أزرعوها، أو امسكوها ) "رواه "البخاري"، وفي روايته: « قال رافع: قلت: سمعا وطاعة » ، ورواه مسلم وهذا لفظه.
ومنها رواية
سليمان بن يسار ، عن رافع بن خديج، قال:
( كنا نحاقل الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنكريها بالثلث، والربع، والطعام المسمى، فجاءنا ذات يوم رجل من عمومتي فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا: نهانا أن نحاقل الأرض، فنكريها على [ ص: 132 ] الثلث، والربع، والطعام المسمى، وأمر رب الأرض أن يزرعها، وكره كراها، وما سوى ذلك. ) رواه
مسلم بهذا اللفظ، وله طرق.
وممن رواه من الصحابة:
جابر بن عبد الله وله ألفاظ كلها في "الصحيح، منها عن جابر قال:
( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض. )
ومنها، عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليزرعها أخاه. )
ومنها،
( قال جابر: كان لرجال فضول أرضين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كانت له فضل أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه ) . ومنها، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من كانت له أرض فليزرعها، أو ليزرعها أخاه، ولا يكرها. )
والكل من رواية
عطاء عنه
>[23] .
ومنها رواية
سعيد بن ميناء عنه
>[24] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( من كانت له فضل أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه، وقال [ ص: 133 ] ولا تبيعوها ) قال الراوي عن
ابن ميناء : ما:
( ولا تبيعوها ) ، يعني الكراء ؟ قال: نعم.
وممن روى ذلك من الصحابة
أبو هـريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال:
( من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه، فإن أبى فليمسك أرضه ) . رواه
مسلم مسندا عن
حسن بن علي الحلواني ، عن
أبي توبة ، عن
معاوية ، عن
يحيى بن أبي كثير ، عن
أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هـريرة
>[25] . وذكره البخاري تعليقا.
يقول
البلقيني : ولذلك سبب، وهو ما جاء عن
رافع بن خديج قال: " كنا أكثر أهل المدينة مزرعا، كنا نكري الأرض بالناحية منها على مسمى، فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض، ومما تصاب الأرض ويسلم ذلك، فنهينا. فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ " رواه
البخاري . وعن رافع بن خديج قال: " كنا أكثر
الأنصار حقلا، كنا نكري الأرض على أن لنا هـذه ولهم هـذه، قال: فربما أخرجت هـذه، ولم تخرج هـذه، فنهانا عن ذلك. فأما الورق فلم ينهنا " ، رواه مسلم، وهذا لفظه.
" وروى البخاري عنه
>[26] قال: " كنا أكثر أهل المدينة حقلا، وكان
[ ص: 134 ] أحدنا يكري أرضه فيقول: هـذه القطعة لي، وهذه لك، فربما أخرجت ذه، ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم -وفي لفظ له أيضا- فربما أخرجت هـذه ولم تخرج هـذه، فنهينا عن ذلك، ولم ننه عن الورق " .
ولمسلم عن
حنظلة بن قيس الأنصاري ، أنه سأل
رافع بن خديج عن كراء الأرض ، فقال:
( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض، قال: فقلت: أفي الذهب والورق؟ قال: أما الذهب والورق فلا بأس به. )
وفي رواية لمسلم عن حنظلة، قال: " سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق، فقال: لا بأس به، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هـذا ويسلم هـذا، ويسلم هـذا ويهلك هـذا، فلم يكن للناس كراء إلا هـذا، فلذلك زجر الناس عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به "
>[27] .
[ ص: 135 ]
فهكذا يتتبع
الإمام البلقيني الروايات التي تتضمن سبب الورود، وما تتضمنه هـذه الروايات من مواقف للصحابة رضوان الله عليهم، كموقف
عبد الله عمر رضي الله عنه من تسليمه وإذعانه لأمر لم يكن يعلمه من قبل، وإذعان
رافع لما أمر به، وإذعان الرجل من بني عمومته، ولو كان في تصوره لا يطابق منفعة كما قال: " ... عن أمر كان لنا نافعا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا. "
وما يصحب هـذه المواقف من بيان ما كان عليه الناس في معاملاتهم، وتوافق الفتوى على ما كانوا عليه، وبيان أسباب النهي وملابساته، وغير ذلك من الفوائد العلمية، التي يقف عليها المتتبع لأسباب الورود.
يقول البلقيني - بعد إيراد هـذه الروايات -:
فقد صرحت هـذه الروايات بالسبب المقتضى للنهي: وأما ما سبق من رواية
سليمان بن يسار ، عن رافع، عن رجل من عمومته، التي فيها النهي عن كراء الأرض بالطعام المسمى - وقد رواها
مسلم من طريق
أبي الطاهر عن رافع، من غير ذكر: بعض عمومته فهو محمول على الطعام المسمى من تلك الأرض، لا على المضمون في الذمة، ولهذا السبب طرق أخرى من رواية رافع. وأما رواية
جابر -يرفعه- قال:
( كنا نخاير على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من القصرى ومن كذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كانت له أرض فليزرعها، أو فليحرثها أخاه، وإلا فليدعها ) رواه مسلم.
[ ص: 136 ]
وله عنه قال:
( كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نأخذ الأرض بالثلث أو الربع، بالماذيانات؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها ) >[28] .
ويخلص البلقيني إلى تحرير القول في هـذه الروايات، فيقول: فظهر بذلك أن النهي عن كراء الأرض في حديث
جابر ، إنما كان لهذا السبب، لا أنه نهى عن الإجارة مطلقا.
ويكون نهي عن كراء الأرض بما كان يعتاد من الأمور التي فيها الغرر والجهل، ويؤدي إلى النزاع.
ويشهد له ما جاء عن
سعد بن أبي وقاص :
( أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزروع، وما سقي بالماء مما حول البئر، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختصموا في ذلك فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا بذلك، وقال: اكروا بالذهب والفضة. ) رواه
الإمام أحمد - وهذا لفظه -
وأبو داود ،
والنسائي . وللعلماء في هـذه الأحاديث مقالات ليس هـذا موضع بسطها.
[ ص: 137 ]
وينبه "البلقيني" في دراسة أسباب ورود الحديث، إلى أن السبب قد يكون من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد يكون في طريق من طرق الرواية، وقد لا يكون في آخر. وهذا يقتضي التتبع والجمع للأسباب، يقول البلقيني: وما ذكر في هـذا النوع من الأسباب: قد يكون ما ذكر عقد ذلك السبب من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، أول ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت. وقد يكون تكلم به قبل ذلك لنحو ذلك السبب، أو لا لسبب. وقد يتعين أن يكون أول ما تكلم به في ذلك الوقت لأمور تظهر للعارف بهذا الشأن.
ويشير إلى موارد هـذه الأسباب بقوله: وفي أبواب الشريعة والقصص وغيرها، أحاديث لها أسباب يطول شرحها. وما ذكرناه أنموذج لمن يريد تعرف ذلك، ومدخل لمن يريد أن يضيف مبسوطا في ذلك. والمرجو من الله سبحانه وتعالى ، الإعانة على مبسوط فيه، بفضله وكرمه. فهذا الأنموذج الذي قدمه الإمام البلقيني في أسباب ورود الحديث، هـل يعد مدخلا لمن يريد أن يضيف مبسوطا في ذلك؟
[ ص: 138 ]
لقد قدم
البلقيني هـذه الدراسة الموجزة لتكون مدخلا لمن يريد الإضافة، ولكنها مع إيجازها قد وفت بما يرجوه القارئ والدارس من الأعمال الأولى الممهدة للطريق، فقد بين في دراسته ما يلي:-