الجذور التأريخية للوحدة الإسلامية
لا شك أن ثمة عوامل للشد والجذب نحو المركز هـي التي تحافظ على وحدة الأمة، كما تشد جاذبية الأرض ما عليها من أشياء وأحياء وتمنع تطايرها وافتراقها في الكون الواسع.
إن وحدة العقيدة والثقافة (لغة، تاريخ، تقاليد، وأخلاق) ثم المصالح القائمة على عناصر جغرافية وسياسية واقتصادية هـي أقوى دعائم وحدة الأمة الإسلامية منذ فجر التاريخ الإسلامي. وقد امتدت الدولة التي أسسها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الراشدون إلى منتصف القرن السابع الهجري، عندما سقطت
بغداد على يد
هـولاكو سنة 656هـ، مع مرورها بأحوال متقلبة من الازدهار والقوة والضمور والضعف، حيث من الصعب أن نعتبر تغير السلطة من الأسرة الأموية إلى الأسرة العباسية نقطة تحول سياسي أو حضاري في العالم الإسلامي، فإن الامتداد واضح في حركة الدولة والمجتمع حضاريا وسياسيا وعسكريا، فلم يطرأ تغير جوهري، خلافا لما حدث عقب سقوط بغداد من انهيار حضاري وسياسي لعالم الإسلام.
فالقيادة العباسية لا تختلف عن سابقتها الأموية لغة وحضارة وعقيدة، وقد حاول البعض من المؤرخين في العصر الحديث تصوير الدولة الأموية على أنها عربية التوجه، وأن الدولة العباسية إسلامية التوجه، بدليل المشاركة الفاعلة للفرس والترك في دواوينها ومؤسساتها المدنية والعسكرية. والحقيقة أن الأمويين عينوا الكثيرين من الموالي في دواوين الدولة، كما تثبت ذلك قوائم أسماء الموظفين التي سجلها
خليفة بن خياط - (ت240هـ) - في تاريخه، وأن اعتماد الأمويين على العرب بالدرجة الأولى يرجع إلى قرب عهدهم بعصر الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين،
[ ص: 96 ] حيث قامت الدولة الإسلامية على أكتاف العرب، فالقرآن عربي، والرسول عربي، والصحابة عرب، ومن الطبيعي أن تكون " النخبة " القيادية عربية في القرن الأول، فما حدث من اختلاط النخبة بعناصر أخرى في العصر العباسي هـو نتيجة امتداد الإسلام خارج الجزيرة العربية، خاصة في إيران وما وراء النهر، مما جعل مشاركة غير العرب تزداد على مر الأيام، فكان التطور التاريخي والالتحام بين قوميات شتى سبب ازدياد نفوذ الفرس والأتراك في العصر العباسي، ولم ينجم ذلك عن تغيير فكري وسياسي بعد انتقال السلطة إلى العباسيين.
إن أثر العقيدة في وحدة عالم الإسلام اكتسب قوته من الوعي الإسلامي العميق لدى النخبة المثقفة، التي بذلت جهدا أخلاقيا من أجل الوحدة والتقدم، والتي أثرت على وجهة الجماهير الواسعة خلال القرون الأولى، رغم فقدان مؤسسات الشورى القوية وانحصارها في أهل الحل والعقد المقربين من السلطة، واستبعاد المعارضين عن الحوار في أغلب مراحل تاريخنا، فكانت المعارضة تلجأ إلى السيف دائما، هـكذا فعلت أحزاب المعارضة ضد الأمويين حتى انقض العباسيون عليهم بالقوة، فهل التزمت المعارضة بأقوال الفقهاء؟ وهل التزمت السلطة قبلهم بذلك؟ إن المنتصر كان يكتسب الشرعية دائما، ولازالت المعادلة سليمة حتى الوقت الحاضر.
ولا شك أن القرآن والسنة أكدا على وحدة الأمة، وحصناها من الفرقة بالترغيب والترهيب والتبصير والتحذير. ولكن الرؤية التاريخية لا يمكن أن تغفل أثر العامل الجغرافي، سواء أكان إيجابيا تمثل في اتصال رقعة العالم الإسلامي الجغرافي دون فواصل طبيعية وسياسية. أم كان سلبيا تمثل في سعة الدولة مع قصور وسائل الاتصال القديمة.
كما لا يمكنها أن تغفل أثر الاختلاف بين القوميات الإسلامية، والتي نازع بعض قيادييها السلطة المركزية وحاولوا التأكيد على " المحلية " .
[ ص: 97 ] وإنعاش لغة وثقافة متميزة أدت إلى إضعاف وحدة الأمة الإسلامية ونشوء الدويلات الإسلامية منذ القرن الثالث الهجري، لتحقيق الذات الوطنية على حساب الذات الإسلامية.
وكذلك لا يمكن التقليل من أثر العامل الاقتصادي في المجتمع الإسلامي الأول، حيث يقوم الاقتصاد الزراعي والتجارة والصناعة اليدوية المحدودة، وحيث يتهدد هـذا الاقتصاد باختلال الأمن، وخاصة على الطرق الخارجية للتجارة، وسوف يحتاج المؤرخ لمعرفة حركة رءوس الأموال في الدولة الإسلامية بسبب الاقتصاد المفتوح، الذي انتهجته الدولة في القرون الأولى، كما يحتاج إلى تقويم لمدى توافر العدل الاجتماعي في توزيع الثروة، وما أصابه من اختلال في مراحل من تاريخ الأمة الإسلامية. ولا ننسى طبيعة التركيبة الاجتماعية للقوميات الإسلامية، والتي يغلب عليها الطابع القبلي الذي نازع روح الإسلام ومبادئه منازعته للتقدم والوحدة.
وإذا كان للنخبة القائدة أثر خطير في ترسيخ الوحدة ودفع عجلة التقدم، فيلزم أن ندرس كيف تكونت " النخبة " السياسية والفكرية في الدولة الإسلامية؟ وما هـي القيم التي تشبعت بها قبل أن تتولى " السلطة " وخلالها؟
فالمؤدبون أثروا في تكوين " النخبة السياسية " الثقافي والديني، في حين أثر العلماء في تكوين " النخبة الفكرية " ، فما أثر النخبة السياسية والفكرية في الحفاظ على وحدة الأمة. ولا شك أن النخبة السياسية لا تنحصر في الخلفاء، بل تتعداهم إلى القيادات الأخرى من وزراء وسلاطين وقادة عسكريين وكبار موظفي الدولة الآخرين. ودراسة تاريخ " النخبة " مهم لموقعها الخطير وتأثيرها العميق في التوجهات السياسية والعقدية للدولة والمجتمع. ولا ينبغي أن تنحصر النماذج في عصر السيرة والراشدين، بل ينبغي أن تشمل سائر مراحل تاريخنا.
إن وزيرا مثقفا وحازما مثل نظام الملك ترك طابعه على الحياة الثقافية.
[ ص: 98 ] - بإنشائه النظاميات - عدة قرون، وهي مدارس احتضنت أعدادا غفيرة من طلبة العلم وغرست فيهم القيم الإسلامية، ومنها وحدة الأمة الإسلامية.
وإن سلاطين أمثال
ملكشاه ،
ونور الدين محمود ،
وصلاح الدين الأيوبي ، أثروا في تاريخنا السياسي تأثيرا إيجابيا عظيما، وحركوا الرأي العام نحو أهداف إيجابية تحمي الوحدة وتعزز القوة في مواجهة الغزاة، ولا يمكن أن نتجاوز تقويم الشخصيات التي أثرت بصورة إيجابية في مسيرة أمتنا. كما ينبغي بيان الأثر السلبي لخلفاء ووزراء وعلماء أعاقوا التقدم واستغلوا مواقعهم للإثراء والتمتع الرخيصين.
إن الاتجاه نحو الاستبداد والحكم الفردي يتعمق في ظل مفاهيم مغايرة لروح الإسلام وتعاليمه، فقد كان الخليفة في عصر الراشدين يستمد سلطته من الأمة عن طريق أخذ البيعة له منها، ويتم الصفق على يديه مباشرة، وبسهولة كان الناس يدركون أن الخليفة يتعاقد معهم على تنفيذ الشريعة ونصرة العقيدة وحماية المجتمع والحفاظ على وحدة الأمة، ولم تكن له سلطة كهنوتية، ولا يختلف دمه عن دماء الآخرين، ولا يتمتع بقدسية، ولكن له الاحترام والطاعة في حدود طاعة الله وشرعه.
ومع الأيام بدأت تظهر اصطلاحات ومفاهيم جديدة تولد الغبش في طبيعة التعاقد بين الأمة والسلطة، وحدود العلاقات بينهما، ومكانة الخليفة ومصدر سلطته.
فعندما قامت الثورة العباسية أثر دعوة طويلة امتدت ثلث قرن من الزمان (98-129هـ) رفعت لواء يدعى الظل وراية تدعى السحاب، وفسرت التسميتان بأن السحاب كما يطبق جميع الأرض كذلك بنو العباس تطبق.
[ ص: 99 ] دعوتهم أهل الأرض. وأن الأرض كما لا تخلو من الظل فكذلك بنو العباس لا تخلو الأرض من قائم منهم
>[1] . وربط
أبو العباس السلطة السياسية بأمور غيبية وكأنه يقرأ في اللوح المحفوظ بقوله: " اعلموا أن هـذا الأمر فينا ليس بخارج منا حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم "
>[2] . وفي خلافة
المهدي العباسي وصفه أحد الشعراء بأنه " خليفة الله في الأرض "
>[3] ، وكرر هـذا الوصف الأمير البويهي عضد الدولة مع الخليفة العباسي، فكان يبالغ متظاهرا باحترامه، فينحني أكثر من مرة قبل وصوله للسلام عليه، ولما أنكر البعض عليه متسائلا: " أهذا هـو الله؟ " قال عضد الدولة: " هذا خليفة الله في الأرض "
>[4]
إن إيمان الجماهير بوحدة الأمة الإسلامية كان له تأثير على الحياة السياسية حتى في عصور الضعف والانحطاط السياسي، وربما يعود له الفضل الأكبر في الحفاظ على الوحدة الشكلية للأمة الإسلامية في عصر الدويلات. فقد عمدت معظم الدويلات الإسلامية المنشقة عن الخلافة العباسية إلى استحصال التقليد الرسمي لحكامها من قبل الخليفة، وذلك لإثبات شرعيتها أمام الجمهور، ورغم الانتصارات العظيمة التي حققها المرابطون في المغرب بقيادة
يوسف بن تاشفين ، فقد طلب يوسف من الخليفة
المقتدي بأمر الله التقليد والخلع، فأجابه إلى ذلك، وكان علماء الأندلس قد رفضوا طاعته حتى يحصل على التقليد من الخليفة العباسي الذي يمثل رمزا لوحدة
[ ص: 100 ] الدولة والأمة
>[5] ...
ويظهر أثر العقيدة في تربية النخبة السياسية عندما كان الصليبيون يهددون قطرا من الأقطار الإسلامية، حيث كان يستنجد بالأقطار الأخرى. وعندما هـددوا سنة 564هـ
مصر استنجد حاكمها الخليفة
العاضد بنور الدين محمود ، فأرسل إليهم قائده
أسد الدين شيركوه ، فلما دخل مصر اغتاظ منه قائد جيوشها المدعو شاور وعزم على اغتياله والسيطرة على جنده، ولما أخبر ابنه الكامل بعزمه حذره قائلا: " والله لئن عزمت على هـذا لأعرفن شيركوه. فقال الأب: والله لئن لم نفعل هـذا لنقتلن جميعا. فقال الابن: صدقت. ولأن نقتل ونحن مسلمون والبلاد إسلامية خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج "
>[6]
إن من الصعوبة بمكان إهمال تأثير الرأي العام على السلطة السياسية في تاريخنا المبكر، سواء تمثل بالتفاف طلبة العلم حول قيادات من العلماء أو تمثل بحركات شعبية منظمة، مثل حركة العيارين والشطار التي لا يمكن إغفال أثرها في مقاومة قوات المأمون في حصار
بغداد ، حيث تحول اللصوص والعيارين إلى أبطال يدافعون عن السلطة الشرعية. ولا إغفال محاولة عمال البناء في مدينة
الموصل تدبير مؤامرة للقضاء على
عماد الدين زنكي وتسليم الموصل
للخليفة المسترشد انتصارا للسلطة الشرعية، مما أدى إلى إعدامهم أثر فشل حركتهم
>[7] .
ولما أسر الخليفة المسترشد من قبل
السلطان السلجوقي مسعود .
[ ص: 101 ] " ثار أهل بغداد معلنين سخطهم على مسعود، وكسروا المنبر، وطالبوا بأخذ الثأر، وخرجوا يبكون ويحثون التراب على رءوسهم، وتفاقم الأمر بحدوث قتال شديد بين العامة وبين الشحنة (مدير الشرطة) وأتباعه، وقتل من العامة ما يزيد على مائة وخمسين قتيلا.. "
>[8] .
لقد ظهرت تنظيمات للحركات السياسية والاجتماعية في التاريخ الإسلامي في وقت مبكر، كما في الحركات العلوية والخارجية، وكما في الدعوة العباسية ثم حركات الشطار والعيارين. وكما في الحركات المعادية للإسلام مثل
الإسماعيلية والقرمطية والزط والزنج . ولكن السلطة الإسلامية لم تحاول استحداث تنظيم اجتماعي وسياسي يدعمها، بل اعتمدت على تنظيم الدولة الإداري والعسكري والأمني. ولكن في منتصف القرن الرابع الهجري ظهرت حركة الأحداث في الشام والجزيرة الفراتية، والتي تمثل جماعة شعبية ساندت القوات النظامية في حفظ الأمن والقيام بمهام الدفاع المدني، وكان مبعث ظهورها الشعور بعدم الاستقرار والأمان، أثر ضعف سيطرة الدولة العباسية واشتداد الحملات البيزنطية من الخارج، وغارات البدو والقرامطة من الداخل، مما دفع السكان في المدن والقرى على تنظيم أنفسهم
>[9] ، وكذلك تدخلت السلطة في خلافة
الناصر لدين الله العباسي لاستحداث تنظيمات الفتوة، وذلك لتوجيه حركة الشطار والعيارين في إطار اجتماعي وأخلاقي سليم يخدم الدولة والمجتمع، وقد عم نظام الفتوة القسم الشرقي
[ ص: 102 ] من العالم الإسلامي
>[10] .
وترأس الناصر هـذا التنظيم في العاصمة، كما ترأسه الأمراء في الأقاليم.
ورغم تشابه نظام الآخية الذي ظهر بعد الغزو المغولي وسقوط
بغداد في بلاد التركمان والروم مع نظام الفتوة، فإن الحركات الصوفية هـي التي وقفت خلفه ودعمته، وليست السلطة السياسية، وكانت تنظيمات الآخية شبه عسكرية، ولهم تقاليد في الكرم والمروءة والتصدي للمستبدين، وترسيخ الأخلاق الإسلامية، وتمثل الزوايا الصوفية قواعدهم التي فيها يجتمعون ومنها ينطلقون
>[11] .
والحق أن السلطة والمجتمع استفادا من التنظيمات الاجتماعية، ولكن بمرور الزمن ضعفت سيطرة الدولة على التنظيمات فعادت إلى حركات شطار وعيارين ذات آثار سلبية، وانقسمت بين الأمراء والزعماء المتصارعين على السلطة، مما جعلها تسهم في الانقسام وتمزيق وحدة الأمة.