الفصل السادس
قيم الحياة الاقتصادية
لا شك أن الازدهار الاقتصادي في عصور الإسلام الذهبية تكمن خلفه قيم الإسلام ومفاهيمه الاقتصادية، فهو خلافا لمعظم العقائد الدينية الأخرى، لا يأمر أتباعه بالتخلي عن استعمار الأرض واستثمار ثرواتها الطبيعية والضرب في الأرض ابتغاء الرزق عن طريق التجارة، بل إن الإسلام اعتبر الفاعلية الاقتصادية ضربا من العبادة، يؤجر صاحبها إذا استحضر النية في نشاطه الاقتصادي. فالمسلم يعمر الأرض ويزيد الثروة ويغرس الثمرة ويدير الآلة ويستخرج ركاز الأرض ويتاجر، وهو بكل ذلك يتطلع إلى ما عند الله من أجر الآخرة.
ومن أجل استثارة حوافز المسلم الفطرية، حمى الإسلام الملكية الفردية وجعل من حق صاحب الثروة أن يبقيها في أسرته من بعده، فلا يبددها ولا يتوقف عن إنمائها. واستمر المال يتداول بين الناس، دون أن يقتصر تداوله على الأغنياء، فالأمر بالتكافل والتصدق والعطاء مع تحريم الكنز وتحريم الربا والاحتكار ووسائل الثراء الفاحش الأخرى، جعلت رؤوس الأموال تتجه نحو المشاريع التي تخدم الصالح العام، بل قد أوقف الأغنياء أموالا خلال التاريخ الإسلامي لخدمة المجتمع الإسلامي ولازالوا يفعلون ذلك حتى الوقت الحاضر
[ ص: 134 ] وكانت عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر تحفز روح المغامرة العلمية والتجارية، وتدفع للبذل والتضحية لبناء الأمة وكيانها الحضاري، ولم تكن مدعاة للكسل والتثبيط والإحباط كما حدث بعد أن أسيء فهمها في العصور المتأخرة. فقد خططت الأمة الإسلامية في تاريخها الزاهر لاقتصادها، فكانت أول أمة عرفت التخطيط الاقتصادي نظريا وعمليا.
ولو درسنا موارد الدولة الإسلامية في العصر الذهبي لأدركنا مدى الازدهار التجاري والزراعي والصناعي، فقد شاد المسلمون أعظم حضارات العالم القديم منظمين الري بطريقة رائعة تدل على تقدم الهندسة والتقنية كما يشهد نظام الري في منطقة السواد في العصر العباسي، ونظام توزيع المياه في حدائق غرناطة، وفي بغداد مدينة المنصورة المدورة.
أما العمران وخطط المدن فقد كشفت الدراسات الحديثة عن مدى الإبداع والتقدم إذا قورنت بمدن أوروبا في العصور الوسطى، ويكفي أن عاصمة الخلافة العباسية (بغداد) كانت شوارعها مرصوفة بالآجر، مضاءة بقناديل الزيت، تصل المياه إلى دورها بقنوات من الآجر تحت الأرض، في وقت كانت فيه شوارع باريس موحلة مظلمة.
وكانت التجارة الإسلامية تنشط مع مراكز التجارة في كانتون شرق الصين، وتتم مبادلاتها مع تجارة من السويد غربا مما كشف عنه علم الآثار في العقود الأخيرة، وتمثل في وجود النقود الإسلامية تحت الأرض السويدية.
وقد مهدت الطرق أمام التجارة الخارجية، وكان تشريع الحج يقتضي هـذا التمهيد لتيسير التنقل أمام قوافل الحجاج، ويحكي التاريخ أن زبيدة زوجة الخليفة هـارون الرشيد أجرت المياه من العيون إلى مكة لسقي أهلها والحجيج، وعمرت السقايات ودور السبيل حول المسجد الحرام ومنى وعرفات، وأوقفت على ذلك ضياعا بلغت قيمة غلتها السنوية 30.000 ثلاثين ألف دينار،
[ ص: 135 ] وكانت قلوب النخبة المسلمة يقظة، تقدر الآخرة حق قدرها، وتضع الدنيا موضعها، فكانوا يأكلون طيبا وينفقون قصدا ويقدمون فضلا، لم يحبوا الدنيا ولم تدخل قلوبهم، لكنهم أدركوا أيضا أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن المال قوام الحياة الدنيا، فلم يضيعوه، بل جعلوه مطيتهم إلى الآخرة، وأنفقوه في عمران عالم الإسلام وتقوية دولته وإشادة صرح حضارته، ومنعوا تبديده وإتلافه أو صرفه على ما لا يعود على المجتمع بالخير والتقدم. لقد أسرف
الخليفة الناصر في
الأندلس في البناء حتى أنه اتخذ قراميد مغشاة ذهبا وفضة في قبته بقصر الزهراء أنفق عليها مالا جسيما، وجعل سقفها صفراء فاقعة إلى بيضاء ناصعة تستلب الأبصار، وجلس فيها إثر تمامها يوما لأهل مملكته، فقال لقرابته ومن حضر من الوزراء وأهل الخدمة مفتخرا عليهم بما صنعه من ذلك مع ما يتصل به من البدائع الفتانة، هـل رأيتم أو سمعتم ملكا كان قبلي فعل مثل هـذا أو قدر عليه؟ فقالوا: لا والله يا أمير المؤمنين، وإنك لأوحد في شأنك كله وما سبقك إلى مبتدعاتك هـذه ملك رأيناه، ولا انتهى إلينا خبره. فأبهجه قولهم وسره. وبينما هـو كذلك إذ دخل عليه القاضي منذر بن سعيد، وهو ناكس الرأس، فلما أخذ مجلسه قال له كالذي قال لوزرائه من ذكر السقف المذهب واقتداره على سبداعه، فأقبلت دموع القاضي تنحدر على لحيته وقال له: والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الشيطان لعنه الله يبلغ منك هـذا المبلغ، ولا أن تمكنه من قيادك هـذا التمكين، مع ما آتاك الله من فضله ونعمته، وفضلك به على العالمين، حتى ينزلك منازل الكافرين. فانفعل الناصر
[ ص: 136 ] وقال له: انظر ما تقول. وكيف أنزلتني منزلتهم؟ قال: نعم أليس الله يقول:
( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ) (الزخرف: 33) . فوجم الخليفة وبكى خشوعا لله تعالى وشكر القاضي وأمر بنقض السقف الذهبي
>[1]
فهل تعي النخبة السياسية والاقتصادية في المجتمعات الإسلامية هـذا الدرس، فتصرف الأموال نحو استصلاح الأراضي البور وبناء المصانع وتشييد المدارس والجامعات ومراكز البحث العلمي، بدل إنفاق معظم الأموال على القصور والمظاهر الخادعة، حتى يتيسر الأمن الثقافي والروحي والغذائي والصناعي لأمة الإسلام، فلا تأكل ما لا تنتج ولا تلبس ما لا تصنع ولا تظل تحت مطرقة التهديد بالتجويع والإعراء.
وهل يدرك أصحاب الأموال أن في أموالهم الخاصة حقوقا عامة، وأن الإسلام أوجب الحجر على السفهاء لهذا الحق.
إن إيجاد الحوافز للعمل أمام الجمهور من ناحية ومنع النخبة السياسية والاقتصادية من الغلول هـما السبيل لبناء اقتصاد سليم في العالم الإسلامي، ولا شك أن البناء العقدي للأمة وحده الكفيل بإيجاد جمهور عامل ونخبة صادقة.
إن استمرار الاقتراض المرتهن باقتصاد ربوي عالمي أنهك عالمنا الإسلامي، وإذا كان لا يمكننا التأثير في نظام الاقتصاد العالمي؛ لأننا أسرى داخله، فإن بالإمكان إعادة بناء اقتصادنا المحلي إذا استفدنا من القيم الاقتصادية الإسلامية، ووسعنا الدائرة التي تؤثر فيها تلك القيم، خاصة بعد
[ ص: 137 ] انهيار الإيديولوجيات التي خططنا لاقتصادنا على ضوئها منذ نصف قرن، فلم تثمر خططنا سوى الإفلاس، حيث لم تتحرك الجماهير للعمل، ولم يصدق من النخبة إلا القليل.
إن إعادة البناء القيمي في عالم الإسلام لا بد أن تتقدم على سائر محاولات الإصلاح السياسي والتربوي والاجتماعي والاقتصادي، ومن دون ذلك لن نحوز على أي تقدم حقيقي.