الفصل الثاني
قيم الحياة السياسية
حددت الشريعة الإسلامية الحقوق والواجبات، فهي هـبة إلهية للأمة الإسلامية، وبالتالي فإنها مقدسة لا يجوز التفريط بها والتخلي عنها. خلافا لما حدث في التاريخ الأوروبي من نضال طويل، حلقاته دامية، لنيل الحقوق العامة من حرية التعبير، واحترام المرأة، والتكافؤ أمام القانون، والعدالة الاجتماعية في توزيع الثروة القومية، ورقابة الرأي العام على السلطة السياسية بعد مجيئها تعبيرا عن إرادته في إطار الانتخابات العامة.
إن حيازة المجتمع الإسلامي لحقوق دون نضال قد يتولد عنها سهولة التخلي عنها أمام الضغوط المتنوعة، ولكن هـذا التخلي لن يحدث إذا كانت الأمة الإسلامية تمتلك الوعي الإسلامي السليم؛ لأن قدسية الأحكام تجعل الأمة تحافظ عليها وتفتديها بالغالي والنفيس. فحفظ الدين بعقائده وأحكامه وسلطانه مقدم على حفظ النفس والمال، وحفظ النفس والعقل والعرض والمال من مقاصد الشريعة الإسلامية، ثم إن منح الخالق الحقوق للخلق بنصوص الوحي الإلهي من الكتاب والسنة، اقتضى تطبيقه جهادا وبذلا منذ نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم ، حتى استقرت دولة الإسلام في القرن الأول الهجري. فلولا الحركة الجهادية لما قضي على الشرك وطابع الحياة الجاهلية، ولما استقرت معاني العقيدة الإسلامية وقيم الإسلام
[ ص: 64 ] الاجتماعية ومضامينه الخلقية في نفوس الملايين.. ولكن الأجيال الإسلامية المتأخرة افتقدت الوعي الإسلامي السليم، ولم تعد تجاهد للإعلاء من " قيم الدين " لا داخل المجتمع الإسلامي ولا خارجه. وهكذا لم تعد الحقوق والواجبات تحظى بنفس القدسية القديمة، ولم تعد قيم الدين تحرك الأفراد والمجتمعات، حيث انحسر الدين داخل المساجد ففيها تقام شعائره، وفقد تأثيره في حركة المجتمع العامة، حتى إذا ما ظهرت الصحوة الإسلامية في النصف الثاني من القرن العشرين، وتصاعد مدها ليشمل الجماهير العريضة من المسلمين عاد الاهتمام الكبير بقدسية الحقوق والواجبات، وهذا يشير بالعودة إلى " الحضارة " .
إن الإحساس بقدسية الحقوق والواجبات يولد ضبطا اجتماعيا عاليا، ومواءمة بين " الأمة " و " السلطة السياسية " ، كما يخفف من عبء المحافظة على " الأمن " فلا يستطيع الأفراد ولا الجماعات تجاوز الحدود المرسومة، كما لا تستطيع " السلطة " التجاوز على حقوق الأمة، فالحدود المرسومة ليست وضعية، ولا يمكن التحايل عليها، ولا تعديلها ما دامت تنبع من الوحي الإلهي، وتلامس شغاف القلوب، والموقف منها يحدد مصير الإنسان الأبدي.
إن التربية الإسلامية هـي الأداة لتوضيح القيم وتحديد الحقوق والواجبات في الدولة الإسلامية. وإن روعتها تتجلى في إمكانية توفيقها بين تكوين " الإنسان الصالح " و " المواطن الصالح " و " الفرد الصالح " و " المجتمع الصالح " بالخروج من تناقضات المصالح بين هـذه " النماذج " إلى أفق أرحب يغذيه الإيمان بالله وبالآخرة. وتناقضات المصالح تواجه بقوة التربية العلمانية، سواء منها القومية أو الأممية، فكل " نموذج " يزيح " النموذج الآخر " ويعمل على تهميشه، في حين تزول المشكلة في نطاق التربية الإسلامية، حيث ينسجم الخاص والعام بصورة عجيبة في اتساقها وتلازمها.
[ ص: 65 ] وقد هـيمنت التربية الإسلامية في القرون الأولى على جماهير غفيرة من الأمة الإسلامية، وتكونت " النخبة " في عصر السيرة والراشدين وفق مفاهيمها وقيمها وأنماطها السلوكية، ولكن وسائل الاتصال المحدودة في ذلك العصر لم تمكن " النخبة " من توسيع دائرتها وتكوين قاعدة عريضة وسط الجماهير الغفيرة، والتي تمتد مساكنها عبر آلاف الأميال من الرمال القاحلة، رغم جهود النخبة الهائلة في هـذا السبيل، فلم تنقطع رحلات المعلمين والدعاة في البوادي خلال عصر السيرة رغم الأخطار المحدقة بها، كما يلاحظ في حادثتي " الرجيع " و " بئر معونة " .
ومنذ بناء الأمصار الجديدة " البصرة " و " الكوفة " و " الفسطاط " و " القيروان " اهتمت النخبة بتوضيح مفاهيم الإسلام للجمهور بواسطة الحلقات العلمية والدروس وخطب الجمعة والمواعظ. ولا شك أن دائرة النخبة الفكرية اتسعت في عصر الراشدين. وزاد اتساعها بعد استقرار الفتح في العصور الأموية والعباسية. وتمكنت النخبة والجمهور الموالي لها من تدعيم الوعي الإسلامي ونشره، ومنع القوى الأخرى من اختراق المجتمع وإسقاط رموزه وسلطاته.. فأخفقت " حركة الردة " وأعيد توحيد الدولة في خلافة الصديق رضي الله عنه . وسقطت المجوسية سياسيا بسقوط الإمبراطورية الساسانية وانحسرت اجتماعيا إلى مناطق الجبال، حيث أخفقت في التقدم فكريا وعسكريا، وكان اندحار حركة المانوية (الزنادقة) في عهدي المهدي والرشيد إيذانا بنهاية المجوسية فكريا، كما كان سقوط البابكية عسكريا في خلافة المعتصم نهاية لنشاط المجوسية العسكري. وكانت قدرة " النخبة " على تقديم الأطر العقدية والفكرية هـي العامل الهام في إسقاط المجوسية.
ولكن النخبة لم تكن منظمة إلا في حدود التجمعات العامة حول إمام كبير،
[ ص: 66 ] كما حدث في الكوفة تحت لواء الإمام أبي حنيفة، وفي المدينة حيث ارتفع الإمام مالك، وفي مصر حيث الإمام الشافعي، وفي بغداد حيث الإمام أحمد بن حنبل. فكان المتحور حول عالم مجتهد يمتلك فكرا شموليا، ويقدر على التأصيل وإعادة التأسيس وتقديم رؤية شاملة للحياة الإسلامية. ولكن جهود النخبة لم تكن كافية لتأسيس قاعدة عريضة تتمتع بالوعي الإسلامي السليم، ويصعب اختراقها من قبل الأعداء في الداخل والخارج. ومن هـنا تعرضت الحقوق والواجبات للانتقاض أو الانتقاص. وتم اختراق المجتمع من قبل القوى الخارجية. وضعف الوعي الإسلامي الرشيد بصورة تدريجية. وعجزت " النخبة " عن النهوض بالجمهور ثانية إلى المستوى المطلوب.
وأما " السلطة الإسلامية " فإن وعيها الديني كان عميقا في عصر الراشدين، وتمكنت من الحفاظ على وحدة الدولة والقضاء على محاولات التجزئة. كما وعت مهامها في نشر الإسلام، سواء بتوسيع نفوذه السياسي أو بنشر مفاهيمه بالاستعانة بالنخبة من الصحابة والتابعين. ولكن " السلطة الأموية والعباسية " لم تتبن تنظيم النخبة. كما لم تتبن مركزية التعليم، فنلاحظ اختفاء مؤسسات التعليم الرسمي حتى أواسط القرن الخامس الهجري، فكيف يمكن لدولة تقوم على أساس عقدي أن تهمل الإشراف على تربية الأجيال الإسلامية وفق العقيدة والشريعة والآداب الإسلامية؟
وأمام هـذا الفراغ قام التعليم على عاتق العلماء في المساجد والبيوت ثم المدارس الأهلية، يمدهم أنصارهم بالمال والأبنية اللازمة. وأول جهد رسمي في مجال التعليم يظهر على يد الوزير نظام الملك السلجوقي (ت459هـ) .
إن إقبال الجماهير على " التعليم " كان كبيرا بسبب قدسية العلم في المنظور الإسلامي، حيث يمكن حشد العديد من الآيات والأحاديث التي تدفع
[ ص: 67 ] المسلم إلى زيادة وعيه المعرفي، وهذا يفسر إقبال الألوف من الجماهير على حلقات المحدثين والوعاظ، كما يفسر إقبال المئات من الطلبة المجدين على الحلقات العلمية الجادة في فروع المعرفة المتنوعة، والتي غذت المجتمع الإسلامي بقياداته الفكرية خلال أحقاب التاريخ الإسلامي. ونظرا لأن معرفة القرآن والسنة تتصل اتصالا وثيقا بالوعي الديني والدنيوي ومعرفة الحقوق والواجبات، فإنها تقابل دراسة نصوص الدساتير والقوانين الحديثة.
وقد امتد هـذا النمط من التلقي العلمي إلى الجماهير الغفيرة، فكان عبد الله بن المبارك (ت181هـ) يعقد مجلسا للحديث بباب الطاق ببغداد، يحضره عشرة آلاف يكتبون ما يملي عليهم
>[1]
وكان يجتمع عند علي بن عاصم (ت201هـ) ، أكثر من ثلاثين ألفا، وعند ابنه عاصم بن علي بن عاصم ما قدر بعشرين ألفا ومائة ألف
>[2] ، وعند الحسن بن عيسى بن ماسرجس (ت 240هـ) بضعة عشر ألفا
>[3] ، والأمثلة كثيرة على الإقبال الجماهيري المنقطع النظير على تلقي العلم.
ولكن مؤسسات التربية والتعليم وقدرة " النخبة " تبدو أضعف بكثير مما يلزم لاحتواء الأجيال الإسلامية العريضة، إذ لم تكن ثمة وسائل اتصال
[ ص: 68 ] إعلامي قوية كهذه التي توافرت في عصرنا من صحافة ومجلات وكتب وإذاعة وتلفاز تكفل تجانس ثقافة المجتمع وغرس مقاييس وقيم وأعراف سليمة. فضلا عن التوعية الكاملة بالحقوق والواجبات.
ومن الصعب أن نلوم - من منظور عصري - الكثير من قيادات الأمة الإسلامية الفكرية عبر تاريخنا الإسلامي المبكر، واتهامهم بعدم شمول وعيهم لجوانب الحياة العديدة.. وإلا لأمكننا أن نلوم إنسان العصر الحجري لأنه لا يعلم تقنيات الكومبيوتر. بل من الحق أن نعترف بأن الذين اتسموا من أهل العلم والدعوة بشمول الوعي هـم قلة مثلوا منارات الهدى عبر التاريخ الإسلامي في حين اهتم معظم علمائنا بجانب دون آخر، وغلبوا بعض الحقوق والواجبات على حساب الأخرى، ولم يتم طرح متوازن للعقيدة والشريعة والآداب ضمن إطار فكري واضح يرسم مسار الحياة الإسلامية وأطرها وأنماطها الصحيحة إلا بنطاق محدود.
إن أية قراءة في كتب التراث الفقهي الإسلامي وكتب الرقائق والوعظ ستؤكد هـذه الحقيقة، ولا زال الطرح الجزئي للمسألة الدينية هـو الغالب على الساحة الإسلامية حتى الوقت الحاضر،ولا يغيب عن أذهاننا سعة المشكلات المتراكمة بسبب هـذا الطرح وبسبب التأكيد على " المظهر " أكثر من " الجوهر " وعلى الفروع أكثر من الأصول، مع غلبة روح الشكوى والانتقاد والسخط أكثر من مواجهة الواقع ومعالجته بعقلانية واعية تحكمها روح متألقة، وليس المقصود انتقاص موقف النخبة المسلمة التاريخي، بل إن التحليل التاريخي لهذه الشريحة لا زال بحاجة إلى دراسات كثيرة، ولكن الصور المتفرقة تعطي انطباعات أولية عن وقوف أصحاب العقيدة من " النخبة " في صالح الجمهور ودفاعهم عن مصالح الأمة، في حين اندفع أصحاب الشهوات إلى تطمين مصالحهم الخاصة وتبرير الواقع، وبالطبع فإن المرائين يحسبون ضمن أصحاب الشهوات مهما سجل التاريخ
[ ص: 69 ] من شهادات عدد ركوعهم وسجودهم وقيامهم وصيامهم!! وبقية مظاهر التقوى الزائفة التي تقربوا بها إلى الجمهور لإخفاء صورتهم الحقيقية.
إن وزيرا مثل
محمد بن عبيد بن يحيى بن خاقان قلده المقتدر الوزارة بدعم من أم ولد الخليفة المعتضد
دستنبويه ، حيث ضمن لها مائة ألف دينار ووفى لها بذلك! فلا شك أنه رجل طموح مستعد لدفع المال لتحقيق أغراضه في الحصول على منصب الوزارة، ولكنه أمام العامة كان يتظاهر بالصلاح، فكان الخدم يأتونه بالرقاع من دار الخلافة فلا يكلم الواحد منهم إلا بعد مائة ركعة يصليها، ثم يأخذ الرقعة ويقرؤها ويطيل القراءة والتسبيح، ثم يجيب عن الرقعة، فكانوا ينصرفون بوصفه وما رأوا منه، فكان أقوى أسبابه
>[4] . وقد انصرف مرة بمركبه من الدار مع صلاة المغرب، فرأى العامة يصلون في المسجد، فخرج يصلي معهم، وكان صائما فأنفذت له المغنية بدعة - جارية عريب مولاة المأمون ت302هـ - ماءا باردا ليفطر عليه، فلم يفطر عليه، وشرب من ماء دجلة! فهل كان العامة على قدر من الوعي لتقويم شخصية الوزير الصائم الورع الذي يرشي أم الخليفة ليحوز الوزارة؟! والذي يتآمر على حياة علي بن عيسى لئلا يعود إلى الوزارة
>[5] ؟!
ومع ذلك يبقى وعي المسلمين الإنساني أعمق من الآخرين بفضل الوحي الإلهي. ولكن الخبرة البشرية تتراكم وتنضج مع المسيرة التاريخية للإنسان، ولا يمكن أن نتهم أسلافنا بأنهم لا يمتلكون الرؤية الشمولية ولا المؤسسات الناضجة التي تحقق أهداف الإسلام في الحياة، فقد عملوا جهدهم ضمن ظروف تاريخية معينة. لكن هـذا لا يمنع بالطبع تلمس جوانب
[ ص: 70 ] الضعف في مسيرتنا التأريخية. والبحث عن جذور مشكلاتنا الحضارية المعاصرة.
وكما أن السلطة لم تنظم النخبة ولم تسع إلى مركزية التعليم، فإن النخبة لم تتكتل إلا عند الأزمات الكبيرة كما حدث في ثورة
ابن الأشعث ضد
الحجاج الثقفي ، والتي برز فيها أثر القراء، وفي ثورة الربض في
الأندلس والتي برز فيها أثر الفقهاء (202هـ) ، وفي ثورة
أحمد بن نصر الخزاعي في مواجهة
المعتزلة في عهد
الواثق (231هـ) .
وبالطبع لا يعني هـذا خلو تاريخنا من التنظيمات السياسية والاجتماعية، فإن حركات المعارضة من
خوارج وشيعة والحركات المعارضة للإسلام، كالحركات
الفارسية المجوسية والإسماعيلية والباطنية والقرامطة ، وتنظيمات العامة التي تمثلت بحركات الفتوة والأحداث والآخية، كلها تشير إلى قيام تنظيمات سياسية واجتماعية تدل على حركة المجتمع وفاعليته واستمرار الصراع بين العقيدة الإسلامية وأعدائها عبر تاريخنا. وكذلك الصراع الداخلي بين أبناء الملة الواحدة. وكل ذلك دليل حركة وفاعلية. ولكن فيما عدا نظام الفتوة والأحداث، الذي امتد خلال قرن ونصف من العصر العباسي المتأخر، فلا علاقة للسلطة ببقية التنظيمات السياسية والاجتماعية التي تشكلت في الغالب لمناجزة السلطة والقضاء عليها.
إن تنظيم النخبة كان يمكن أن يطور " أهل الحل والعقد " وأن تنبثق عنه مؤسسة للشورى ذات طبيعة مستقرة ودائمة تكون نظاما سياسيا موازيا للنظام البرلماني الغربي، ولكنه منضبط بضوابط العقيدة والشريعة وأخلاقيات الإسلام، وموازين الشخصية الإسلامية. واختفاء هـذه المؤسسة من تاريخنا رغم النص القرآني
( وأمرهم شورى بينهم ) [الشورى:38]،
( وشاورهم في الأمر ) [آل عمران:159]. ولد شرخا كبيرا في تاريخنا السياسي وفي حياتنا المعاصرة، وهو سبب
[ ص: 71 ] الفراغ السياسي الذي نعاني منه.
وقد نجم عن ضعف الرؤية الشمولية لدى الدولة والنخبة معا واستمرار ذلك، حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي (الثالث عشر الهجري) وقوع فراغ كبير في الحياة الإسلامية، وخاصة في الجانب السياسي، حيث ضمرت مؤسسات الشورى أو انعدمت، وقل الوعي بحقوق الإنسان وواجباته، وانحسرت مفاهيم المساواة والعدل والتكافؤ بين المسلمين. وانحصر الإسلام في جانب العبادات الفردية وتشريعات الأحوال الشخصية، وتحول الدين الكامل الشامل الذي ينظم شئون الفرد والمجتمع والدولة إلى دين للأفراد ينظم علاقاتهم بالله عز وجل . مما سهل اختراق المجتمع والدولة أمام الحركات الهدامة قديما وحديثا، فتوزع المسلمون في العصر الحديث إلى كتل وجماعات يضرب بعضها بعضا، ومعظمها يتبنى مفاهيم الحضارة الغربية، ويستخدم مشروعاتها الفكرية والاجتماعية والاقتصادية للنهوض بعالم الإسلام. وقد جر الغزو الفكري إلى تهديم علاقة الإنسان بالله والتشكيك في العقيدة، وبذلك لم يعد معظم الأفراد يمارسون العبادة، كما عدلت تشريعات الأحوال الشخصية في كثير من دول العالم الإسلامي بما يوافق القوانين الغربية.
أما الوعي الإسلامي الجديد بمضامين الإسلام الشاملة والذي بدأ مع حركات الإصلاح الديني في العصر الحديث، فيحتاج إلى الاستناد إلى دراسة تاريخية لواقع الحياة الإسلامية والتربية الإسلامية والتعليم الإسلامي تاريخيا، واستلهام ذلك التاريخ في وضع المعادلات الجديدة بين الأهداف الإسلامية المتنوعة، مع الإفادة من وسائل العصر الحديث في نشر المفاهيم التربوية وتوسيع قاعدة التوعية الجماهيرية.
ونظرا لأن المجتمع الإسلامي مفتوح للقوميات المختلفة، قابل للانتماء إليه، فإن إهمال الدولة لسياسة التعليم والتربية تفقده التوجيه التربوي
[ ص: 72 ] للعناصر الجديدة، مما يولد أخطارا هـائلة تخلخل بنيته وتهدم صروحه. ولو نظرنا إلى العصر العباسي لأدركنا خطورة ما حدث خلاله بسبب إهمال التعليم والتربية المركزيين، وبسبب إهمال بناء مؤسسات الشورى. فماذا فعل الأتراك بخلفاء العصر العباسي الثاني؟ وماذا فعل الزط والقرامطة والزنج؟ وماذا فعلت الخرمية والمانوية والشعوبية والإسماعيلية والباطنية؟!
لقد فسح الفراغ السياسي وضعف أثر الرأي العام المجال رحبا أمام القوى الجديدة - الداخلة حديثا في الإسلام، والتي لم تتمثل تعاليمه بعمق - لتخترق المجتمع والدولة، وتصل إلى أعلى المراكز، وتحتكر السلطة، وتفقد الخلفاء نفوذهم، وتستبد بالأمور دونهم، دون خوف من مؤسسات شورية أو رأي عام يقظ، إذ لم تحدث ردود فعل قوية أو واسعة عند القضاء على السلطة الشرعية أو تحييدها أو تحجيمها إلا نادرا. فماذا فعل سكان العاصمة
بغداد عندما قتل الأتراك
الخليفة القاهر وسملوا عينيه؟! وماذا فعل المسلمون جميعا عندما قتل
المتوكل والمنتصر والمقتدر بالله والمهتدي بالله وعندما سملوا عيني المتقي بالله؟! وماذا فعل الرأي العام الإسلامي عندما سجن البويهيون الخليفة
المستكفي بالله واقتادوه مهانا ذليلا ثم سملوا عينيه وحبسوه حتى مات؟! وما هـي ردود فعل الرأي العام أمام انهيار سلطة الخليفة في العصر البويهي، رغم مظاهر الاحترام الكاذبة التي أحيط بها. ويكفي لتصوير ذلك التأمل في إجابة الخليفة المطيع لبختيار عندما طالبه بتوفير المال للغزو، فأجابه المطيع بقوله: " الغزو يلزمني إذا كانت الدنيا في يدي، وإلي تدبير الأموال والرجال، وأما الآن وليس لي منها إلا القوت القاصر عن كفائي، وهي في أيديكم وأيدي أصحاب الأطراف فما يلزمني غزو ولا حج،
[ ص: 73 ] ولا شيء مما تنظر الأئمة فيه، وإنما لكم مني هـذا الاسم الذي يخطب به على منابركم، تسكنون به رعاياكم، فإن أحببتم أن أعتزل اعتزلت عن هـذا المقدار أيضا وتركتكم والأمر كله "
>[6]
وبالمقابل ماذا فعل الخلفاء العباسيون في سبيل إيجاد رأي عام إسلامي يقظ وواع بأهداف الإسلام ومقاصد الشريعة ومضامينها، مدرك لواقعه ومصالحه، مرتبط في مواقفه بمصلحة الإسلام والأمة؟ ماذا فعلوا من أجل توسعة نطاق الشورى وتأسيس مؤسساتها وتوسيع نطاقها؟
إننا هـنا لا نريد تحديد المسؤولية بدقة، فالوعي الإنساني العام لم يبلغ ما بلغه في عصرنا، ولا يمكن أن نحاسب الذين عاشوا قبل ألف عام وفق مقاييس ومنجرات حديثة، بل المقصود التنبيه على جذور المشكلات التي لازالت تعاني منها مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة.
ولا بد من الاعتراف بأن قوة السلطة في التاريخ الإسلامي كانت تعتمد على قوة الفرد الحاكم دون أن ترتكز على قوة الرأي العام الإسلامي، وأن قوة الرأي العام الإسلامي وهنت بعد ظهور الإسلام بحوالي القرنين، وكانت فاعلة في عصر الراشدين، كما كانت فاعلة في أوساط عديدة بعد عصر الراشدين.
إن انعدام مركزية التعليم أفقد الدولة وحدة التوجيه، وأفقد المجتمع التجانس الثقافي، وإن اختفاء مؤسسات الشورى القوية أفقد الدولة الحماية الشعبية الضرورية، وجعلها تواجه الأعداء بالجيوش المحدودة والأموال المحدودة دون أن يكون للرأي العام أثر كبير في الأحداث. ونجم عن العاملين السابقين ضعف تكوين القيادات في المجتمع، فلإيجاد قيادات
[ ص: 74 ] صالحة خبيرة بصيرة لا بد من إعداد المناهج اللازمة لتكوينها، وفرض استمرارها، وإعطائها الفرص اللازمة للتجريب الميداني. وإن احتكار السلطة بيد الخليفة وحاشيته وبعض وزرائه وقادته ولد الفراغ في الحياة السياسية، وسهل على الأقوام الداخلة حديثا في الإسلام الوصول إلى مواقع متقدمة في السلطة، بل صارت السلطة الحقيقية بأيديهم، مع عدم وعيهم بأهداف الدولة والمجتمع عقديا وفكريا، وعدم وعيهم للإستراتيجية اللازمة للإبقاء على وحدة الأمة وقوتها ووقوفها أمام الأعداء المتربصين.
إن دراسة الرأي العام ومدى فاعليته خلال التاريخ الإسلامي تحتاج إلى أطروحات عديدة تجمع الأسباب الظاهرة وتجلي العوامل الخفية في فاعلية، وركود الرأي العام الإسلامي عبر التاريخ.
لقد ولد اختفاء مؤسسات الشورى القوية في الدولة الإسلامية الطغيان السياسي والحكم الاستبدادي والتسلط الفردي والعبث بمصالح الأمة، وفقدانها الحريات - التي منحتها الشريعة لها - في معظم أحقاب تاريخها، رغم أن أمتنا مارست الشورى فعليا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومارستها في عملية نقل السلطة عند وفاته، وذلك في " بيعة السقيفة " التاريخية، حيث نوقشت قضية الخلافة ورشح الأنصار - وهم أغلبية ساحقة - سعد بن عبادة، ورشح المهاجرون - وهم قلة على رأسهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة - أبا بكر الصديق، وتمكن الثلاثة من خلال الحوار من إحراز أصوات الأكثرية لصالح الأقلية، وهو ما لا يعرف له مثيل في تاريخ البشرية، فقد أثبت الجميع استعلاءهم على مصالح الفرد والقبيلة والمدينة وتقديرهم للمسؤولية العامة، وهكذا صفقوا على يد الصديق رضي الله عنه بالخلافة معلنين " العقد الاجتماعي " مع قائد منهم ليس بأقواهم عشيرة ولا بأكثرهم مالا، ولكن له قدم سبق في الإسلام، وفضل صحبة وجهاد، وتضحية في تاريخ الدعوة والدولة.
وقد تركت بيعة السقيفة طابعها الإجرائي في تاريخ الأمة،
[ ص: 75 ] فكانت البيعة مصدر سلطة الحاكم. وفي أول خطبة ألقاها الصديق بعد استخلافه وضح العقد بينه وبين الأمة وحدود العلاقة السياسية: " إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم... "
>[7] وهذا قبل أن ينادي روسو بنظرية العقد الاجتماعي باثني عشر قرنا.
إن الأمة ملزمة بتطبيق أحكام الشريعة، وهي تنيب الخليفة لتطبيقها، ومن ذلك تحقيق أمن البلاد داخليا وخارجيا، وإقامة العدل بين الناس، والمحافظة على كرامة المواطنين، وقد خاطب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ولاة أقاليم بقوله: " إني لم أستعملكم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أشعارهم ولا على أبشارهم، وإنما استعملتكم عليهم لتقيموا فيهم الصلاة، وتقضوا بينهم بالحق، وتقسموا بينهم بالعدل، ولا تجلدوا العرب فتذلوها، ولا تجمروها فتفتنوها، ولا تغفلوا عنها فتحرموها "
>[8] ، وعمر يوضح أن الأمة هـي صاحبة السلطة، وأنه لا يجوز الافتئات عليها أو تجاوز إرادتها في هـذا الأمر. قال الصحابي الجليل
عبد الرحمن بن عوف : " أن رجلا أتى
عمر - وهو بمنى - فأخبره أن رجلا قال: والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا. فقال عمر - حين بلغه ذلك -: إني لقائم العشية في الناس ومحذرهم من هـؤلاء الذين يغصبون الأمة أمرها "
>[9] ، وعمر هـو صاحب القولة المشهورة التي ردد صداها روسو " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا " .
[ ص: 76 ] إذ قال روسو " يولد الإنسان حرا ولكنه مقيد بالأغلال في كل مكان " . وقد اقتضى الحرص على تطبيق العدالة الأخذ بمبدأ استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية قبل أن ينادي به مونتسكيو في كتابه (روح القوانين) باثني عشر قرنا.
ولكن هـذه التوجهات المبكرة نحو الشورى والحفاظ على كرامة الإنسان، ومشاركة الجمهور في السلطة السياسية انتكست في مرحلتي الدولة الأموية والدولة العباسية، حيث لم تظهر مؤسسات واضحة لتطبيق مبدأ الشورى في الحكم والسياسة، وإن مورست الشورى في نطاق محدود، إذ كان الخليفة يستشير شيعته وأصحابه ووزيره وقائد جيشه. كما أن البيعة استمرت تؤخذ من أهل الحل والعقد لولاة العهد وللخلفاء باعتبارهم ممثلين للرأي العام، ولكن لم يحدث أن تعين رجال الحل والعقد عن طريق الرأي العام، كما لم يكن لهم سوى إبداء الرأي دون أي إلزام للسلطة.
وكان عمر بن عبد العزيز يدرك تحول الحكم عن الشورى، ولكنه كان يعلم أيضا أن النخبة السياسية المسيطرة حوله من الأمويين تمنع أي تعديل في النظام، وقد صرح بذلك بقوله: " لو كان لي من الأمر شيء لجعلتها شورى بين القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وصاحب الأحوص "
>[10]
إن ممارسة الشورى بمعنى أخذ الرأي في المعضلات من رجالات الدولة والمجتمع البارزين والاستنارة بآرائهم كانت ظاهرة واضحة في سائر الأمصار في العصر الأموي. وأما تحديد مجلس دائم للشورى ينتخبه الرأي العام فلم يتوصل إليه المسلمون في تاريخهم السياسي الطويل، ولا يمكن أن
[ ص: 77 ] نحاكمهم وفق تصورات العصور الحديثة للحياة السياسية. وعندها سنتذكر مقولة
كروتشي " التاريخ كله معاصر " لأن المؤرخ يحمل الماضي على مفاهيم وتصورات معاصرة.
ومن الحق التنبيه إلى قيام هـيئة شورى الإمارة وهي ذات طابع جماعي في
الأندلس ، ولكن رجالها من الوزراء كانوا يعينون من قبل الأمير، ولم يحدث أن انتخبوا من قبل الرأي العام، ولم تكن آراؤهم ملزمة للأمير، بل كانت لمساعدته على اتخاذ القرار الصحيح حسب ما يراه.
وكذلك كان ثمة هـيئة شورى القضاء يستعين بها القاضي على الوصول إلى الحكم الصحيح فيما يشبه هـيئة المحلفين في نظام القضاء الغربي، والحق أن ممارسة الشورى كانت تتم في الأندلس بنطاق أوسع من المشرق، مما يعبر عن تقدم الوعي الإنساني العام والذي أثر الفقهاء في تكوينه تأثيرا بالغا
>[11]
وأروع صور الشورى في الأندلس ما بلغته
قرطبة على يد
أبي الحزم جهور بن محمد بن جهور (ت435هـ) وابنه أبي الوليد من بعده، وقد جاء أبو الحزم إلى السلطة بإجماع الملأ من أهل قرطبة، وحاول الاعتذار لكنه قبل حين ألحوا عليه، فكان يحكم بالعدل والشورى، ويترك الأموال بيد الثقات الذين يجمعونها تحت إشرافه بشكل ودائع، مع إقامة الشهود عليهم، فإذا دعت الحاجة يأخذ منهم على قدرها، فإذا سئل إنفاق شيء من قبله قال للسائل: " ليس لي عطاء ولا منع، هـو للجماعة وأنا أمينهم " . ولم ينتقل من داره إلى قصور الإمارة، ولم ينظر في كتاب إلا بحضور الجماعة واستشارة
[ ص: 78 ] فقهاء الشورى، وقد ازدهرت الحياة الاقتصادية
بقرطبة في عهده، وشعر الناس بالأمان فعمروا المدينة بالبناء، وتابع ابنه أبو الوليد خطة أبيه في نشر العدل وإقامة الشرع وإنصاف المظلومين، وقد أظهر الناس الانضباط الشديد، فانقبضت أيديهم عن التظالم وسفك الدماء
>[12]
وقد اختلف أهل العلم في حكم الشورى أهو للوجوب أم للندب في قوله تعالى:
( وشاورهم في الأمر ) [آل عمران:159]. بناء على رؤيتهم لتطبيقاتها في عصر السيرة والراشدين، فذهب إلى أنها سنة مؤكدة ندب إليها الشارع، لكنها لا تصل إلى مرتبة الواجب كل من
الإمام الشافعي وابن تيمية وابن القيم والبيهقي وأبو نصر القشيري والماوردي وأبو يعلى والنووي وابن حجر العسقلاني >[13]
وذهب إلى وجوب الشورى من أهل العلم كل من
أبي بكر الجصاص وابن خويز منداد وابن عطية المالكي وفخر الدين الرازي >[14] . وسواء كانت الشورى واجبا وفريضة دينية أم مستحبة فإنها تصبح لازمة للأمة إذا ظهر أن في تعطيلها إخلالا بمصالح الأمة وإضرارا بالعدل، ولن يعارض أحد التوسع في تطبيقها ما دام فعلها محمودا والإكثار منها خيرا، وخاصة في هـذا العصر، حيث ضعفت ملكات الاجتهاد وتعقدت أمور الحياة، مما يتعذر معه معرفة أحكام النوازل الجديدة الكثيرة دون اجتهاد جماعي، وشورى واسعة دائمة، مما يقتضي تأسيس مؤسسات الشورى الدائمة والرجوع إليها.
ولنتأمل في كلام
ابن تيمية (ت742هـ) وإن كان أمرا قد تنازغ فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه رأيه،
[ ص: 79 ] فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عمل به، كما قال تعالى:
( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) [النساء:59]
>[15] .
ولا شك أن القول بعدم إلزامية الشورى - على إطلاقه - أفضى إلى التساهل في تطبيقها مع مرور الزمن، بدل أن يتطور التطبيق نحو الأكمل والأشمل في فهم آيات الشورى وروحها وإيجاد النظام الذي يكفل التوسع في الأخذ بها.
إن الحوار الذي يوضح ما هـو أقرب إلى الكتاب والسنة ملزم للإمام وللأمة في مسائل الاجتهاد الفقهي، كما أن رأي الخبراء المتخصصين في المسائل المطروحة ينبغي أن تكون له قوة مؤثرة في صياغة القرار الذي يتخذه الإمام (الحاكم) .
إن دراسة تاريخنا ينبغي أن تقترن بالمعايير الخلقية والدينية، وأن يتم الحكم على الفعل التاريخي من خلال قيم مطلقة ثابتة بعيدة عن التأثر بمقولات الغربيين حول نسبية الأخلاق، وما يستتبع ذلك من تسليم بأن المؤرخ ليس قاضيا ولا حكما، وبأنه لا جدوى من الاعتبار والقياس؛ لأن التاريخ لا يعيد نفسه كما يرى هـيجل (ت1381م)
>[16] إذ لا يمكن أن نسوي بين موقف وزير يستشعر مسئوليته أمام الله والأمة ويرتفع إلى مستوى رجل دولة مثل
علي بن عيسى آل الجراح ، الذي عرف بإصلاحاته المالية وورعه وتصدقه بأمواله الخاصة وتغليبه المصالح العامة، حتى أنه لما بشر
الخليفة المقتدر بهزيمة جيش
عبيد الله المهدي بمصر وصله الخليفة بمال عظيم فلم يقبله،
[ ص: 80 ] وتصدق الوزير بأربعة آلاف دينار هـي ثمن غلته كلها
>[17] ، فلا يمكن أن نسوي بينه وبين
أبي الحسن علي بن الفرات وكلاهما وزر
للمقتدر العباسي (حكم بين 295-320هـ) فابن الفرات سعى للمجيء بالمقتدر إلى الخلافة واستبعاد
عبد الله بن المعتز عنها؛ لأن المقتدر صغير السن يمكنه التسلط عليه واستغلال مركزه لمصالحه الخاصة، وأما ابن المعتز فصاحب تجربة ومعرفة بالوزراء والكتاب وأحوال البلاد، فلا يتمكن الوزير من التلاعب بمقدراته، فكان أن استبعده. وقد استغل الوزير العباس بن الحسن مثقفا كبيرا هـو
أبو بكر محمد بن يحيى الصولي (ت335هـ) ليؤلف رسالة في صفة الأحداث والشبان ليبرر تولية المقتدر الخلافة وهو صبي، ففعل الصولي دون أن يحاول بذل النصيحة للوزير مراعاة لمصلحة الأمة والدولة، بل مضى الصولي يجد التبريرات للوزير ابن الفرات عندما انتشرت كتابات الناس المعبرة عن نقمتهم عليه على جدران مسجد الخليفة، فأمد الصولي الوزير سنة 299هـ برسالة تاريخية من المتوكل إلى والي الشرطة يأمره فيها بمحو ما كان على المساجد من الكتابات إلا القرآن. فنفذ ابن الفرات ذلك ليمسح عبارات المعارضة من المسجد. بل عندما قبض على ابن الفرات ونحي من الوزارة قيلت فيه أشعار هـجاء كثيرة لم يذكرها الصولي إكراما لابن الوزير. بل تمادى الصولي فألف كتابا في مناقب علي بن الفرات، فكان الصولي بهذا كله يسجل موقف المثقف الشاب الذي يدفعه طموحه للشهرة والمال إلى تسخير علمه لمصالح فئة صغيرة في أمر خطير هـو الخلافة دون مراعاة مصلحة العقيدة وجماهير الأمة. ويبدو أن الصولي تحسن موقفه وجنح إلى
[ ص: 81 ] الموضوعية أكثر بعد أن كبر في السن، ونضجت خبرته في الحياة
>[18] .
ولأهمية حاشية الخليفة وبطانته أكد الإسلام على أهمية انتقاء البطانة تحصينا لمواقع القيادة في الدولة، فقصرها على أهل الإيمان والاستقامة والصلاح
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ) [آل عمران:118]. ولنستعرض بعض المواقف التاريخية التي توضح موقف الحاشية وأثرها في رعاية حقوق الأمة أو إهمالها:
في سنة 260هـ أصاب
بلاد الأندلس محل، ولم يبذر الناس شيئا، وكان والي
قرطبة حينئذ هـو
الوليد بن عبد الرحمن بن غانم ، فاستدعى الأمير محمد بن عبد الرحمن - (238-273هـ) - الوزراء وأصحاب المشورة، وسألهم: هـل يمكن فرض العشور على الغلات؟ فكلهم أفتى بجواز ذلك، على الرغم مما يعرفون عن سيطرة المجاعة على الناس، وانفرد والي قرطبة بالمعارضة قائلا: " إنما العشور على الغلات، وهذا عام لم يزدرع فيه بذر، ولا استغل زارع، فاقبل معذرة رعيتك، وارجع إلى ذخائرك في أمرائك وبيت مالك، فأنفق على أجنادك، ورفه رعيتك تعنهم على العمارة فيما يستأنفون، فإنه الحق على مثلك من ولاة العدل، فقد بلغنا أن طواغيت الروم فعلته بقسطنطينية ورومة، وأنتم أولى بذلك " ، ولم يوافق رأي ابن غانم ميول الأمير، وتطوع أحد الطامعين فضمن للأمير جمع نصف العشر على الأقل، فاستقال ابن غانم وفشل الطامع في جمع ربع العشر، فضلا عن نصفه بعد عسف الناس وضربهم، وفاء الأمير واعتذر لابن غانم،
[ ص: 82 ] وحاول توليته من جديد لكن ابن غانم أبى عليه
>[19]
وفي دولة الموحدين في المغرب تشاور أهل الحل والعقد بمراكش لما توفي
أبو يعقوب المستنصر في تعيين من يتقلد الأمر بعده، فرشح بعضهم
أبا محمد عبد الواحد أخا المنصور - وكان مذكورا في بيتهم بحزم وجودة وصلاح - ورشح آخرون
أبا محمد بن عبد الله العادل ابن المنصور - وكان يرمى بالميل إلى البطالة وإيثار الشهوات والإخلاد إلى الراحات - وهنا انبرى العالم المحدث أبو الحسن بن القطان موضحا الفرق بين المرشحين، متمثلا ببيت من الشعر:
إذا رتل القرآن في جنح ليله أبي بن كعب لم يغن مخارق
وقد اتفق أهل الحل والعقد على تقديم أبي محمد عبد الواحد أخي المنصور، في منتصف ذي الحجة عام 620هـ. ثم خلع وقتل صبرا بعد أشهر. مما أدى إلى طرد أبي الحسن ابن القطان من دخول القصر ومحاضر خواص الطلبة فيه، وكان يكنى عنه متى جرى ذكره بـ " المخارق " . وقد اشتد قلق أبي الحسن القطان من الأمير الذي لم يفرط في عقوبته بسبب خدماته لأبيه وعائلته.
إن الموقف الجريء الواضح قد يدفع صاحبه ثمنا غاليا. ولا شك أن موقف
ابن القطان كان صحيحا يتفق مع أمانة المسئولية والنصح التي ينبغي أن يتصف بها أهل الحل والعقد..
>[20]
لا شك في حدوث هـبوط في مستوى القادة عقديا وخلقيا في بعض مراحل
[ ص: 83 ] التاريخ الإسلامي، وأحيانا ينعكس الهبوط على جندهم، كما حدث في
الموصل في ولاية
يحيى بن محمد عم أبي العباس السفاح عليها سنة 123هـ، حيث قتل ألوف المسلمين دون حق، وبعد إعطائهم الأمان ودخلوا المسجد الجامع، وقد قتل الجند العباسي الرجال والنساء والصبيان، مما سجل تفاصيله مؤرخ الموصل ومحدثها
أبو زكريا الأزدي (ت334هـ) ، وسجل بشجاعة قول
عويمر الأعرابي معقبا على تلك الأحداث: " كذب والله من زعم أن هـؤلاء مسلمون "
>[21] . وقد نجم عن الصراع بين
الأمير معز الدولة بن بويه والأمير ناصر الدولة بن حمدان ، صاحب الموصل، أن نهبت أموال العامة وسبيت النساء!!
ومثل هـذا تكرر في أحداث أخرى، وإن كانت محدودة أيضا، مع أن القيم المتعلقة بحقوق حفظ الحياة والعرض والمال واضحة وصريحة ومؤصلة؛ ففي القرآن:
( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) [المائدة:45]. وفي الحديث:
( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) >[22] . فلو كان وعي الجماهير بمدلول هـذا الحديث وما سبق من قرآن، فإنه لا يتجرأ أحد على قتل النفس وسلب المال واغتصاب العرض دون خوف من الله ودون ردع من تشريع. ويمكن أن نعزو بيع المناصب العامة في العصور العباسية المتأخرة بما فيها مناصب القضاء، وكثرة مصادرات الوزراء والقادة والأغنياء إلى ضعف الوعي الديني، وتجاوز أحكام الشريعة، وإن كانت بعض المصادرات لها ما يبررها من حيث عدم شرعية موارد الثروة.
[ ص: 84 ] لقد استطاع الوزير أبو الحسن بن الفرات أن يتقلد الوزارة
للمقتدر بالله بعد أن تعهد بتقديم مبالغ كبيرة للخليفة ولأمه المعروفة بالسيدة
>[23] .. ولما عجز
الوزير حامد بن العباس عن دفع الأموال للخليفة وحاشيته كما كان يفعل ابن الفرات عزل عن الوزارة. وقد بلغت الجرأة بالأمير
فخر الدولة البويهي واستهانته بالرأي العام أن استوزر ابن بقية صاحب مطبخه!! فصار الوزير أضحوكة وموضع تندر بين الناس
>[24]
وقد سادت الفوضى وكثر قطاع الطرق واللصوص
ببغداد في إمارة الدولة البويهية، حتى عمد والي بغداد البويهي إلى تعيين كبير قطاع الطرق حمدي رئيسا لشرطة بغداد ليتقاسم معه النهب. فعاقبه الله بأن سقطت أخته لطيفة مع جواريها وهي عائدة عند المغيب من الحمام بيد اللصوص، ولم يتمكن حمدي من إعادتها، فما كان من الحاكم إلا أن أعلن أن أخته لم تخطف وأنها في دارها مصونة، وقد تحولت إلى بغي في دار للبغايا، فكانت تقول لزبائنها: أنها أخت زفت الدولة تشهر به غضبا من فعلته الخسيسة
>[25] . وهذا كله يشير إلى ضياع القيم الدينية في أوساط النخبة السياسية آنذاك.
ولا شك أن قوة السلطة ازدادت في العصر الحديث، بسبب التدريب العالي وتراكم الخبرة وتوافر التقنية المساعدة على الضبط الاجتماعي، مما يجعل من الضروري زيادة وعي الأمة العام للحفاظ على الحقوق والحريات والتكافؤ في فرص الحياة، وعدم تحول السلطة إلى قوة قمع واستعلاء واستغلال النفوذ لتحقيق مصالح أشخاص معدودين.
[ ص: 85 ] إن الضمانات الدستورية والقانونية وحدها لا تكفي، بل لا بد من قيم دينية راسخة تحفظ الحقوق وتمنع التجاوز، وأن تكون " التقوى " في نفوس الجميع حكاما ومحكومين، ومما يؤكد هـذا المعنى تلك الفضائح التي تكشفت في بعض دول العالم، والتي تتعلق بالتجسس على وسائل الاتصال الفردية دون أن يمنع من وقوع ذلك التقدم الاجتماعي ورسوخ المؤسسات الديمقراطية
>[26] ..
وقد يهبط مستوى الوعي الديني على صعيد الجماهير كلها، فيشغلون بالدنيا ويرغبون عن الجهاد، وقد تضعف النخبة الفكرية عن استنهاض الأمة؛ ففي سنة 492هـ استولى الصليبيون على
بيت المقدس ، وقتلوا ما يزيد على سبعين ألفا، وسرقوا محتوياته، واستغاث الهاربون منهم بالخليفة
المستظهر بالله " فندب الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد، فساروا في الناس، ولكن لم يفد ذلك شيئا "
>[27] .
إن ضعف الوعي الديني يسهل اختراق المجتمع من قبل المشعوذين والدجالين والراغبين في السلطان. وهكذا كانت حركة الزنج جنوب العراق تشكل اختراقا واسعا للمجتمع، حيث بلغ مقاتلوها 300.000 ثلاثمائة ألف مقاتل، وهذا ينطبق على انتشار الحركة القرمطية في
العراق والشام واليمن والبحرين ، ولو كان المجتمع الإسلامي محصنا بالوعي السليم لما سهل اختراقه من قبل هـذه الحركات المعادية لقيمه ودينه ومصالحه، والتي استباحت دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم.
إن تربية النخبة السياسية على معاني التواضع وتحريم الاستكبار ينعكس
[ ص: 86 ] على الحياة الإسلامية بصورة إيجابية كما لاحظنا في عصر الراشدين بصورة متصلة وفي العصور اللاحقة بصورة نسبية متفرقة.
إن المعلم الأول صلى الله عليه وسلم طلب من أحد أتباعه أن يقتص لنفسه منه، وأخبر عن الله تعالى قوله:
( الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار ) >[28] ، وقال:
( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان. يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال ) >[29] ، وهذا جزاء من جنس العمل. فقد أذلوا العباد في الدنيا وهم يذلون في الآخرة أمام العباد. والمستكبرون في الأرض إن كانوا من أصحاب النفوذ والسلطان يحيلون العباد إلى عبيد يسترقونهم ويستذلوهم، ويمنعون عنهم الحقوق الطبيعية في الحرية والكرامة والتملك والتصرف، بل ويمنعونهم حق اختيار العقيدة التي يدينون بها، ويحملون قيمها وأفكارها، وهو أمر يحرص عليه الأحرار من بني الإنسان أكثر من حرصهم على لقمة العيش ولذائذ الحياة وطيبات الدنيا.
إن المستكبرين في الأرض يمنعون الناس من التعرف على الله تعالى وعبادته؛ لأنهم بذلك يبصرون الحق والباطل، وتتفتح عقولهم على ظلم الاستكبار ومغازيه، ويتولد عندهم الوعي بالحقوق الإنسانية التي وهبها الله تعالى لعباده، فيرفضون الظلم والطغيان والعدوان على حقوق الإنسان، لذلك يبلغ الأمر بالمستكبرين أن يقتلوا الأنبياء ورموز الدعوة إلى الله كما في القرآن
( ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ) [آل عمران:21]. وقد ضرب القرآن
[ ص: 87 ] من فرعون وهامان وقارون نماذج للأفراد المستكبرين
>[30] .
كما مثل للقوة الجماعية المستكبرة بعاد، حيث تمثلت قوتهم بأجسادهم الضخمة وعمارتهم الحصينة ومدنيتهم المتقدمة، دون أن يمتلكوا حضارة روحية وقيما إيمانية
>[31] . وأوضح ما يقع فيه المستكبرون من عبادة الذات وتعظيم قدر النفس
( إن في صدورهم إلا كبر ما هـم ببالغيه ) [غافر:56]. فليست عظمتهم حقيقية، بل توهم وخيال مريض، ومن هـنا اقترن الكبر بالجبروت والظلم للآخرين
( كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ) [غافر:35]. ويخيل لبعض المستكبرين أنهم ليسوا من جنس البشر، فقد كان عظماء اليونان ينسبون أنفسهم إلى الآلهة التي ابتدعتها تصوراتهم الباطلة، وسرى ذلك منهم إلى أمم الغرب في العصور الوسطى، حتى جعلوا دماء الناس وأعراقهم متباينة، فمنها ما هـو دم ملكي أزرق مقدس، ومنها ما هـو رذيل، واستمر ذلك حتى الثورة الفرنسية 1789م.
لقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم مطالب الاستكبار عندما طالبه الملأ من المشركين أن يطرد المستضعفين مظهرا اعتزازه بالإنسان المسلم
( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) [الأنعام:52]، إذ لا مكان في المجتمع الإسلامي للعنجهية والصلف والكبرياء والاستعلاء على العباد،
[ ص: 88 ] فالناس سواسية كأسنان المشط، و
( كلكم لآدم وآدم من تراب ) .
إن التوجيهات الإسلامية حول المساواة، وتكافؤ الفرص بين الناس والتزام العدل المطلق بينهم لم تكن مجرد نظريات، بل أخذت مجراها في الواقع التاريخي، سواء في دئراة الحكومة أو القضاء أو العلاقات الدولية، وربما من أجل ذلك كله قال
هـيجل - (ت1831م) - : " ويعتبر المبدأ الإسلامي - أو روح التنوير في العالم الشرقي - أول مبدأ يقف في وجه البربرية "
>[32]
ويمكن القول أن ظهور الطغاة على مسرح الحكم في تاريخ العالم الإسلامي أخف وطأة من بقية التواريخ العالمية؛ لأن مستوى الطغيان يهبط بسبب القيم الروحية والتربية الدينية، وخاصة القرون الأولى منذ ظهور الإسلام حتى سقوط الدولة العباسية - (656هـ) - على يد المغول.
ومع ذلك يمكن تسجيل حالات عديدة من النزعة الاستبدادية المتطرفة. يقول
عبد الله بن بلقين - آخر ملوك بني زيدي بغرناطة (469-483هـ) - : " وهل الملك والمال إلا للتزين والتجمل به " ، ثم يبرر في كلامه بعد ذلك شرب الخمرة واستعمال الغلمان
>[33] فأين نظرته من نظرة
عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز لمسئولية الملك والخلافة؟ فلا عجب إذا كانت نهاية حكم أسرته على يديه. فهي إحدى سنن الله في سقوط الدول بسبب الفساد والطغيان ولن تجد لسنة الله تبديلا.
ولنتمعن في كلام
إسماعيل بن ذي النون - أحد ملوك الطوائف بالأندلس - يقول: " والله ما أولي غير نفسي، ولا أقوم إلا بسلطاني، ولو نازعنيه فلان وفلان - وذكر السلف الصالح الذي كرم الله ذكرهم - لضربتهم دونه بسيفي ما استمسك بيدي
>[34] .
[ ص: 89 ] إن مثل هـذا الحاكم الفاسق عندما يتجرأ على رموز الإسلام من الصحابة علنا يتحدى الرأي العام وهو مطمئن إلى أنه لن يتعرض لخطر فقدان سلطته، ما دامت مؤسسات الشورى ليست قوية، وما دام السلطان بالغلبة، وما دام التغيير يفضي إلى أخطار ومفاسد لما يسفك فيه من الدماء وينتهك خلاله من الحرمات، إضافة إلى التخريب وضياع الأموال. وهو التبرير الذي تقدم به جمهور الفقهاء لمنع الخروج على الحاكم الفاسق والظالم، وهو تبرير معقول في القرون السالفة، لكنه لم يعد كذلك في العصر الحديث إلا في نطاق العالم الثالث، وإلا فإن وعي الرأي العام وظهور المؤسسات الدستورية والشورية القوية تجعل بالإمكان عزل الحاكم الظالم دون وقوع دماء وانتهاك حرمات وضياع أموال، ونحن نشهد قيام حكام وسقوط آخرين في ظل النظم الديمقراطية الغربية، دون وقوع المفاسد التي تزيد على مصالح قيام حكم عادل
>[35]
إن الرأي الفقهي الذي يميل إلى عزل الحاكم الظالم والفاسق إذا كانت مؤسسات الدولة وقوة الرأي العام تكفل ذلك دون مفاسد أعظم من مصلحة العزل، هـو الذي يتفق مع أصول الحكم في الإسلام، أما احترازات الفقهاء
[ ص: 90 ] الذين لا يرون العزل إلا بإظهار الحاكم الكفر البواح، فهو احتراز مبني على مراعاة مبدأي " المصالح المرسلة " و " سد الذرائع " وهو لا يشكل قاعدة عامة لكل زمان ومكان، وقد زالت العلة في العصر الحديث بتنامي الوعي الإنساني العام، وبظهور المؤسسات الشورية القوية في النظم العصرية.
ويمكن أن ندعم هـذا الرأي بما ذهب إليه عدد من أهل العلم قديما وحديثا، فقد قال
ابن تيمية : " ..وهذا بعينه هـو الحكمة التي رعاها الشارع صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج على الأمراء، وندب إلى ترك القتال في الفتنة، وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لكن إذا لم يزل المنكر إلا بما هـو أنكر منه صارت إزالته على هـذا الوجه منكرا، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف، كان تحصيل ذلك المعروف على هـذا الوجه منكرا "
>[36] . وقال
إمام الحرمين الجويني : " فلا يطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا، فإنهم لو فعلوا ذلك لاصطلوا وأبيدوا، وكان ذلك سببا في ازدياد المحن وإثارة الفتن، ولكن إن اتفق رجل مطاع ذو أتباع وأشياع، ويقوم محتسبا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، وانتصب بكفاية المسلمين ما دفعوا إليه، فليمض في ذلك قدما والله نصيره على الشرط المقدم في رعاية المصالح والنظر في المناجح، وموازنة ما يندفع ويرتفع بما يتوقع "
>[37] . وقد لخص
السيد رشيد رضا آراء أهل العلم بأنهم يرون أن أهل الحل والعقد يجب عليهم مقاومة الظلم والجور والإنكار على أهله بالفعل وإزالة سلطانهم الجائر ولو بالقتال، إذا ثبت عندهم أن المصلحة في ذلك هـي
[ ص: 91 ] الراجحة والمفسدة هـي المرجوحة
>[38] .
لقد آن الأوان ليتخلص المسلمون من تأثير الآراء التي حكمتها ظروف تاريخية، وأن يعيدوا الفاعلية للشورى، وأن يقتربوا من روح المبادئ السياسية الإسلامية بالحفاظ على حقوق الإنسان في المشاركة باتخاذ القرار السياسي، فضلا عن حقوقه الأخرى التي منحه إياها الخالق عز وجل .
إن المشكلة السياسية لا تقتصر على واقع التجزئة في العالم العربي والإسلامي، بل تنفذ إلى نظم الحكم السائدة ومدى قدرتها على النهوض بالأمة حضاريا، تلك القدرة التي تستند أولا على الملاءمة بين النظم وعقيدة الأمة وتراثها. إن عملية نقل النظم الجاهزة والتي تبلورت عبر قرون عديدة من التطور السياسي في عالم الحضارة الغربية بشقيه الديمقراطي الرأسمالي والماركسي، لا يولد سوى الفجوة بين الأمة والنظام. إن النظم المنقولة تشبه إدخال كيان غريب إلى جسم الإنسان، إذ سرعان ما يعمل الجسم على مقاومته ولفظه، وبدلا من أن يساعد النظام على النهضة فإنه يعيقها ويبدد جهود الأمة في الصراع ضده والسعي إلى لفظه بدلا من الصراع ضد الجهل والفقر والمرض الناشئ عن التخلف الحضاري.
إن النظام الاجتماعي والسياسي لا يمكن أن ينقل من بيئته إلى بيئة مغايرة في التراث الثقافي؛ لأنه لصيق ببيئته التي نشأ وتطور فيها، تحميه تربتها وتغذي جذوره ثقافتها وتحيط سياجه أعرافها وتقاليدها. إن بعض المقاطعات السويسرية لازالت تعتمد قانونا غير مكتوب، فالعرف والتقاليد صارت بسبب ثبوتها وديمومتها أقوى من أي شيء مكتوب. والديمقراطية الغربية ترتكز على جذور تمتد قرونا في ماضيها السياسي. ومن هـنا فشلت عملية
[ ص: 92 ] نقل النظم إلى العالم الإسلامي الذي ينبغي أن يحيي تجاربه الذاتية في الشورى وتطبيقاتها المرتكزة على تراثه الثقافي، وعندها سيجد تجاوبا عميقا من الشعوب التي ستحمي الشورى بدافع من عقيدتها وتراثها فضلا عن مصالحها الحيوية في التأكيد على كرامة الإنسان وكفالة حرياته العامة، واحترام رأيه، ومشاركته في بناء حاضره ومستقبله.
إن التأكيد في دراسة تاريخنا السياسي على الجوانب الإيجابية من الشورى والحرية والكرامة الإنسانية وانتقاد عهود الاستبداد والطغيان، لا بد أن يولد الاتجاه السليم المتفق مع العقيدة والشريعة.
إن رفض تحكيم المعايير والقيم الخلقية في الدراسة التاريخية بحجة النسبية والتغيير الذي يلحقها، وبحجة أن التاريخ لا يعيد نفسه لإبطال القياس، أفضى إلى مهزلة خداع البشرية بعظم منجزات الفراعنة المتمثلة ببناء الأهرام والبابليين المتمثلة في بناء الجنائن المعلقة دون الإشارة إلى معنى الانحطاط الإنساني والعلاقات التسلطية التي سيقت بموجبها الأيدي العاملة قسرا وأحيانا سخريا - دون مقابل - لإرضاء شغف الحاكم الطاغية بخلود الذكر عن طريق صرح هـائل يدوم طويلا ما دام لا يستطيع أن يخلد بشخصه جاثما فوق صدور العباد المستضعفين، وبدل أن ينكر المؤرخ الإذلال المقيت للشعوب والطغيان المستكبر، فإنه يمتدح الأعمال باعتبارها منجرات حضارية تدل على التقدم في فن العمارة والهندسة والرياضيات والتكنولوجيا ، وبذلك يسهم في خدمة الطغيان بإيجاد القبول النفسي له. إن هـذا لا يعني عدم التسجيل الموضوعي للمنجزات المادية للعصور، ولكن المطلوب عرضها ضمن الصورة الكلية والتي تبرز في تفاصيلها صور العذاب المقيت الذي عاناه الإنسان في عصور التاريخ بسبب الاعوجاج في مستوى العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
[ ص: 93 ]