المنهج النبوي يحدد المأزق العالمي الراهن
إن المنهج النبوي الذي اعتبرناه مدخلا أساسيا لأي بناء حضاري يقوم على أساس (النظام التوحيدي القرآني) ويساهم في تحديد المفتاح المدخلي للبناء الحضاري الجديد. إذ من المعروف في علم الاجتماع التغييري: أن حل أي مشكلة تواجه المجتمع، مهما كان نوعها (ثقافية، أو تاريخية، أو حضارية) مشروطة بفقه هـذه المشكلة في تركيبها الواقعي، وتشكيلها الاجتماعي، أي كما هـي في حياة الناس، دون زيادة ولا نقصان، وهذا التحديد، لا بد أن يخضع كما هـو معروف كذلك لمنهج علمي أثبت صحته، ولخطوات تحليلية منظمة، تقوم على الملاحظة، والافتراض، والتجريب، والوصول، أي استخدام المنهج الاستقرائي، والمنهج الاستنباطي، بغرض الوصول إلى كشف علل الأشياء، والأسباب القابعة وراء وجودها، وفهم قوانين التعامل معها، وعلاجها. وهذا الأمر يتطلب منا أن نبحث في المنهج النبوي، كسبيل لكشف سنن الهداية والترشيد. وهذا الأمر لن يتم لنا في الحقيقة إلا باستقراء كلي لنصوص السنة النبوية، وتحقيق هـذه النصوص على صعيد المنهج التاريخي، أي وفق (منهج السير في الأرض والنظر في سنن الهداية الربانية) كما أمر المولى تبارك وتعالى في كتابه العزيز الحكيم. ولتعذر هـذا العمل الضخم في مثل هـذه البحوث الفردية، سوف نحاول تقديم نموذج تحليلي لنص نبوي، نبين من خلاله الطريقة المقصودة في التحليل، والتي سنقوم بتطبيقها على الكثير من النصوص النبوية في المستقبل بحول الله وقوته.
( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.. قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ قال: لا، بل أنتم كثير ولكنكم غثاء [ ص: 86 ] كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت؟ ) >[1] .
إن هـذا الحديث النبوي الشريف، يعتبر من المداخل الأساسية التي يمكنها أن تعيننا على التحديد الصحيح، والدقيق لنقطة الانطلاق في التغيير الحضاري الراهن للعالم. فللحديث منطقية منهجية خاصة في تفسير الظاهرة الاجتماعية. فقد تجاوز المراحل التمهيدية، لما يسمونه البحث العلمي، ثم تخطى مرحلة التجربة، وتوصل إلى استخراج القانون، الذي يحكم الظاهرة الإنسانية. وهذا التوصل ليس ضربا من التكهن الخرص، بل وعي مستوعب في عالم الأسباب، وفهم مستنير للسنن الإلهية، واستخدام ناجح للمنهج الذي يشكل وعيا تاريخيا مستقبليا، ينتج عن إدراك عميق للنفوس البشرية، وللحركة الاجتماعية عموما.
عرض عام لموضوعات الحديث النبوي
هذا الحديث يشتمل على قضايا، بعضها يتصل بمجتمعنا الإسلامي، وبعضها الآخر، متعلق بغيره من المجتمعات. كما يمثل في جوهره قمة سامقة من قمم الوعي التاريخي على سنن الله في الخلق. لنحاول التعرف على بعض جوانبه التي تهم بحثنا هـذا:
أولا: فهو يحدثنا عن أمم متنوعة، سوف تتكالب على أمتنا - وهذا هـو واقعنا اليوم - وهذا التداعي يكون في سياق التدافع الاجتماعي بين النموذج الإسلامي والنماذج الأرضية الأخرى الغرب واليهود.
ثانيا: ويصف لنا طبيعة هـذا التداعي على هـذه الأمة، التي تدين بدين (الحق والحقيقة) , ويشبهه كتداعي الأكلة إلى قصعتها، فهذا يدمر عالم
[ ص: 87 ] أفكارها، وذاك ينسف عالم أشخاصها، وذلك يبدد عالم أشيائها.
ثالثا: ثم يضعنا أمام حوار صادق بين المجتمع الإسلامي الوليد، الذي كان في أحسن ظروف انسجامه، وفاعليته الاجتماعية في ذلك الوقت، وبين النبي عليه الصلاة والسلام كمرجعية توجيهية، وتبينية للخطاب الإلهي. إذ نجد المجتمع يستفسر عن سبب هـذه الفاجعة الحضارية، التي توشك أن تدرك مجتمعا ناشئا. ثم يقدم هـذا المجتمع افتراضا احتماليا - الصحابة - محاولا تفسير الظاهرة التي يتحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:
( أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ ) وكأنه يريد أن يرجع المسألة بأكملها إلى عالم الكم، وبالضبط إلى (عالم الأشخاص) . ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ، يرد القضية إلى مسارها الحقيقي، بوعي سنني عميق، بعيدا عن عالم الكم قائلا:
( بل أنتم كثير ) . ثم يصف هـذه الكثرة بوصف ينزع عنها الفاعلية النفسية، والاجتماعية قائلا:
( ولكنكم غثاء كغثاء السيل ) وهذه الحالة في الحقيقة، هـي أقصى حالة يعيشها مجتمع إنساني معين. فمليار من البشر لا يستطيعون توفير شروط حياتهم واستمرارهم الحضاري، ويصبحون لقمة سائغة توجهها مجتمعات سرطانية، تعشش اليوم في قلبها النابض -السرطان اليهودي- وهذا كله لأنهم غثاء، ووضعية الغثائية، من الأمراض النفسية الاجتماعية، التي إذا حلت بثقافة مجتمع ما، أهلكتها، وحولتها إلى مجرد كيان شكلي مهلهل، كالثقافة الإسلامية في عصور الانحطاط مثلا.
رابعا: ثم بعد هـذا يقدم الرسول صلى الله عليه وسلم العلة الحقيقية للظاهرة المرضية مرجعا أياها إلى مصدرين أساسيين هـما:
- التحولات الجارية في نفسية الأعداء، أي المجتمعات، والثقافات التي تعادي الإسلام قديما وحديثا (الغرب واليهود ) والتي سعت وتسعى إلى إنهاء الوجود الحضاري للإسلام كعامل حاسم، وأساس في إحداث التوازن
[ ص: 88 ] الكوني -اجتماعيا- وهذه التحولات جعلت من هـذه النفسيات تكتسب مناعة، وقدرة على مواجهة قوى الأمة، والعمل للفتك بها
( ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم. )
- التغييرات الجارية في نفسية الأمة ( فردا ومجتمعا ) بحيث أصيبت هـذه النفسية (بمركب الوهن) الذي أرجعه النبي عليه الصلاة والسلام إلى فاجعة العصور والدهور، ومعضلة النفوس، والعقول، وآفة الحضارات، والثقافات وهي
( حب الدنيا وكراهية الموت ) .
فالنبي عليه الصلاة والسلام أعاد العلة الحقيقية في الحالتين إلى عالم النفوس وإن -صح التعبير- إلى عالم الأفكار، كبديل عن عالم الأشخاص على ما رأى المجتمع الإسلامي. وبالضبط في فكرة الوهن، التي لها علاقة مباشرة مع أجهزة العمل الصالح في الإنسان: العقل والقلب والجوارح. فالعقول جمد عملها، والقلوب فتر إيمانها، والجوارح تعثر عملها. وكما هـو معلوم فإن العلم والإيمان والعمل، هـم الزاد الدائم للحضارة.
خامسا: ويبدو كذلك بأن الحديث لم يربط تشكل مركب الوهن، بفترة زمنية معينة، ولكنه أعادها إلى جهود أجيال (الوهن الثقافي) والتخلف الحضاري، لتساهم بإرادتها، وتوجيهها، في تشكيل هـذا المركب داخل نفسية الفرد، والمجتمع، وثقافتهما على حد سواء. وبواسطة قوانين (التوارث الاجتماعي) للمركبات المرضية في (الحقل الثقافي) ، نقل المرض بشكل تراكمي إلى أن وصل إلى (بدايات العصر العالمي) الذي نعيشه اليوم، عباد الثلث الأخير من القرن العشرين، وهنا دخلت الإنسانية في منعطف من منعطفات صيرورتها فوق الأرض، فتطلب منها الأمر، نظرة مستوعبة في مشكلاتها، وأزماتها.. والحديث النبوي يقدم وعيا عميقا على هـذه القضية كما أشرنا سابقا.
[ ص: 89 ]
إن (الحديث النبوي)
>[2] الشريف، سنة من سنن الله في الخلق، ورؤية صائبة في المأزق العالمي الراهن الذي تشكل من:
- التحول النفسي الذي تم في نفسية صانعي الحضارة الحديثة، بما في ذلك الجانب العقلي، والفكري، والمنهجي، والعمراني، والتكنولوجي، والثقافي والسياسي، والاجتماعي، والتربوي.
- التحول النفسي الذي تم في نفسية الإنسان المسلم بما في ذلك جوانب الفعالية الثقافية الثلاثة: العقل، والقلب، والجوارح.