قل اللهم مالك الملك
إذا كان قيام الإسلام على التوحيد، أي الإيمان بوحدانية الله تبارك وتعالى، فإنه قضى بوحدانية مصدر التشريع. والوحدانية المصدرية نابعة من الوحدانية الإلهية ، فلا شرك بالله، كشرط أول لإسلام المسلم، ولا تعدد لمصادر القانون، كشرط أول لبناء المجتمع الإسلامي. وبذلك يكون التوحيد الأكبر، أي التسليم بأن الله أحد، هـو شرط إسلام الفرد في سريرته، ويكون التوحيد الثاني، أي الاعتقاد بأن الحكم لله وحده، هـو شرط إسلام الفرد في عشيرته وفي مجتمعه.
وتتعدد في القرآن الكريم آيات تحريم اتخاذ الأرباب من دون الله، وتجريم عبادة الطاغوت:
( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ) (آل عمران: 64) .
( أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا ) (الكهف:102) .
( فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هـم الكافرون ) (المائدة: 44) .
( قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ) (الأنعام:164) .
ذلك هـو معنى الانفراد بالألوهية، الذي سنه القرآن لإعلان مساواة المؤمنين، فلا يحق لبعضهم اتخاذ بعض أربابا أو أولياء، ولا يحق لبعضهم خشية بعض.
[ ص: 124 ]
ثم جاءت آيات انفراد المولى عز وجل بالتشريع، واختصاصه وحده بسن القانون الأعلى للحكم:
( اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هـو وأعرض عن المشركين ) (الأنعام: 106) .
( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ) ( الأعراف: 3) .
( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هـم الكافرون ) (المائدة: 44) .
وفي آية أخرى (هم الظالمون) ، وفي آية ثالثة (هم الفاسقون) ، وزاد القرآن بيانا، فوضع منهجين واضحين للحكم هـما:
(1) حتمية حكم الله.
( 2 ) عقلانية شريعة الله.
1- سن الله سبحانه وتعالى حتمية القبول بحكم الله، لكي يكون الإيمان إيمانا كاملا، في قوله تعالى:
( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) ( النساء: 65 ) .
ويرتبط الإيمان الحقيقي هـنا، بتحكيم الشريعة فيما شجر بين الناس، بنفس مطهرة من الحرج.
2 - أما توافق الشريعة مع العقل، فتنص عليه الآية الكريمة:
( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) ( الجاثية:18) .
[ ص: 125 ]
فجاءت الشريعة هـنا مناقضة للأهواء، أي منطلقة من خالق الإنسان، العالم به، المسير للكون، بعيدا عن تقلبات الإنسان، وتحولات المجتمعات، كأنما هـي الدر المكنون الذي لا تعتريه الشوائب.
وإذا نظرنا اليوم ونحن في قلب القرن الخامس عشر هـجري، إلى أغلب الانحرافات التي حادت بالمجتمعات الإسلامية عن الطريق المستقيم، وأخلت بتوازنها، وزعزعت مواطن قوتها لوجدنا أن أسبابها الجوهرية تعود إلى عدم اتباع المسلمين للشريعة من الأمر، واتباعهم لأهواء الذي لا يعلمون، حتى ولو ادعوا عكس ذلك نطقا، أو ألبسوا سلوكهم الباطل بكلمات حق:
( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون *
كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) (الصف:2-3) . وكان ذلك الانقطاع عن الشريعة، هـو السبب المباشر للكوارث التي أصابت الأمة الإسلامية، منذ الفتنة الكبرى ، إلى فقدان
الأندلس ، ومنذ انهيار
بغداد تحت أقدام
هـولاكو ، إلى سقوط الخلافة العثمانية.
وبعكس ذلك لم تكتب للأمة صفحاتها البيضاء الناصعة، وهي بحمد الله أكثر من صفحات الانكسار والانحدار، إلا حينما تولى أمر الأمة رجال عضوا على شريعة الله بالنواجذ، وبدأوا بتطبيقها على أنفسهم وقبائلهم، فكان لهم النصر، ومكنهم الله من العنفوان والقوة منذ فجر الإسلام، وعهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين، والخلافات المتتابعة، التي قامت بواجب الجهاد، وحققت الفتوحات، إلى غاية الخلافة العثمانية، حيث امتدت دار الإسلام إلى جزء عظيم من الأرض، يتحكم في أخطر المضايق، ويسود أهم
[ ص: 126 ] البحار، ويملك أبرز الثروات والطاقات.. (وفي تلك العهود التي كانت الدولة العثمانية تمد ظلالها على امبراطوريتها الشاسعة ، في شرق وشمال
أوروبا ، وفي غرب وجنوب
آسيا ، كان العربي يسير من
عدن على
المحيط الهندي ، صاعدا إلى
الشام ،
ولبنان ،
والأناضول ،
وآسيا الصغرى ، ومن ثم يسير إلى
بلغاريا ،
ورومانيا ،
ويوغسلافيا ،
والمجر ، حتى يصل بعد ذلك إلى أسوار مدينة (
فينا ) عاصمة
النمسا ، وفي كل هـذه الرحلة لا يحتاج العثماني والعربي حمل جواز سفر، ولا هـوية، لأنه كان يمشي في بلاده، وتحت علمها، إلى أن يصل إلى حوض
نهر الداوب في فينا.. )
>[1] .
فالله سبحانه هـو مالك الملك، وهو صاحب الخلق والأمر، مما جعل الحضارة الإسلامية في أعز تجلياتها، حضارة تؤمن بالغيب، حسب الشرط الذي اشترطه القرآن في المؤمنين، عند الآيات الأولى من سورة البقرة، أولى سور الكتاب بعد الفاتحة:
( الم *
ذلك الكتاب لا ريب فيه هـدى للمتقين *
الذين يؤمنون بالغيب.. ) فلا إسلام إلا بالإيمان بالغيب. يقول
مالك بن نبي رحمه الله: ( إن الحضارة لا تنبعث كما هـو ثابت تاريخيا إلا بالعقيدة الدينية، فالحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعة ومنهاجا. فكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية، أو بعيدا عن حقبته، فحينما يكتشف حقيقة حياته كاملة، يكتشف معها أسمى معاني الأشياء، التي تشكل له مركز الرؤية، وتتفاعل معها عبقريته، وهذا لا يتحقق دون معرفة الوحي..) .
[ ص: 127 ] ولسائل أن يسأل، وهو محق في سؤاله:
- ما دام المسلمون، انطلقوا في بناء حضارتهم من إيمان بالغيب والوحي، وما داموا، أقروا بأن الحاكمية لله، فما الذي حاد في بعض مراحل تاريخهم، بتلك الحضارة إلى الانحدار؟ وما الذي حول مسارهم أحيانا إلى فتن، وجعلهم في القرن التاسع عشر مسيحي، مؤهلين لقبول الاحتلال الصليبي، حسب عبارة
مالك بن نبي ؟ ما الذي تسبب في تغير بعض أساليب الحكم لدى المسلمين، إلى استبداد فج، لا يختلف عن أي استبداد، مسيحيا كان، أو يهوديا، أو بوذيا، أم شيوعيا، أم فاشيا؟
الجواب صعب ومتشعب، إذا ما تعمقنا في الجزئيات التاريخية كلها، وملابساتها دينيا، وسياسيا، واقتصاديا، ولكن الجواب واضح، إذا ما أدركنا، أن الأسباب نفسها، تؤدي إلى النتائج نفسها، من قيام الفتنة الكبرى ، إلى سقوط بغداد ، ومن ضياع الأندلس ، إلى انهيار الخلافة العثمانية ، ومن مقتل حجر بن عدي ، إلى مقتل سيد قطب .
إن السبب يكاد يكون واحدا: القطيعة بين النموذج، وتطبيقه.. نعم. ظل النموذج المحمدي، وفروعه لدى خلفائه الراشدين، نموذجا حيا في الأذهان، ولكن تعطل التطبيق. الهوة اتسعت بين المثل الأعلى ، والواقع المعاش.. بين المثال الحي في الضمائر، وبين جهد العقل البشري، لتنفيذه في الميدان.
بل الأخطر أن الخطاب الإسلامي كرس تلك القطيعة، حينما أراد عكس ذلك، أي تطبيق الشريعة بالاجتهاد، وإعمال العقل.. فهذا الفكر، تصدى للتغريب والتنصير، والاحتلال بسلاح المثال، وهو سلاح قوي وناجع، لكنه لم يتصد لإنتاج فقه متجدد، يضع ذلك المثال موضع التنفيذ، في حياتنا السياسية،
[ ص: 128 ] والتربوية، والاقتصادية، والثقافية، وعلاقاتنا مع غيرنا من الأمم، مما أتاح لأعدائنا فرصة مقاومتنا، على أساس أن المثال الذي ندافع عنه، مستحيل التنفيذ، أو هـو سلفي، أو نظري، أو طوباوي، أو غير ذلك، مما نقرأه صباح مساء، في كتابات المنبتين، وأيتام الحضارة، والجاهلين الجدد.
إن المقاومة الإسلامية، ترفع سلاح النموذج، لطرد المحتل الصهيوني من
فلسطين ، وطرد المحتل الصربي من
البوسنة والهرسك .. والمقاومة الإسلامية ، تقاوم الفكر الصليبي التنصيري ، والصهيوني العنصري ، داخل المجتمعات المسلمة نفسها، لدرء الخطر الثقافي والإعلامي والسياسي، برفع النموذج، لكن المقاومة لن تكون استثمارا حضاريا مستقبليا، دائما وصامدا، إلا متى أقمنا بوسائلنا تلك، الدولة الإسلامية العصرية الحية القوية، وانصهرنا فيها شعوبا وقبائل، حتى نثبت لأنفسنا، ثم للعالم من حولنا، أن النموذج ليس حلما، وأن جهادنا لا يقتصر على رفعه شعارا، بل الجهاد الحق، ونحن نتوغل في القرن الخامس عشر، يتمثل في تحقيقه وتجسيمه، واستشراف المستقبل، بتضامن إسلامي، أصلب عودا، ووحدة إسلامية، أعمق جذورا، ووعي إسلامي أكثر اتصالا بقضايا عصرنا المتشعبة الدقيقة.. أي في النهاية، قدرة المسلم على تنزيل الإسلام في حياتنا، وتطويع مصيرنا لتقبل رسالته العظيمة.
تلك هـي معركة المستقبل، لفرض الآية الكريمة القائلة، بأن الله هـو مالك الملك، وأنه له الخلق والأمر سبحانه.
ولكن على أصحاب الفكر الإسلامي، أن لا يتخلوا عن عقلية المنتصر، في أي جدل يفرضه عليهم خصومهم، حين يدعون أننا نسعى نحو مدينة فاضلة، لم توجد إلا في فجر الإسلام، وإننا نحلم بنموذج لا يتحقق.. وردنا على هـذا
[ ص: 129 ] الجدل هـو أنهم أنفسهم، يسعون إلى حلم مستحيل. أليسوا يعتبرون الغرب المسيحي الراهن سدرة منتهاهم، وغاية منالهم؟! إنهم في كتاباتهم الجاهلية، المسماة خطأ، بالعلمانية ، يرسمون لك صورة المدنية الصناعية المادية الغربية، كأنها الأمل المنشود والمثل الأعلى ، والخير المطلق، ثم يلهثون وراء سراب، يسمونه اللحاق بركب الحضارة.
إنهم يحلمون، ونحن نحلم.
ولكن شتان ما بين الحلمين، وشتان ما بين النموذجين..
حلمنا يغرس جذوره في ينبوع حضارتنا الإسلامية، فيستعيد أمجادها، ويحي قيم الجهاد، والعدل، والمساواة، والمروءة، والإحسان، والتواضع، والزهد، والإيثار، التي أتاحت للإسلام فتوحاته، ومكنته في الأرض..
وحلمهم لقيط، يجري وراء وهم مستحيل، إذ يريدون نسخ مجتمعات الغرب نسخا ميكانيكيا، وإلباس شعوبنا أثوابا، لم تفصل على مقياسها، بل وتجريعها بالعنف دواء، لم يصفه حكيم لأمراضها.
ثم متى كانت الحضارات المختلفة تتناسخ؟ إنهم يحملون أمتنا مصائب تركيبات ثقافية، وتطورات دينية، وتحولات اجتماعية، وتقلبات سياسية، لم تتفاعل معها، ولم تعرفها قط. وإذا كان الغرب المسيحي اليوم، يمتلك أدوات نهضته، ويعاني بالمقابل من تأثير تلك النهضة، فله مداره الخاص به، وله وسائله المتميزة، لعلاج الخلل الطاريء على تقدمه أو سعادته، أو استقراره، هـو حر في استنباط تلك الوسائل.
لكننا لا يمكن البتة، أن نؤسس بيوتنا على أسسه هـو، ولا أن ننبت أشجارنا
[ ص: 130 ] على تربته هـو، وذلك يعني أننا، لا يمكن أن نبرأ من عللنا بوصفات دوائية، وضعها التاريخ لعلته هـو، بعد أن أعد له ملفا يضم فصيلة دمه، وأمراضه الوراثية، وكذلك معدل ضغطه، ونسبة السكر في الدم.
ذلك حالنا، إزاء الميالين مع رياح النموذج الغربي، والحالمين بالمستحيل، ونحن نعلم، أن لنا عللا، وأن لنا خللا، ولكن العلاج لن يكون بوصفة مستوردة من وراء البحار، قد تصلح لمجتمع بعينه، روعيت فيها معطيات خاصة به، وقدرت له طبيعة الداء والدواء.
ذلك هـو ربما جوهر المد الإسلامي الهاديء الرصين الواثق: إيقاف علاجنا كمسلمين بالوصفة الأوروبية، والأمريكية، والروسية، الجاهزة، والشروع في تشخيص علاتنا -السياسية والثقافية والاقتصادية- في انتظار شفائنا بما يراه حكماؤنا الأصليون، وأطباؤنا الصادقون من العلاج الملائم، الموائم. وتلك رحمة من الله ونعمة، بل هـي طريق نجاتنا المفردة الوحيدة.
أما أهل الجاهلية، المتجهون كطبق (الدش) ، أو كعباد الشمس نحو الغرب، فالحجة لديهم، أننا يجب أن ندخل إلى عصرنا، ونصبح عصريين. وفي الحقيقة تم مسخ مصطلح العصرية من أصله اللغوي الحضاري، كنتيجة راهنة لمسار متشعب وبطيء، إلى مفهوم تغطية النموذج الغربي (العلماني) ، وإسباغ العصرية العالمية عليه، كنوع من إكسابه الشرعية، وإفراده بالريادة.
(ولما كان الأكثر تقدما هـو دول
أوروبا والغرب بصفة عامة، سواء رأسمالية أو اشتراكية ، فقد سادت خصائصهم الحضارية، بحسبانها خصائص العصر، فكرا وعلوما وأنماط حياة، وسلوكا، ومذاهب، وصار حاضر الغرب هـو مستقبلنا، وصارت حياته، ومجتمعاته، هـي مدينتنا الفاضلة المرجوة.. وأكثر من ذلك،
[ ص: 131 ] صار ماضيه، بما أفضى إليه في حاضرهم، هـو معيار تاريخ العالم، وبهذا قام مفهوم المعاصرة، بحسبانه مفهوما مطلقا، يقوم به إطار مرجعي، ومفهوم شرعي، يضم المجتمعات والدول التابعة كلها، إلى الدول والمجتمعات المتقدمة
>[2] ) .
ومن هـذا المسخ الحضاري لدار الإسلام، بدأت تدب في أوصالنا أسباب الوهن، ومن هـذا الكهف، خرج علينا تنين التبعية والإلحاق، وكان وصول النخب الوطنية، خريجة جامعات
أوروبا ، إلى سدة الحكم، عند الاستقلال العسكري والإداري، استقرارا للنموذج الغربي المسيحي، في بلادنا، وتخلينا عن حاكمية الله، معتقدين خطأ أننا اخترنا حاكمية الشعب المسماة باللغة اليونانية ( ديمقراطية ) ، ولكننا في واقع الأمر، نفذنا حاكمية النظام الاستعماري الصليبي ، وأردنا لأنفسنا حاكمية قوانين السلب والنهب، التي وضعت فيها مؤلفات لا تحصى، من أهل أوروبا أنفسهم
>[3] .
وبدلا من أن نقول كما أمرنا الله
( قل اللهم مالك الملك ) قلنا: إن الغرب المصنع والمسلح، هـو السيد، وهو القدوة، وقوانينه الوضعية هـي قوانيننا، وثقافته هـي مطمحنا، وطريقته في الحياة هـي غايتنا، وانطبقت علينا قولة
عبد الرحمن بن خلدون : من أن المغلوب يسعى لتقليد الغالب، في لسانه، وملبسه، ومأكله، وعيشه، وسائر شئونه.
[ ص: 132 ]