الباب الأول
الفصل الأول
قيم الحياة الروحية والخلقية
يعطي الإسلام مساحة واسعة لتوضيح صلة الإنسان بالخالق عز وجل من خلال التعريف بالخالق وصفاته، وكيفية عبادته ودعائه، وتوجيه مشاعر الإنسان نحوه، وتتسم العلاقة بالحب والطاعة خلافا لمشاعر الأمم التي اعتبرت نفسها في صراع مع الآلهة التي اخترعتها، كاليونان حيث نازعوا آلهتهم للحصول على الأسرار الطبيعية، ولازالت وريثتهم " الحضارة الغربية " تعبر بـ " قهر الطبيعة " وبـ " موت الإله " في أدبياتها، عند كل إشارة إلى انتصار علمي أو تقدم فكري يحققه الإنسان، فلا يزال إنسان الحضارة الغربية في حالة صراع مع " الله " رغم سيطرة الكنيسة ومفاهيمها خلال العصور الوسطى الطويلة، حيث لم تنتزع منهم جذور الصراع الوثنية، بل سقطت هـي في حبال الوثنية عندما قبلت برفع الصور ( الأيقونات ) في أماكن العبادة. وقد ركزت الفلسفات المادية الحديثة على علاقات الإنسان بالطبيعة والمجتمع وأهملت علاقته بالله، عندما قسمت المعرفة إلى طبيعة ( فيزيقيا ) وما وراء الطبيعة ( ميتافيزيقيا ) فاعترفت بالأولى، وأنكرت الثانية، واعتبرتها أساطير وخرافات ابتدعها الإنسان في بداية وعيه بالذات والحياة في فجر التاريخ. ولا شك أن الانقطاع عن عالم الروح انعكس على علاقات الإنسان الاجتماعية والكونية.
[ ص: 56 ] إن عبادة الله في الإسلام منظمة بصورة دقيقة، وهي تولد الاستقرار النفسي والصمود في مواجهة أعباء الحياة، فهي تهيئ فرصة التواصل العميق وعدم الإحساس بالتوحد والوحشة، والقدرة على المناجاة، مع الاطمئنان إلى قدرة الخالق على عون الإنسان ورحمته به، وهكذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة بأنها " معراج المؤمن " . ويلاحظ أن العبادات تؤثر في النفس والجسم معا، وتولد توعية وإحساسا في الزمن عن طريق الانتباه المستمر لأوقات الصلاة يوميا، والصوم شهرا من السنة، والحج في أشهر معلومات. ولا شك أن استثارة الوعي بالزمن له قيمة عظيمة في وعي الإنسان بوجوده وبأهمية حياته.
ووحدة الخالق وتوحيده في العبادة حرر الإنسان من عبودية الذات ومن الخضوع المهين للآخرين، وبذلك يحقق الإنسان قدرا عظيما من الوعي بالحرية والمحافظة عليها، والاعتزاز بالنفس والشعور بالكرامة للإنسان بصرف النظر عن اختلاف العرق واللون والمعتقد
( ولقد كرمنا بني آدم ) [الإسراء:70].
ليس ثمة صراع بين آلهة كما في الوثنية اليونانية والزردشتية والمانوية. ليس للشر إله يدافع عنه. والإنسان متوحد لا تمزقه الثنائية بين إلهين أو أكثر.
والاعتقاد بالشفاعة بالآخرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يشفع لأمته، والأولاد لآبائهم، والمؤمنون الصالحون لمن قصرت بهم أعمالهم، مما يدل على امتداد التواصل والرحمة والرغبة في مشاركة الآخرين في النعيم، وكان ما ربي عليه المؤمنون في الدنيا من تعاون وبر وعدم الأثرة والشفاعة
[ ص: 57 ] لبعضهم في استحصال الحقوق يمتد إلى الآخرة
( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ) [النساء:85]، وقد أثرت الشفاعة بعمق في بنية المجتمع الإسلامي، فلم يحس الفرد بأن عليه أن يناضل وحيدا في الدنيا للوصول إلى حقه، بل يمكن أن يستند إلى الآخرين الذين لن يقفوا مكتوفي الأيدي ودون اكتراث، بل سيقدمون له العون في الخير. ويمكن أن نشير إلى حادثة إطلاق الألوف من سبي قبيلة هـوازن بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم . كما أن تحريم الشفاعة في حدود الله وتطبيقها ولد اطمئنانا على حقوق الناس وعقوبة الجناة دون تدخل من أية سلطة.
إن إيمان المسلم بالآخرة لم يؤد إلى الاسترخاء والرضى بالتعويض عما يفوته من حقوق في الدنيا، بل جعله يحس بالامتداد في الزمان والمكان، واطمأن من رغبته النفسية بـ " الخلود " تلك الرغبة التي عبرت عنها الميثولوجيا اليونانية والبابلية والمصرية. وأما ما يزعم من كون الإيمان بالآخرة والجنة والنار يخدر الجمهور عن حقوقهم ومصالحهم في الدنيا، فيرده أن الإسلام يؤكد على المحافظة على الحقوق ويعد عليها الجنة
( ومن قتل دون ماله فهو شهيد ) >[1] . وينبغي أن تفهم العقيدة بصورة شاملة، وهذا مفهوم بالنسبة لكل فلسفة ومنهج ونظرية حياة. فالإسلام هـو الوعي الدائم بالحق وللحق.
كما أن التطلع للآخرة ولد معنى لثبات القيم الخلقية، ما دام الإنسان يجد امتدادا لحياته وحسابا على أعماله، وهكذا يستثمر حب الإنسان لنفسه وخوفه عليها، ورجاءه لها في العمل الصالح ابتغاء الرضوان والجنة في الآخرة.
[ ص: 58 ] وثمة موازنة بين الخوف والرجاء، فلا يجنح الإنسان إلى الخوف الشديد الذي يحول حياته إلى كوابيس واكتئاب يحطم نفسه، ولا يمضي عابثا مسرخيا بحجة أنه يرجو رحمة الله، لذلك حذرت الآيات والأحاديث الإنسان من الاغترار، فإذا توازن الخوف والرجاء في قلب المؤمن أفضى ذلك إلى التقوى وعلامتها طاعة الله.
إن المحور الذي يدور حوله النشاط الإنساني كله هـو " إرضاء الخالق " ، فالمسلم في فاعلياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يحس بأنه يعبد الله ما دام يحسن في عمله، وما دام ينوي به القربى والشكر والتوكل والرضى والحب، وكل ما يغذي الروح ويحي القلب ويوثق صلته بالله، من قراءة القرآن ونوافل الصلاة وكثرة الصدقة وأعمال الخير والبر، مع خلوص النية، ومعالجة أمراض النفس والروح. وقد كان لهذه المعاني أثر عظيم في نفوس المؤمنين على تباين مستوياتهم الثقافية، وتمايز أعمارهم، وتنوع أذواقهم، واختلاف بيئاتهم، من حيث صياغة شخصياتهم، وتشكيل بنيتها النفسية وقيمها الروحية والجمالية، وتحديد مقاييسها الخلقية وضوابطها الاجتماعية، ووعيها بمكانها من الكون والتاريخ. إن قراءة كتاب كبير مثل " سير أعلام النبلاء " للذهبي، يمكن أن توضح البعد التاريخي لهذه المسألة.
إن دعاء الله بالأدعية المأثورة تولد عزيمة قوية وصمودا نفسيا عاليا، وتطرد غياب المعنى والإحساس بالعبثية والسأم، ولنتأمل في أثر الدعاء على
[ ص: 59 ] المؤمن من دعاء مأثور نصه:
( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال ) >[2] أية طاقة نفسية يمكن أن تتولد في النفس أيا كان مصدر متاعبها ومعاناتها وهي تحس بالعون الإلهي في مغالبة القهر والذل والشقاء.
وقد جمع الإسلام بين كليتين عظيمتين، الأولى: القضاء والقدر، والثانية: مسئولية الإنسان عن العمل، وهذا الجمع يكفل تحقيق الطمأنينة وإزالة عقد الذنب والخوف، ويولد روح المغامرة والبذل والفداء والتضحية، ويحدد بقوة ووضوح مسئولية الإنسان، فهو يدبر أمره حسب اجتهاده؛ لأنه لا يعلم الغيب ولا يستطيع أن يستفيد من مصادر غيبية توضح ما سيحدث في الحياة مما كتب الله عليه.
إن الخوف من الحتميات القدرية، والذي طبع آداب اليونان لا مكان له في أدبيات الإسلام، إلا عندما ينحرف الفهم لعقيدة القضاء والقدر، لذلك عندما اعترض أحد الصحابة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حين اختار لجنده الانتقال إلى الجبال بالشام حتى يرتفع الطاعون، فقال له الصحابي: " أتفر من قدر الله؟ قال: نفر من قدر الله إلى قدر الله "
>[3] والله قريب من الإنسان
( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ) [البقرة:186]. فهو لا يحتاج إلى الوسطاء بينه وبين الله، كالكهنة والقسس ورجال الدين في العقائد والأديان الأخرى، لذلك لم يعرف الإسلام
[ ص: 60 ] نظام الاعتراف الذي عرفته النصرانية، حيث يجلس المرء أمام القس ليفضي بأسرار حياته ويعترف بخطيئاته ملتمسا الغفران، مما يعرض كرامته للامتهان وأسراره للإفشاء.
وقد حاول بعض الناس عبر التاريخ أن يجدوا وسطاء من الحجر والشجر والبشر يناجونهم ويسألونهم، فأعلن الإسلام أنه الشرك وأنه لا وساطة بين الإنسان وربه.
وقد بين الله تعالى أن الناس جبلوا على دعائه وسؤاله واللجوء إليه، وحتى الكفار منهم يذكرونه عند حلول المصائب بهم، وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من دعوة المظلوم
( اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ) >[4] مما يفتح بصيرة المؤمن على عاقبة ظلم الإنسان ويرسي أساسا للعدل السياسي والاجتماعي.
إن باب التوبة مفتوح، وإن الرب غفور رحيم، فالإسلام يتسم بنظرته الواقعية للإنسان، فهو ليس ملاكا ولا شيطانا، بل كائن عاقل رفيع كريم، فيه من أشواق الروح وتطلعاتها ما يرتفع به إلى عليين، وفيه من رغبات الجسم وأهواء النفس ما يلصقه بالطين، فمن طبيعته التسامي والارتقاء والسقوط والالتواء، وقد خلق هـكذا بقضاء الله الكوني، وحكم الله الديني وإرادته تعالى منسجمة مع قضائه الكوني لوحدة صاحب الأمر.، فمادامت طبيعة البشر قابلة للذنب فإن باب الرحمة والتوبة مفتوح أمامه لئلا يحكم عليه بالخلود في الشقاء والخطيئة. وهكذا يحقق هـدفا استراتيجيا هـاما هـو استمرار ربط الأتباع في حالات ضعفهم وارتكابهم الذنوب والمعاصي أو تمردهم على بعض تعاليمه، فحتى أولئك الذين بلغ بهم العداء
[ ص: 61 ] إلى حد شهر السلاح لقتاله أو شهر القلم واللسان ضده أبقى الإسلام باب التوبة مفتوحا أمامهم، والنتيجة هـي الاستمرار في استقطاب الأتباع وكسب الخصوم الذين في لحظة تألق واستبصار تحيا قلوبهم فيحولون السلاح الموجه ضد الإسلام للدفاع عنه.
وأكد القرآن والسنة على أهمية التوكل على الله
( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) [الطلاق:3]، ومقتضى التوكل أن لا يسأل الإنسان إلا ربه ولا يتعرض لسؤال الناس إلا لضرورة قاهرة، ولا تتنافى حقيقة التوكل مع الأخذ بالأسباب، ما دام المسلم يعتقد أن الأمر كله لله، وأن الله " أسند إلى عباده كسبا وفعلا، وأقدارا واختيارا، وأمرا ونهيا " ، فإذا أخذ المسلم بالأسباب المشروعة واستعان بالله على نجاح مقاصده فقد حقق التوكل. وقد أخطأ قوم في فهم حقيقة التوكل فحسبوه في ترك الأخذ بالأسباب، فقعدوا عن السعي والعمل، ومن هـنا اتهم بعض الكتاب الإسلام بأنه يعيق نهضة المسلمين لما يغرسه فيهم من روح التواكل والعجز والكسل، ولكن الواقع التاريخي يردهذه التهمة، ففي عصر التوكل الصحيح ازدهرت الحضارة الإسلامية والدولة الإسلامية والقوة الإسلامية. ولما انحرفت المفاهيم أصابها التدهور والانحطاط.
والإسلام دين يسر وسماحة
( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ) >[5] ، وفي الحديث:
( بعثت بالحنيفية السمحة ) >[6] . فالإسلام يراعي طبيعة الإنسان وحدود طاقته وينهى عن التعمق والمغالاة والتشدد والتكلف،
[ ص: 62 ] فلا يكبت طاقات الإنسان وتطلعاته وحاجياته ولا يحرمه من الراحة والطعام، والزواج والنوم، بل ينهاه عن الانحراف إلى الرهبانية وتعذيب النفس، وتدل شواهد عصر النبوة على هـذا كله، فقد منع الرسول صلى الله عليه وسلم زوجه
زينب بنت جحش من تعليق حبل تستعين به على الوقوف في الصلاة قائلا:
( حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد ) >[7] ( وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه لأبي الدرداء : " إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. " فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره فقال: صدق سلمان ) >[8]
وبالطبع فإن كتب التراجم مليئة بآثار القيم الروحية والخلقية في الإسلام على الحياة الواقعية خلال التاريخ الإسلامي، وهي آثار تقوى بقوة الوعي الإسلامي لدى النخبة والجمهور وتضعف بضعفه.
[ ص: 63 ]