المنهج النبوي وتوجيه جهود النهوض
فالحديث يقدم المساعدة الأولية اللازمة لبناء حضارة العصر العالمي، وذلك بتحديده للمشكلة الإنسانية المعيشة، ولكن يبدو أن عالم الاجتماع المسلم المشتغل بحقل النهضات - إن وجد أصلا كعلم جماعي - لم يعر بعد الاهتمام المطلوب للمنهج النبوي باعتباره مركبا حضاريا للطاقة الإنسانية، كما لم يتذوق بعد قيمة هـذا الحديث النموذجي الذي نحن بصدد تحليله.
فقد أتاح لنا الحديث فرصة عظيمة، واختصر لنا زمنا طويلا، قد نقضي فيه كأمة، ويقضي فيه غيرنا من الحضارة القائمة قرونا متطاولة بعلومهم الإنسانية، والاجتماعية، كيما يصلوا إلى تحقيق النتيجة المذهلة التي توصل إليها الحديث، منذ أربعة عشرة قرنا. فقد حدد لنا رسول الإنسانية صلى الله عليه وسلم موقع المرض العضال الذي خلف حضارتنا، وهو بصدد إسقاط الحضارة الغربية، وقدم لنا منهجا قاعديا لتركيب حضاري جديد، يؤهل الإنسانية للدخول إلى العصر العالمي، فهذا الحديث يخدم منهجية عالم التاريخ، وعالم النفس، وعالم الاجتماع، والمفكر المسلم، لأنه يوفر عنهم تكاليف تأسيس منهجية لدراسة أزمة الأمة الحضارية على حد تعبير المرحوم
مالك بن نبي .
[ ص: 90 ]
إن في الحديث تعبيرا صادقا وصحيحا عن تغيير اجتماعي ونفسي عميق، أصاب النفسية البشرية عموما (الإسلامية وغير الإسلامية) .. فعلى صعيد النفسية الإسلامية، سارت الأزمة على طريق
( حب الدنيا وكراهية الموت ) . وعلى صعيد النفسية غير الإسلامية، نمت العقلية الاستعمارية التي تسعى هـذه الأيام إلى نفي الإسلام من العالم تحت تسميات، ومسميات متنوعة مثل (السلام.. والحضارة الغربية العالمية.. والأصولية الإسلامية) .
فالحديث يرى بأن المجتمع الإسلامي غثاء، لأنه فقد الشعور برسالته الاجتماعية، التي تأسست على (حب الموت وكراهية الدنيا من أجل الدنيا) كما وضح بأن المسلم أصبح من المخلدين للواقع الأرضي الفاني. حيث هـبط الكثير من الناس ليعيشوا راضين في فوضى عالم الأشياء. فمعظم مواقف المجتمع الإسلامي أصبحت تدور حول محور (حب الدنيا وكراهية الموت) وذلك هـو جوهر (الأزمة الحضارية) التي تمر بها البشرية، بما فيها مجتمعنا الإسلامي، الذي أصيب بالوهن (فلقد كان هـذا الحديث ضربا من التنبؤ والاستحضار: استحضار حالة العالم الإسلامي، بعد أن تتمزق شبكة علاقاته الاجتماعية، أي عندما لا يعود مجتمعا، بل مجرد تجمعات لا هـدف لها كغثاء السيل. ولا ريب أن جيلنا الحاضر يدرك الحديث، أكثر مما يدركه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ، لأنه يصف في مضمونه العالم المستعمر، والعالم القابل للاستعمار، الأمر الذي تعرضنا فيه لتجربة شخصية)
>[1] من هـنا تتضح لنا أهمية هـذا المدخل الذي ساعدنا على تشكيل الجملة السابقة من الملاحظات، وفتح لنا طريق التأمل الأعمق. فهذه الطبيعة الدقيقة للأزمة، هـي المفتاح، لأي تحول في مجتمعنا الإسلامي الراهن، وفي مجتمعنا البشري القائم. فكل فلسفة للتغيير الحضاري، تتجاوز هـذا الوعي تعد جهلا،
[ ص: 91 ] وانتحارا في هـذا الميدان الخطير، وخير دليل على صحة هـذا الزعم، هـو كل المشاريع النهضوية، التي قامت في عالمنا الإسلامي المعاصر، وكل الأمراض التي رافقت نمو الوجهتين الرأسمالية والشيوعية في العالم.
لقد تجاوزت السنة النبوية في وعيها للأزمة الإنسانية الراهنة، العلوم الحديثة بقرون من الوعي، والجهد المخبري الذي سيثبت في النهاية أن حل الأزمة الإنسانية وتأهيليها، لتدخل العصر العالمي، مشروط بعلمها (أنه الحق) ولهذا قال المولى تبارك وتعالى:
( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت:53)
فحل الأزمة ينطلق إذن من عالم النفوس، ويمتد في عالم المجتمع، ثم ينتشر في عالم الثقافة، وبعدها يدخل إلى عالم التاريخ، ليتحول فيما بعد إلى منهج للسير في الأرض من أجل الاهتداء إلى السنن الإلهية. قال تعالى:
( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ) (النساء: 26)
وهذه هـي رسالة السنة النبوية في حقل البناء الحضاري، حيث تبين منهج كشف السنن، وكيفيات تركيبها لتصبح ثقافة اجتماعية حية، تتجسد فيها قيم الوحي، ومعاييره، ونظمه الحياتية المتنوعة، والشاملة لحياة الناس الدنيوية، والأخروية.