بيان المغير المنكر: شروطه وآدابه
إذا ما كان تغيير المنكر، عبادة يتقرب بها إلى الله تعالى، فإنه يشترك مع بقية العبادات في بعض الفرائض:
* أن يكون القائم بالتغيير مكلفا، وأساس التكليف: العقل والبلوغ، فمن جن عقله، أو أصابه فيه داء، فقد أعفي من فريضة التغيير، ما بقي الجنون أو الداء، ومن لم يبلغ الحلم، لا يجب عليه التغيير لمنكر رآه، فإن كان مميزا عارفا بالمنكر قادرا على تغييره صح له أن يغيره، ولا يجوز منعه من ذلك
كما لا يجوز حمله على التغيير، إلا على سبيل تدريبه على الطاعات من قبل وجوبها عليه، على أن يكون ذلك تحت إمرة وليه.
* أن يكون مسلما، فإن أي عبادة لا تقبل بغير إسلام، ولا تفرض من قبل الدخول فيه، فلا يتصور أن تفرض على غير المسلم، أن يغير ما تنكره شريعة هـو لا يؤمن بها، وإن كان ذلك منكرا في شريعته، التي يؤمن بها أيضا، فنحن غير مكلفين بحمل غير المسلمين على التمسك بشرائع عباداتهم، التي يتفق بعضها مع بعض ما في الإسلام، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يحمل يهود المدينة على ترك الربا،وهو المحرم في توراة موسى عليه السلام، مثلما هـو محرم في الإسلام، إلا إذا تحاكموا إلى المسلمين، فيحملون على حكم الإسلام وحده، لأنهم تحاكموا إليه طواعية.
فإذا أعان غير المسلم على تغيير المنكر، أثيب على إعانته تلك، بما يليق بها من نعم الدنيا، ولا يصح منعه من أن يعين على ذلك إلا إذا خرق شروط التغيير وآدابه.
* ولا يشترط مع الإسلام العدالة، فكل مسلم يجب عليه تغيير المنكر على الوجه الذي هـو أهل له، وليس بلازم أن يكون غير مرتكب للمنكرات.
[ ص: 82 ] ذلك ما عليه أهل العلم
>[1]
فإن للفاسق بل عليه أن يغير المنكر، إلا إذا كان لا يقيم الصلوات المكتوبات استهانة أو استهزاء أو إنكارا لفرضيتها، فإنه يكون بذلك غير مسلم البتة، بل هـو مرتد، وهو أدنى منزلة من أهل الكتاب، فإن استتيب وتاب والتزم، وجبت إعانته وإكرامه وتأليف قلبه.
أما إن كان فاسقا يؤدي الصلاة أو يتركها كسلا لا استهانة ـ عند بعض أهل العلم ـ فإنه لا يسقط عنه فريضة تغيير المنكر بسقوطه هـو فيه، فإن الفسق لا يرفع التكليف، مثلما ترفعه الردة،وهذا الفاسق يكون على أحد أمرين :
- أن يكو مرتكبا منكرا غير الذي يراه من غيره.
- أن يكون مرتكبا منكرا من جنس ما يراه من غيره.
إن كان الأول، فإن تغيير منكر غيره فرض عليه، ما تحققت فيه بقية شرائط التغيير. فلا يتأثر بوقوعه هـو في منكر آخر، فالواقع في منكر الغيبة مثلا، عليه أن يغير منكر سرقة واقع من غيره. فإننا لو اشترطنا أن يكون القائم بالتغيير خاليا من كل منكر، فإنا نكاد لا نجد من يتحقق في ذلك، ولا سيما في عصرنا والعصور القادمة.
يقول
سعيد بن جبير : " إن لم يأمر بمعروف ولم ينه عن المنكر، إلا من لا يكون فيه شيء، لم يأمر أحد بشيء " فأعجب
مالكا ذلك من سعيد بن جبير "
>[2] .
وإن كان الآخر أي المغير، واقعا في منكر من جنس ما يراه من غيره، فإن له حالين : أن يكون غيره عليما بوقوعه فيه أو لا يكون.
إن كان عليما بوقوعه فيه فالأولى تغيير منكر نفسه أولا، ولا سيما إذا
[ ص: 83 ]
ما كان التغيير باللسان، حتى لا يكون السعي إلى التغيير حينئذ عقيما أو عقباه أكثر ضررا.
وإن كان غير عليم بوقوعه فيه، لم يتوقف تغييره منكر غيره على تقديم تغييره منكر نفسه، بل يفعلهما معا أيا كان سبيل التغيير وآلته، فلا ينتظر الفراغ من تمام تغيير منكر نفسه، ولا سيما إذا ما كان المغير ذا ولاية عامة أو خاصة على من يريد تغيير منكره.
فإن كان من العامة ومن حوله من يمكن أن يقوم بالتغيير دونه، فعليه الاشتغال بتغيير منكر نفسه أولا، ويدع غيره يقوم بتغيير هـذا المنكر متى كانوا قادرين وصالحين لتغييره.
" يروى أن رجلا جاء سيدنا
عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقال يا ابن عباس، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر قال: أبلغت ذلك، قال: أرجو، قال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله، فافعل.
قال : وما هـن ؟
قال : قوله تعالى:
( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) ، أحكمت هـذه؟ قال: لا.
قال: فالحرف الثاني؟ قال: قوله تعالى:
( لم تقولون ما لا تفعلون ) ، أحكمت هـذه؟ قال: لا، فالحرف الثالث؟
قال: قول العبد الصالح "
شعيب " عليه السلام :
( وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ) ، أحكمت هـذه ؟ قال: لا. قال: فابدأ بنفسك "
>[3] .
في هـذا الموقوف على "
ابن عباس " إن صح سندا، دلالة على أن المرء
[ ص: 84 ] أن يكون أهلا للقيام بفريضة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حتى يكون قياما مثمرا، فإن لم يك أهلا فعليه أن يبدأ بنفسه، ويدع غيره لمن هـو قادر علي هـذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيؤديهما أداء غير عقيم.
على أنه ينبغي أن نكون على وعي، بأن ما قاله ابن عباس لهذا الرجل إنما هـو مخصوص بحال ما إذا كان من حول الرجل من هـو أقدر على القيام بفريضة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فيترك ذلك لمن هـو أقدر على نحو ما كان في زمان "
ابن عباس " ، إذ كان جمهور الصحابة والتابعين كثير.
أما إن كان مثل ذلك الرجل في مجتمع ليس فيه من هـو أقدر منه على ذلك أو كان فيه، ولكن عجز عن الوفاء بكل الفريضة، أو شغله المال والأهلون، فلا ريب في أن مثل هـذا الرجل، وإن لم تتحقق فيه الآيات الثلاث المذكورات، يجب عليه القيام بفريضة التغيير لمنكر غيره، في الوقت الذي يسعى فيه جاهدا إلى تحقيق هـذه الآيات الثلاث على الوجه القويم.
ومما ينبغي وعيه هـنا أن الرجل كان يرمي إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس إلى تغيير منكر يراه، وفرق غير خفي بين فريضة تغيير منكر وقع ورآه المرء، وفريضة أمر بمعروف ونهي عن منكر، وإن لم يقع .. فالتغيير، بعض النهي، وليس كله.
على أن قوله تعالى :
( أتأمرون الناس ... ) الآية وقوله تعالى:
( لم تقولون ما لا تفعلون ) لا يؤخذ منه أن مرتكب المنكر لا يغير منكر غيره، فقد جاء هـذا القول في سياق ذم النهي عن المنكر وإتيانه، أو الأمر بالبر، وترك فعله في الوقت نفسه، ولا يلزم من ذلك منع النهي عن المنكر ممن هـذه حاله، أو منع الأمر بالبر ممن هـذه حاله، بل هـو دعوة إلى ترك المنكر، لا ترك تغييره في غيره، حتى يتركه هـو .. فهو قول سيق للنهي عن ارتكاب هـذه الأفعال، وإبراز شناعة إتيانها مع العلم بأنها منكر، ومع دعوة الآخرين إلى تركها.
[ ص: 85 ] ومثل هـذا أيضا
( قوله صلى الله عليه وسلم : يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان، مالك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه ) (متفق عليه، والنص
لمسلم )
>[4] .
فذلك الحديث غير مسوق إلى النهي، عن القيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ممن لم يفعل المعروف، ويمتنع عن المنكر، بل هـو مسوق إلى الإبلاغ في بيان شناعة إتيان المنكر مع النهي عنه، وترك المعروف وأمر الآخرين به.
يقول
الغزالي في قوله تعالى:
( أتأمرون الناس بالبر ) ونحوه: هـو إنكار عليهم من حيث تركهم المعروف، لا من حيث أمرهم، ولكن أمرهم دل على قوة علمهم، وعقاب العالم أشد، لأنه لا عذر له مع قوة علمه "
>[5] .
· ويبقى شرط إذن الولي الأعلى، أو من ينيبه، لمن يقوم بتغيير المنكر :
يذهب جماعة من أهل العلم إلى اشتراط إذن ولي الأمر الأعلى، لمن يقوم بالتغيير، ويذهب آخرون إلى عدم اشتراطه.
وتحقيق ذلك متوقف على أشياء ثلاثة : حال ولي الأمر، وحال المغير، وحال وسيلة التغيير، والكيفية التي يتم بها التغيير.
أما حال ولي الأمر، فإما أن يكون حاكما بما أنزل الله تعالى، وإما أن يكون غير ذلك :
إن كان مقيما لشرع الله تعالى، لا يحكم بغيره عمدا، ولا يخلط به غيره، فإن كان المغير من العامة، فإن تغيير المنكر في نفسه، ومن له عليهم ولاية خاصة
[ ص: 86 ] كالأهل، لا يحتاج إلى إذن، إذا ما غير بلسانه أو بيده في بعض صور التغيير باليد،وإن تكن بعض صور التغيير باليد حينئذ تحتاج إلى إذن، كأن يترتب على التغيير باليد إيذاء بالغ في نفس مرتكب المنكر كأن يضربه ضربا مهلكا أو مبرحا
أما ما
( روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر. قال: فلما كانت ذات ليلة، جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغول >[6] فوضعه في بطنها واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت ما هـناك بالدم، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلا فعل ما فعل، لي عليه حق إلا قام، قال: فقام الأعمى يتخطى الناس، وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها، كانت تشتمك، وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت لي رفيقة، فلما كان البارحة، جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول، فوضعته في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا اشهدوا أن دمها هـدر ) >[7] .
إن المنكر الذي وقعت فيه هـذه المرأة، إنما هـو كفر صراح، وقد زجرت عنه مرارا، ومثل هـذا يستباح به الدم، فإن شتم النبي صلى الله عليه وسلم ، والجهر بذلك، والإصرار عليه، بعد الزجر، مما لا تحتمله نفس من في قلبه ذرة من إيمان، وكذلك الاستهزاء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، والجهر بذلك، والإصرار عليه.
والصحابي قد أعلن بقوله: (ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت لي رفيقة) أنه ما قتلها لأمر به متعلق، وإنما احتسابا لوجه الله، وغضبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 87 ] أما إن كان المنكر في غير أهله، وفي من ليس له عليهم ولاية خاصة، فإن تغيير المنكر باليد، يحتاج إلى إذن ولي الأمر المقيم شرع الله تعالى، وتغييره باللسان إن كان أهلا له لا يحتاج وله أن يتركه لمن هـو أعلم به منه، إن علم أن غيره هـذا قائم بذلك، والأولى السعي إلى من يظن أنه أعلم، وأقدر، وأولى، فيخبره ليغير ما رآه من منكر، إن كان ذلك المنكر، مما يحتمل تأخير تغييره قليلا، فيكون بسعيه إلى من هـو أقدر وأعلم بالتغيير قائما بتغيير المنكر أيضا، ويبقى من بعد ذلك عليه مؤازرة أهل العلم والاحتساب ، وتكثير سوادهم، وحمايتهم، والدفع عنهم ورعايتهم في أهلهم، إن أضيروا، والدعاء لهم .. فكل ذلك من صور التغيير.
أما إن كان المغير من أهل العلم، والإمامة، المشهود لهم في هـذا من الصالحين، وكان ولي الأمر الأعلى مقيما شرع الله تعالى، فإن تغييره المنكر في غير أهله بيده يحتاج إلى إذن من ولي الأمر، إذا ما كان هـذا التغيير مرتبا عليه إيذاء في نفس صاحب المنكر، أما إن كان الضرر واقعا على ما هـو خارج عن نفسه فللعالم الثقة أن يغير المنكر في غيره أهله، دون إذن خاص من ولي الأمر، لأن ولي الأمر المقيم شرع الله تعالى، يأذن ضمنا للعالم الثقة، أن يغير المنكر بيده فيما لا يتعلق بالأنفس، وكذلك تغييره المنكر بلسانه، لا يحتاج فيه العالم من ولي الأمر، المقيم شرع الله، إذنا خاصا، لأن علمه وإمامته والشهادة له بذلك من أقرانه من أهل العلم، إذن عام، بأن يغير المنكر بلسانه، بل هـو أول من يفرض عليه ذلك التغيير،وليس لأحد أن يمنعه من ذلك، متى حقق آداب التغيير باللسان.
أما تغييره بالقلب، فذلك ما لا يستأذن فيه أحد من أحد أبدا، فهو فريضة لا تسقط إلا بسقوط التكليف.
وإن كان ولي الأمر الأعلى لا يحكم بشرع الله تعالى، أو يخلط به
[ ص: 88 ] ما يشرعه لنفسه، فيأخذ ببعض الشرع في أبواب، ويتركه في أبواب أخرى، فإن الأمر يختلف :
إن كان المغير من العامة، فله أن يغير المنكر بلسانه، حين يكون قادرا عليه سواء كان المنكر واقعا من أهله، ومن له عليهم ولاية، أم من غيرهم، شريطة الالتزام بآداب التغيير باللسان.
ولا يحتاج إلى إذن ولي الأمر، الذي لا يقيم شرع الله تعالى، فإن منعه امتنع متى كان في الأمة من يقوم به سواه. ويبقى عليه مؤازرة أهل العلم في هـذا ومناصرتهم، والدعاء بنصر الحق وأهله.
وله أن يغير المنكر بيده حين يكون قادرا عليه ملتزما بشروطه وآدابه، فيما لا يتعلق بالأنفس. والأعلى والأحب إلينا، أن يكون ذلك منه في صحبة مغير من أهل العلم. أو يسعى إلى من هـو أقدر وأولى فيخبره، ويؤازره، ويشد من عضده، لتكون لأهل العلم المحققين شوكة في وجه ولي الأمر، الذي لا يقيم شرع الله تعالى، فإنه إذا رأى لهم شوكة، خضع للحق، الذي يدعون إليه.
وإن كان المغير من أهل العلم المشهود له به فإن تغيير المنكر بلسانه لا يحتاج إلى إذن من ولي الأمر الذي لا يقيم شرع الله تعالى، وإن منعه ولي الأمر فله ألا يمتنع، بل يصابر ويجالد، لأن هـذا حق الله عز وجل كلف به أهل العلم وليس لولي الأمر، أن يمنعهم من أداء حق الله تعالى:
( إنما الطاعة في معروف ) >[8] .
وما يفعله بعض الولاة من إيجاب استئذان العالم في الدعوة إلى الله في بيوت الله، إنما هـو بغي وعدوان على حق أهل العلم، فإن من تحققت فيه آيات
[ ص: 89 ] العلم والصدق، كان في تكليف الله له بالبيان، إذنا إلهيا، لا يصادره أحد متى التزم بأدب الدعوة إلى الله تعالى وقال كلمة الحق احتسابا.
أما تغيير العالم المنكر بيده،فيما لا يتعلق بالأنفس، فلا يحتاج إلى إذن من ولي الأمر، الذي لا يقيم شرع الله، لأنه بالضرورة لن يأذن لأحد، وهو حين أعرض عن شرع الله تعالى، فلم يحكم به رعيته، قد أسقط حق نفسه عليهم في طاعتهم له. فللعالم تغيير المنكر بيده، فيما دون الأنفس، دون إذن هـذا الولي إذا ما حقق آداب وشروط التغيير باليد.
وللعالم أيضا أن يأمر غيره ممن هـو قادر عليه، أن يغير المنكر بيده، تحت رايته
وعلى العامة مناصرة العلماء في هـذا والوقوف معهم والدفع عنهم، والدعاء لهم.
وكل ما قلناه في تغيير المنكر باليد، إنما هـو حين يعلم به ولي الأمر، أو من ينوب عنه، ثم لا يقوم بالتغيير، أو لا يأمر أحدا بتغييره من ولاته، فإن كان ممن يقوم هـو بتغييره أو يأمر من يغيره إذا ما بلغه ذلك، وتحقق منه فليس لأحد أن يتجاوز إذنه في تغيير المنكر باليد، لأن ذلك حق ولي الأمر، لا يسقط منه ولا يتجاوز إذنه، إلا إذا تركه وأسقطه بالتغافل عنه أو الزعم بأن هـذا من الحرية الشخصية، التي لا يسمح لنفسه الاعتداء عليها. في الوقت الذي يقيم الدنيا ولا يقعدها إذا مسه أحد بما يكره، من قول أو فعل. وصدق الشاعر قائلا:
يقاد للسجن من سب الزعيم ومن سب الإله فإن الناس أحرار
ويشترط في المغير شروط أخرى، منها ما سبقت الإشارة إليه تحقق العلم بنكارة ما يريد إنكاره، عند جمهور العلماء، فإن لم يتحقق، وعلم أن فيه اختلافا،
[ ص: 90 ] ممن يوثق باختلافهم، ويعتد به، فإنه لا يجب عليه التغيير، بل يكتفي بالدعوة إلى ما هـو الأسمى والأرجح، مبينا لمن شاء وجه رجحان ما يدعو إليه.
ويشترط فيه العلم بطرائق التغيير، وأحكامها، وآدابها، ومن جهل شيئا من هـذا وجب عليه أن يسعى إلى من يعلمه، ثم يقوم بالتغيير، ولا يستكين إلى أنه لا يعلم، فعليه أن يغير جهله بذلك، إلى العلم به، متى كان في قومه من يعلمه، وقد تيسر العلم في زماننا لمن شاء.
ويشترط في المغير أيضا، أن يكون قادرا على التغيير، فإن عجز عن طريق، انتقل إلى ما دونه وسعى إلى أن يرفع عن نفسه أسباب عجزه، عن القيام بالطريق الأعلى. فإن المسلم لا يليق به أن يرضى بالدنية، فيما يتعلق بشئون دينه وآخرته، وليكن حرصه على الأعلى في هـذا، لا يقل عن حرصه عليه في شئون دنياه.
ولا يشترط في المغير أن يتيقن أن تغييره المنكر مفض إلى أثر، فيمن يغير منكره، فليس عليه أن ينظر تقبل وعظه، أو الاستجابة لأمره ونهيه، فإن الله عز وعلا ما كلفنا أن يكون لدعوتنا أثر في الآخرين:
( فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ ) (الشورى: 48) .
وقد كان النبي في الأمم الغابرة، يقيم في قومه، فلا يستجيب له إلا قليل، أولا يستجيب له أحد.
( عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عرضت علي الأمم، فجعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد ) >[9] .
[ ص: 91 ]