ثانيا: البعد البلاغي للمنهج النبوي
يقول المولى تبارك وتعالى في كتابه الحكيم:
( هذا بلاغ للناس [ ص: 50 ] ولينذروا به وليعلموا أنما هـو إله واحد وليذكر أولو الألباب ) (إبراهيم: 52) .
( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) (المائدة: 67)
( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ) ( المائدة:92) .
المنهج النبوي كإطار تطبيقي للبلاغ المبين
هكذا خطت الفكرة القرآنية طريقها نحو مشروعها الاستخلافي، وهكذا تقرر المنهج ليكون بلاغيا ودعويا في أصوله الأولى. فالبلاغ المبين هـو طريق البناء الحضاري التوحيدي، والدعوة البلاغية هـي سبيل التحرك الإسلامي المبين في التاريخ.
فالمبلغ الذي يحمل هـم الدعوة الحضارية العالمية، التي تنبثق في أصولها، ومنهجها عن مصادر التوحيد الإسلامي، مطالب بالفقه العميق لمنهاج الهداية الحضارية، ومنهج الإصلاح الإنساني، ومنهجية التغيير الثقافي. وهنا تظهر أهمية سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في تقديم الوعي المستوعب، على هـذه القضايا المتعلقة أصلا بالمنطق العملي للبلاغ المبين، وصياغته التطبيقية، كيما يتحول إلى قوة تنفيذية للنظرية الحضارية الإسلامية، ومحاولة تحويلها إلى مواقف سلوكية يومية تدخل في توجيه حياة الناس العامة والخاصة، الأخلاقية والمادية، العقلية والنفسية، الفكرية والاجتماعية، الأدبية والعمرانية.
فالمنهج النبوي لا يقدم فقط الإطار المرجعي للسلوك البلاغي الدعوي، والمنهاج التوجيهي للفعل الإصلاحي، والترشيدي، بل يقدم بالإضافة إلى ذلك البناء العملي لهذه الأفكار النظرية. فالسنة أصلا موقف عملي منهجي منظم،
[ ص: 51 ] دخل في اطراد بناء المجتمع الإسلامي الأول، وترك للأجيال الإسلامية معيار البناء الحضاري الخاضع لتعاليم الوحي، والمنضبط بتوجيهاته، فالباحث في السنة باحث أيضا في الأصول التطبيقية للحضارة الإسلامية، وفي المناهج السلوكية، التي حولت الفكر النظري إلى سياسة عملية.
ومن هـذا التأسيس نكون أمام مطلب جوهري في التعامل مع السنة النبوية، وهو إلزامية كشف، وفهم البعد البلاغي والدعوى للخطاب الإسلامي، الذي أودعت فيه جهود النبي عليه الصلاة والسلام ، روح المنهج البلاغي الإسلامي، وبينت قواعده، وخصائصه، ومضامينه، ومناهجه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان مبلغا، ومعلما، ومصلحا، وداعيا، وشاهدا، ومبشرا، ومنذرا، وهاديا، يعتمد في خطابه على (الحكمة والموعظة الحسنة) ، تماما كما دلت النصوص القرآنية والحديثية في مثل قوله تعالى:
( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هـي أحسن إن ربك هـو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) (النحل: 125) .
( قل هـذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) (يوسف:108) .
لقد كان يخاطب النفوس، والعقول بما تطيقه، خبيرا بالواقع، عالما بأحوال المخاطبين، مدركا لثقافتهم وتاريخهم، عارفا بمداخل استجابتهم، مستوعبا لمناهج مجادلتهم، واعيا على قدراتهم، وإمكاناتهم، واستعداداتهم، وآمالهم , وآلامهم.
[ ص: 52 ]