هـل أعدت حضارتنا ما استطاعت من قوة ؟
يتسم عصرنا الراهن بأنه عصر تحولات سريعة ومدوخة ومثيرة. اكتسحت الثورة التكنولوجية والاتصالية ، كل قطاعات حياتنا.
تغلغل العلم في اتجاهين كبيرين: اتجاه الفضاء الكوني الواسع اللامتناهي، واتجاه جزئيات الخلايا الدقيقة. إنهما مغامرتان نقرأ يوميا عن مداهما. (
كولومبيا ) المكوك الفضائي رحل في يوليو 1994م إلى مداره حول الأرض يحمل سبعة باحثين من
أمريكا ، ومن
اليابان ، لدراسة الحياة البيولوجية، في حالة انعدام الجاذبية.. وأحدث اكتشاف طبي جاء من ماساشوستس، يتعلق بالتغلب على أسباب العقم، وزيادة نسبة الأمل في الإنجاب. وتتواصل ضمن هـاتين
[ ص: 84 ] المغامرتين كذلك اكتشافات أجرام سماوية جديدة، ورصد التحولات المناخية من علو شاهق، والتعمق في برامج الجينات الوراثية DNA لدى الإنسان. وتوصل العلماء في مغامرة البيولوجيا إلى أن الإنسان يجد نفسه بإزاء عالمين متشابهين منسجمين: عالم الملكوت السماوي الشاسع، وعالم الخلايا الدقيقة غير المنظورة.
في هـذا وذاك نظام عجيب، وميزان غريب. في الفضاء تدور الأفلاك وتتوالد، وتنتظم حركتها بمفعول الجاذبية المدهش، وفي جسم الإنسان خلايا ونوى الخلايا، تدور أيضا كما الأفلاك، وتنتظم حركتها بمفعول عوامل الوراثة والتغذية والبيئة، ونوعية ردود الفعل إزاء الصدمات والتحولات الاجتماعية اليومية.
ولكن الذي وقع خلال هـذه العشرية، هـو أن العلم المحض وجد نفسه عاجزا عن فهم لغز الكون والحياة بمفرده، بل وأكثر من ذلك أحس بخطر انفراد العلم بإدارة الكون؛ لأن العلم يكتشف ولا يفسر، يحلل ولا يبرر، فاستنجد العلم بالدين. وكان أحدث مثال على ذلك هـو قصور العلم عن الإحاطة بالهندسة الوراثية، والاحتياط لمجابهة هـذا العالم الجديد، عالم البرمجة الجينية .
اكتشف العلماء أن حياة كل منا وحتى قبل أن نولد، تشبه ( ديسكات ) جاهزة في بعض خطوطها، توضع مع ميلادنا في جهاز كمبيوتر - أي الحياة - لتبوح بأسرارها وتسلك طريقها، وتعاني أمراضها وبلواها، وتنال رغباتها، وتحقق أمنياتها. واندهش العلماء لعظمة ما اكتشفوا. أليسوا بذلك يدركون مفهوم القضاء، والقدر، المنصوص عليه في القرآن، ويتجلى معنى خلق الله للنفس البشرية، وإلهامها الخير والشر قبل أن توهب الحياة:
( ونفس وما سواها *
[ ص: 85 ] فألهمها فجورها وتقواها *
قد أفلح من زكاها *
وقد خاب من دساها ) (الشمس: 7-10) .
( إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا ) (الطلاق:3) .
( الذي خلق فسوى *
والذي قدر فهدى ) (الأعلى:2-3) .
( الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) (الرعد:26) .
ثم إن الله تعالى يسبغ الأقدار نفسها على الكواكب، أي ذلك الفضاء الكوني الذي نحن منه ولسنا مركزه:
( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل ) (يونس: 5) .
إن الذي نراه في اكتشافات المراصد، والمخابر، ونتأمل صورا له في المجلات العلمية الحديثة، ليعطينا أبعادا جديدة لقراءة القرآن، ويفتح في وجوهنا بعض مغاليق الكتاب المكنون. وإنك ستحار إذا ما شاهدت إحدى هـذه الصور الضوئية، فهل هـي الكواكب في الفضاء تسبح، أم هـي لخلية واحدة من خلايا الجسم بما لها من قلب وذرات تسبح هـي الأخرى! إنك ستحار بين صورة أضخم ما وصلت إليه مراصد الإنسان، أي الفضاء الرحب اللامتناهي، وبين صورة أصغر مالتقطته عدسة الميكروسكوب ! لقاء غريب مدهش بين الأضخم والأصغر، بين ما لا نستطيع أن نراه بعيوننا لأنه كبير بعيد، وبين ما لا نستطيع أن نراه بعيوننا لأنه صغير دقيق! ألسنا محكومين بأن نتأمل فقط هـذا العالم، الذي نعيش فيه! مع أن الله أراد لنا أن نتطلع إلى ما وراء عالم الشهادة:
( إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) (الرحمن: 33) .
[ ص: 86 ]
وللقارئ أن يسألني: ما الذي أردت إثارته بقولي هـذا؟
إن غايتي هـي إثارة علمائنا وفقهائنا حتى يتعمقوا في دراسة هـذه الاكتشافات الخارقة الكثيرة، ويبحثوا فيها عما يدعم الفكر القرآني، ويرسخ البعد الإسلامي، ويؤيد الرؤية الإيمانية.. فالقرآن نقرأه اليوم بعيون هـذا العصر الذي تكثفت فيه الاكتشافات، بما يطابق القرآن، لا بما يشكك فيه، وكثرت حقائق العلم في الآفاق وفي أنفسنا، مما يجعلنا نفهم أكثر، تلك الإشارات الإلهية التي بثها سبحانه في كتابه الكريم.
إننا في قرننا الخامس عشر من الهجرة، نشهد على انتصار كاسح للإسلام في ساحة لم نكن نتوقعها، وهي ساحة العلم المجرد، فكلما فتح العلم بابا بفضل اختراع أو اكتشاف، إلا وانبهرنا بالنور الإلهي يغمرنا، ونزداد إيمانا، ويقوى تمسكنا بالإسلام.
لقد خسر الجاهليون الجدد معركة أخرى حاسمة على ساحة العلم التي اختاروها بأنفسهم، لتكون مقبرة للدين الحنيف، فإذا بهم يحفرون فيها قبور أوهامهم، وضلالاتهم وضياعاتهم. رفعوا شعار العلم واشتقوا منه العلمانية ، واتخذوا كلام الله ودعاته هـزوا، حتى خسف الله بدعاويهم الأرض، وجعل سبحانه من كل خلقه آيات جلية مطهرة، تنطق بعظمته وتسبح لذاته العلية وتذكره بالعشي والإبكار.
ومن هـذه الملاحظات العامة، نخلص للقول: إن المشروع الحضاري الإسلامي يملك هـذا التميز الأساس في صراعه القادم مع الحضارات الأخرى، ألا وهو خضوع العلم لديه، للدين. فالعلم الإسلامي منذ نشأته كان ملتحما بالدين، متفرعا عنه، ملتصقا بالوحي، أمرنا الله تعالى:
( قل سيروا في الأرض [ ص: 87 ] فانظروا كيف بدأ الخلق ) (العنكبوت:20) ،
( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت:53) .
وأطلق الحق سبحانه وتعالى على ظواهر الطبيعة، وبيئة الإنسان، وأجزاء الفضاء الرحب، عبارة: (الآيات) ، التي لا ترجمة لها في أية لغة على الإطلاق، ولا شبيه، فهي كلمة تجمع المحسوس والمجرد في آن واحد، وتوحي بأن مخلوقات الله لا تقتصر على الشكل المادي الملموس والمرئي، بل هـي آيات أوجدها الله حتى يتدبرها قوم يعقلون، أي يعملون عقولهم إزاءها. وكان العلم بهذا المعنى في حضارة الإسلام، لا تفسيرا لظواهر الطبيعة، أو جسم الإنسان فحسب، بل عملية مستمرة، غايتها إدماج الإنسان في الطبيعة، وفي الكون:
( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) (البقرة:146) .
ويمكن أن نؤيد الرأي الكريم السائد، وهو أن الحضارة الإسلامية، هـي التي سلمت مشعل العلوم إلى
أوروبا ، لتقوم هـذه بنهضتها العلمية، فما من علم - كالطب والفلك والكيمياء الرياضيات والفيزياء والصيدلة - إلا وترك أبرز المصطلحات الأساسية متداولة بأصلها العربي في أوروبا إلى اليوم، وحتى الصناعات الأوروبية القائمة اليوم، احتفظت بمصطلحاتها عربية، يجهلها علماء أوروبا، وأغلب علماء المسلمين.. من ذلك كلمة ARSENAL أي مصنع بناء السفن، وهي تحريف بسيط لكلمة دار الصناعة، جلبها الصليبيون العائدون من
[ ص: 88 ] الشام، بعد أن لمسوا مستوى بناء السفن العربية في الموانئ المسلمة. والمصطلحات أكثر من أن تحصى، وهي معروفة، من الصفر، إلى الجبر، إلى الخوارزميات، إلى مواقع المجرات والكواكب، إلى أسماء الأدوية، ومسميات الأمراض ... إلخ.
أما السر المكنون في أن
أوروبا ، رغم أنها أخذت مشعل العلوم عن الإسلام لم توفق إلى اليوم إلى إنجاز مجتمعات آمنة سعيدة، فذلك راجع إلى أن أوروبا ورثت عن المسلمين الوسائل، ولم ترث الغايات. أوروبا أخذت عن المسلمين الجانب المادي من العلوم، ولم تأخذ الجانب الروحي. ونحن حينما نقول اليوم: إن أوروبا - أو الغرب عامة - بلغت درجات عليا من التقدم، فإنما نقصد درجات عليا من التحكم في وسائل الإنتاج، والصناعة، ولا نقصد درجات عليا من الحضارة، فالحضارة هـي الإنسان قبل كل شيء، والإنسان في المجتمعات الأوروبية، إنسان شقي، مستعبد
>[1] .
إن بلوغ أوروبا قدرا متقدما من التكنولوجيا والتصنيع وعلوم الاتصال والإنتاج، وفر للمجتمع الأوروبي قدرة على الاستهلاك والإنتاج، فتحول الفرد هـناك من مواطن حر إلى مجرد أداة إنتاج واستهلاك، أي إلى (برغي) مجهول في ماكينة جبارة، عمياء، صماء، لا ترحم.
وإذا أردت الاقتناع بهذه الحقيقة، فعليك استجلاء الأرقام، لتجد أن
السويد ،
وفرنسا ،
وألمانيا ، تأتي في مقدمة بلدان العالم، من حيث عدد المنتحرين (في فرنسا وحدها إحدى عشر ألف حالة وفاة عقب انتحار عام 1992م، بعدد
[ ص: 89 ] ضحايا حوادث الطرقات نفسها في هـذه البلاد) .
وخذ أرقام تعاطي المخدرات، وأرقام جرائم العنف والاغتصاب، والسفاح، لتكتشف أن هـذه المجتمعات رغم امتلاكها للوسائل، فإن الغايات مفقودة، بل لا تجتمع الوسائل بالغايات إلا في الإسلام، وفي الإسلام وحده.
المواطن الأوروبي تعلق بحاكمية السوق، ففقد كل مقومات الإنسانية فيه، ليخرج من رق الإقطاع أو رق الكنيسة، ويدخل في رق المؤسسة المالية أو المؤسسة السياسية. المطلوب منه هـو أن يفكر بحرية بل يفكر كيف يكون منتجا، وكيف يكون ناخبا، وكيف يكون مدينا للبنوك، وكيف يكون مستهلكا!
خرجت العبودية لديه من الباب لتعود من الشباك.. ثم هـل تعلمون أن إحدى معارك المجتمعات الأوروبية اليوم، وأكبرها، هـي معركته ضد الربا ، الذي حرمه الإسلام؟! صدرت كتب لا تحصى، وخصصت مقالات ودراسات كثيرة في
فرنسا وحدها، لتؤكد أن العائلة الفرنسية أصبحت رهينة قروض المصارف، أي ضحية الربا. كل مواطن فرنسي مدين للمصارف بما يجعله يشتغل خمسة أعوام بدون أجر، لتسديد ديونه ذات الفوائد المتصاعدة.
هو الربا، ولكنهم لا يسمونه هـكذا، وصفوة المجتمع الفرنسي تقاومه وتطالب بتحريمه قانونا لا شرعا، بينما القرآن حسم هـذه المظلمة منذ أربعة عشر قرنا.
فماذا فعل العلم المحض لدرء هـذه الأخطار عن المجتمعات الأوروبية؟ نعم العلم وفر السيارة وجهاز " السكانير " ، وخلاط المطبخ، والكمبيوتر، لكنه لم يوفر السعادة، لا للفرد الذي استعبد، وصودر رزقه، ولا للأسرة التي تفجرت وانفطرت كالحب والنوى، ولا للمجتمع الذي سار بدون هـدى نحو حتفه.
[ ص: 90 ]
الفرد عبد للمصارف، وللمؤسسة السياسية، والإعلامية، وهو ضحيتها ووقود نارها، ولا يساوي فلسا. تحدد له المصارف دخله الضئيل لكي يظل حيا، لا لكي يصبح سعيدا، بعد أن تقتطع سبعين بالمائة من مرتبه، وترهن بيته وأثاثه، وسيارته، فهو لا يملك شيئا في الحقيقة، ثم تقتطع الدولة مما بقي من مرتبه نسبة النصف (ضرائب مباشرة، وضرائب غير مباشرة، تتمثل في ألعاب الحظ وغلاء المعيشة ... ) ثم يفرض عليه الإعلام الإقطاعي بواسطة الإشهار، ما يجب عليه أن يستهلكه ( أي أن يقتنيه بقروض إضافية) ثم توهمه المؤسسة السياسية (أحزاب، نقابات) ، أنه مواطن حر في اختيار من يمثله في المجالس المحلية والتشريعية.
ثم إن هـذه التنينات الثلاثة:
- تنين المؤسسة المصرفية،
- تنين المؤسسة السياسية،
- تنين المؤسسة الإعلامية،
اجتمعت في تحالفات عتيدة مريبة (لعل أحسن مثل لها المافيا الإيطالية، التي تجمع رئيس المصرف ورئيس الحكومة ورئيس تحرير الصحيفة) ، تحالفت هـذه المؤسسات لتسد طريق النجاة في وجه المواطن الأوروبي، حيث أعلنت أن المجتمع لائكي ولا ديني، فعزلت الكنيسة في دور عبادة، وإقامة طقوس لا تأثير لها في المجتمع، وهذا هـو ما يريد الجاهليون المعاصرون في أمتنا المسلمة أن ينفذوه، حتى " نلتحق بركب التقدم الغربي ... ! " وهم يعلنون حاكمية التنوير أو يزينون لنا " بحبوحة العيش " لدى أهل
أوروبا ، وهم في الحقيقة يصدون عن سبيل الله، ويقاتلون في سبيل الطاغوت، ويضلون البلاد والعباد، وإنهم إذا ما
[ ص: 91 ] رفعوا شعار العلمانية -المشتق زورا وبهتانا من العلم- إنما هـم يخرجون للأمة الإسلامية عجلا له خوار، مثلما أخرج
السامري لبني إسرائيل، لكي يزيغ بهم عن عبادة الله عز وجل ، ولعل أبلغ رد على هـؤلاء -أصحاب العجل المحدثين- ما جاء في سورة طه:
( إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هـو وسع كل شيء علما ) (طه:98) .
وتأتي عبارة العلم هـنا في القرآن الحكيم، للرد على العلمانية المزيفة، فالعلم اقترن في تاريخ الإسلام بالوحي الإلهي، لدرجة أن لفظة حكيم كانت إلى زمن قريب تطلق على الطبيب، في أرجاء العالم الإسلامي كافة. إن الذي أصاب المسلمين هـو التفريط في هـذه العبقرية الحضارية الفريدة، الرابطة بين العلم والدين، وبين العقل والوحي، ومثال علم الطب، نموذج صالح للاعتبار. والكثير من أطبائنا الحكماء المسلمين، يأسفون لهذه القطيعة بين الطب والإيمان
>[2] . وللهبوط الذي أصاب رسالة الطب، حينما تحولت إلى صناعة، يوجه إليها الطلبة حسب معدلات الثانوية العامة، فأصبح الطب علما بلا حكمة، إلا من رحم ربك من ذلك المعدن الإنساني الباقي، والذي لم يجر لاهثا وراء ربح مادي سريع، وجاه دنيوي زائل. وقد أحسن
الدكتور زيدان تفكيرا عندما قرن ذلك الهبوط المؤسف في الحكمة، بهبوط أعم وأشمل في العلاقات الاجتماعية، بين المسلمين، وهبوط في سلم القيم الحضارية، التي تشكل نسيج هـويتهم، وهبوط في مستوى التعامل الأخلاقي، بين أفراد الأمة الإسلامية وشعوبها. فلا غرو إذن
[ ص: 92 ] أن يتحول الطب إلى مهنة عادية، والعلاج إلى صناعة، والاستشفاء إلى تجارة، حتى إن الاستثمار بمعناه المادي الربوي، دخل إلى هـذا المجال الشريف، فأخضعه إلى نواميس السوق والعرض، والطلب، مما جعل مجهود الحكومات في العلاج الرخيص، أو المجاني، يصبح كأنه ملجأ للصدقة والزكاة ، أمام المستشفيات ذات النجوم الخمسة الاستثمارية.
وأستسمح القراء الكرام أن أستعيد معهم بعض معالم الطب الإسلامي وتاريخه الحافل بالأمجاد، فهو الطب الذي غذاه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بما يلزم من سمو روحي، ورفعة أخلاقية، جعلته - منذ عهد طبيب الرسول والصحابة
حارث بن كلدة الثقفي - أداة مثلى لإنقاذ الجسد والروح، وعلاج الألم والريبة بواسطة الدواء والإيمان معا. وهذا هـو سر حكمة الطب الإسلامي: اكتشاف عظيم للنفس البشرية، التي ألهمها الله سبحانه فجورها وتقواها، وأعلن في السورة نفسها أنه قد أفح من زكاها، وقد خاب من دساها.
كما أن المسلمين هـم أول من أعاد بعث قسم
أبقراط ، ونجد له فصلا وافيا عند
أبي أصيبعة في كتابه: " عيون الأنباء لطبقات الأطباء " ، وثبت أن أوروبا لم تعرف قسم أبقراط إلا عن طريق هـذا الكتاب الإسلامي في القرن الثالث عشر المسيحي، ثم هـلت على العالم أنوار بن سهل الطبري،
والرازي ،
وابن سينا ، وسواهم حتى استوت في الدنيا مدرسة الحكمة، بعد أن كانت
أوروبا قبل التقائها بالثقافة الإسلامية الأندلسية، تعتبر المرض حلولا للشيطان في جسم الإنسان، تعالجه بالحرق والمباخر، والتعاويذ.
وجاءت حكمة الأطباء المسلمين، من كونهم فقهاء، قبل التعمق في الطب، فكان الفقه الإسلامي، يسبق العلم، بإرساء الأسس الأخلاقية، من فضيلة،
[ ص: 93 ] ورحمة، وصبر، وإيثار، ونصيحة، وتعفف.
يقول
الشيخ الرئيس ابن سينا في مقدمة كتاب النجاة: (إن أفضل الحركات الصلاة، وأمثل السكنات الصيام، وأرفع البر الصدقة، وأزكى السير الاحتمال، ولن تخلص النفس عن الدرن، ما التفتت إلى قيل وقال، ومناقشة وجدال، وانفعلت بحال من الأحوال، وخير العمل ما صدر عن خالص نية، وخير النية ما ينفرج عن جناب علم، والحكمة أم الفضائل، ومعرفة الله أول الأوائل ... ) .
وأروع ما في هـذه التعريفات الكريمة للطب، ما جاء على لسان
رشيد الدين على بن خليفة ، حيث قال: " الأمراض لها أعمار، والعلاج يحتاج إلى مساعدة الأقدار، وأكثر صناعة الطب حدث وتخمين، وقلما فيه اليقين، وجزاها القياس والتجربة، لا السفسطة وحب الغلبة، ونتيجتها حفظ الصحة، إن كانت موجودة، وردها إن كانت مفقودة.. ويتميز الفاعل عن الجاهل، والمجد عن المتكاسل، والعامل بمقتضى القياس والتجربة، عن المختال في اقتناء المال، وعلو المرتبة ... " .
ويضيف
القلقشندي درة حكمة، لهذه التعريفات في القرن السابع الهجري، حيث يبدع في الإيجاز والبيان قائلا: " يشترط في الطبيب أن يتحلى بالإيمان، وشرعة التقوى " . أما
ثابت بن قرة الحراني ، عالم الفلك والرياضيات والطب والفلسفة، الذي نبغ في هـذه الفنون في عهد
المعتضد العباسي ، فيقول: (إن راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة النفس في قلة الآثام، وراحة القلب في قلة الاهتمام، وراحة اللسان في قلة الكلام ... ) .
[ ص: 94 ]
ثم إلى جانب شرف الفضيلة، فإن صفوة من حكماء الطب الإسلامي ضحوا بحياتهم أو بحرياتهم، من أجل مواقف وقفوها، وفي سبيل كلمة حق قالوها في حضرة سلطان جائر، فقتل منهم من قتل، وسجن منهم من سجن، ومات منهم من مات، في الفاقة والنسيان والإهمال، ومن بين هـؤلاء الحكماء المجاهدين:
أبو بكر الرازي ،
وعلي بن رضوان ،
والحسن بن الهيثم ،
وإسحاق بن عمران ،
ولسان الدين بن الخطيب ،
وابن ماجة ،
ونجيب الدين السمرقندي ، وسواهم أكثر في جميع العهود، رحمهم الله، إن كانوا قضوا، ونصرهم الله إن كانوا بيننا، وجزاهم عن الإسلام كل خير.
ولعل القارئ الكريم يريد مزيد التعمق في هـذه المعاني الجليلة، خاصة وشبابنا المسلم، يتعطش لمعرفة تراثه العلمي الغني والواسع، أرجو أن يفوز بتلك المعرفة من ينابيعها، أي بالرجوع إلى مؤلفات القمم، التي ذكرت بعضها في هـذا الفصل القصير، وإذا تعذر عليه ذلك، فليعد إلى كتب أوجزت هـذه العلوم الإسلامية الطبية للقارئ المعاصر، منها كتاب تاريخ الطب الإسلامي،
للأستاذ الدكتور سليم عمار ، أستاذ الطب النفسي بالجامعة التونسية، وكتاب
المستشرق الألماني المنصف يوحنا كرستوف بيرغل بعنوان: الوجه المزدوج للطب في الحضارة الإسلامية، وغيرهما من المؤلفات، وليتأمل القارئ الحصيف كذلك بعض ما بلغه أطباء علماء مسلمون، يعملون في جامعات أوروبية وأمريكية من شأو بعيد، ليدرك أننا لسنا أيتام علم وحكمة، بل إننا أمة تصدر عقولها وتفيد مجتمعات غيرها.
[ ص: 95 ]