فلسفة البدء والتوجيه الانطلاقي
التوجيه الذي يلزم القيادة التغييرية في لحظات الانطلاق، يعتبر من أقسى التحديات في المجال (المنهجي) ، لأن حركة ( التحديات ) للواقع القائم، ستسعى إلى مخاطبته بنوع جديد من الواجبات والأفكار، التي تختلف كثيرا أو قليلا عما ألفه من أوضاع، وفي القرآن تعبير عميق عن هـذا النوع من التحدي، الذي تواجهه المجتمعات القائمة، من قبل قوى التغيير الجديدة، فيكون جوابها ما تعبر عنه هـذه الآية بعمق. قال تعالى:
( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ) (الزخرف: 22) .
فهذا النوع من الإحساس، والسلوك المضاد لحركة التجديد، إنما مرده إلى النفسية الأثرية، والمقتدية بغير وعي، والمحافظة على الوضع القائم الذي ألفته، وتحول عندها إلى ثقافة آبائية مستحكمة. ومن هـنا تكون الحركة التغييرية كمن يريد إيقاف أنفاس المجتمع القائم، وقبض روحه القديمة، ولهذا فالمجتمع القائم، يرد بعنف على هـذا السلوك، ( والمجتمع الجاهلي ) الذي عاصر النبي صلى الله عليه وسلم خير دليل لهذا النوع من السلوك.
ولكي يكون التوجيه الانطلاقي متماشيا مع قوانين البناء الحضاري، فإن القيادة التغييرية مطالبة بمواجهة، وتوجيه أول عمل على طريق التغيير الاجتماعي وهو: ( التحديد الدقيق، والصحيح لموقع المرض، والأزمة القائمة في كل مستوياتها ) وعليه فمشكلة أي حركة تغييرية تلك المتصلة بالتاريخ التكويني
[ ص: 106 ] لها، هـي امتلاك القدرة الكافية على التحديد الإيجابي لموقع، ونوعية المرض، الذي يراد استهدافه بالعلاج، إذ الأمراض تختلف، وتتنوع بشكل كبير. فمريض السرطان مثلا يختلف عن مريض السل، أو فقر الدم على الصعيد البيولوجي، ومريض الثقافة، يختلف تماما عن مريض السياسة، أو الاقتصاد، على الصعيد العقلي. وهكذا فالتحديد مطلوب ولازم، لأنه بهذا العمل الأساسي الأولي تنبني فلسفة الانطلاق في التغيير، ومناهجه، وأهدافه، ووسائله، وطبيعته. والعجز عن آداء هـذا العمل المفصلي، سيؤدي حتما إلى تضييع الجهود و ( تبديدها ) خارج دوائر التغيير المطلوب، وربما (تحريفها) عن مسارها الحقيقي، وهذا ما حدث مثلا مع الثورة الفرنسية ، التي استأثرت بها جماعة على حساب الفلسفة الانطلاقية، التي قامت الحركة لتحقيقها، ونفس الأمر تقريبا حدث للثورة الإسلامية التحريرية في الجزائر .
فأول نقطة استفهام كبرى تواجه القيادة إذن، في الطور الأول من أطوار التغيير الاجتماعي، هـي تقديم الجواب الصحيح، والواضح المعالم، والذي تضبط به مشكلة المجتمع ضبطا محكما، بحيث تعرف طاقاته، وإمكاناته، وقواه المختلفة، وتناقضاته المتنوعة، ونقاط الضعف والقوة فيه، وتدرك مداخل استجابات أفراده، ومفاتيح التعامل مع عقائدهم، وطبائعهم، وعوائدهم، ومواقفهم التي درجوا عليها. والقيادة التغييرية، عندما تقوم بهذا العمل، ليس فقط من أجل التوجيه الخارجي للمجتمع، ولكن وبشكل ملح من أجل التنظيم الذاتي لطاقاتها، وإمكاناتها، وتوجيه مشكلاتها، وحل معضلاتها، وترتيب قواها للمواجهة، والمراجعة، والإقدام، والإحجام.
إن فلسفة البدء في التغيير، وكل ما يتعلق بها من شروط، ومتطلبات، تقوم أصلا على هـذا (التحديد) في صحتها وخطئها، فلا يمكن وضع برنامج للتوجيه الانطلاقي في مختلف مراحله ومستوياته بدون هـذا الوعي على المشكلة وامتداداتها التاريخية، والثقافية، والاجتماعية، والسلوكية، والمنهجية..
[ ص: 107 ]