( 4 )
وثمة ما يقال، عن غيوم مظلمة، قد تطلع من الأفق، ويجيء بها المستقبل القريب أو البعيد، بسبب من منطقة الانخفاض الجوي، التي شكلها سقوط الماركسية، والفراغ الذي تركته.. إنها أوروبا الموحدة، التي قد تشهر سلاحها مرة أخرى، في وجه دول العالم الثالث، أو الإسلامي المنكود، بحرب صليبية ثالثة، أو رابعة، قد تشن هـنا أو هـناك، ليس بالضرورة في صيغة عمل عسكري، وإنما بالعديد من الصيغ الأخرى، وبخاصة الاقتصادية، التي أصبحت تشكل اليوم واحدة من أخطر القدرات الهجومية، في الصراعات الراهنة.
[ ص: 48 ]
إن شيئا من هـذا، قد تحقق فعلا: (مثلا سحب المعونات الغربية من دول العالم الثالث، وتقديمها لأوروبا الشرقية.. والتعاطف الملحوظ بين المؤسسة البابوية والثورات الشعبية، ضد الماركسية في أوروبا.. وحدة ألمانيا الشرقية والغربية.. اللقاءات المتكررة بين الزعامة السوفييتية الجديدة، وساسة أوروبا الغربية، من أجل مزيد من التنسيق، والعمل المشترك.. تبني دعوة جمهوريات البلطيق الثلاث للانفصال، مقابل الإصرار على عدم تشجيع الجمهوريات الإسلامية، لتحقيق الهدف نفسه.. الاتفاق السوفييتي الأمريكي الأوروبي، على تصفية القضية الفلسطينية، تحت مظلة مؤتمر السلام..إلخ) ..
وقد يجيء هـذا كله، على حساب عالم الإسلام.. بل إن الزعامة السوفييتية الجديدة، بسبب من رغبتها في التحديث، والتحرر من أشباح الماضي، وبدافع من ضمان وصول الإمداد الغذائي الأمريكي، وبخاصة القمح، وقروض العملات الصعبة، لكي لا يتعرض المواطنون السوفييت للمجاعة، والتفكك، أخذت تطل برأسها إلى ما وراء القارة الأوروبية، إلى أبعد من السوق المشتركة، باتجاه الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل مزيد من التعاون والتنسيق، ولن يكون هـذا، مرة أخرى، إلا على حساب عالم الإسلام! (ومن يدري، فقد يكون تجميد الوضع في أفغانستان، أو محاولة تجميده، لمنع حركة الجهاد الأفغاني، من تحقيق هـدفها النهائي، من بين شروط اللعبة) .
ويجب ألا ننسى هـا هـنا، أن الشيوعية والرأسمالية، إنما هـما فرعان لحضارة مادية واحدة، وأنهما يرضعان في نهاية الأمر من ثدي واحد، وأن سقوط الماركسية، كان أمرا توقعه العديد من المفكرين والمؤرخين (ولنتذكر - على سبيل المثال - توقعات الشهيد سيد قطب رحمه الله، واستنتاجات الكاتب الروماني كونستانتان جيوروجيو) فليس بمستغرب - إذن - أن يعود الأخوة الأعداء، إلى اللقاء، كرة أخرى، بل ليس من المستغرب، أن يرجع المعسكر الشرقي، وهو مثخن بجراح التطبيقات الماركسية الخائبة، لكي يرتمي في أحضان أمريكا !
لكن تشاؤما كهذا، يجب ألا يتجاوز حدوده المعقولة، فإن عالم الإسلام
[ ص: 49 ] كان مبتلى بالتفوق الغربي، وما ترتب عليه من استعمار، واستلاب، وابتزاز، يوم كان الغربيون - بما فيهم الروس - ينقسمون على أنفسهم، إلى معسكرين، أو عدة معسكرات، وأن التآمر على عالم الإسلام، وتدمير مقدراته، وابتزاز ثرواته، وحجب حقه المشروع، بمستقبل حر سعيد، كان قد مورس، زمن الدولتين العظميين، كما سميتا وقتها، وقبلهما وبعدهما.. على السواء.. وما لم يتول المسلمون أنفسهم، مهمة الدفاع بأنفسهم، عن وجودهم، ومصالحهم، ومصيرهم.. ما لم ينسجوا بأيديهم خيوط حريتهم، وسعادتهم، فإن أحدا في العالم، لن يمد إليهم يدا، سواء كان هـذا العالم متحدا، أم منقسما.. فالحرية لا تستجدى، وإنما تنتزع انتزاعا، ورحم الله من قال:
ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمـرك
وكلنا يذكر، على سبيل المثال لا الحصر، أن أكثر من تلاق، تم بين المعسكرين الكبيرين، أيام ما سمي بالحرب الباردة، أو الصراع العقائدي، بين الاتحاد السوفييتي، والإمبريالية العالمية.. ولقد توجت تلك اللقاءات، بوفاق هـلسنكي المعروف في الستينيات، بين روسيا وأمريكا.. وكانت تلك اللقاءات، تستمد حيثياتها من المصالح المشتركة والأرضية الحضارية الواحدة، ومن ضعف وتهافت، واستخذاء، وعمالة دول، وقيادات العالم الثالث، والإسلامي على وجه الخصوص، والرغبة المشتركة في اقتسامها، واستنزافها، حتى النخاع، وتصريفا للسلاح العتيق، بالعملات الصعبة، واستيرادا للخامات الثمينة، وبخاصة النفط، بسعر التراب، وتصديرا للبضائع الكاسدة، وتحريكا للثروة، وإيجادا لمواطئ قدم، في الصراع الاستراتيجي بين الطرفين.
ولنتساءل، مجرد تساؤل: ما الذي عملته الزعامة السوفييتية، في حربي 1956م و 1967م مع إسرائيل؟ لقد كان إنذار بولغانين، لدول العدوان تمثيلية استهلاكية ساذجة، مررت علينا، لأن الذي أرغم بريطانيا وفرنسا على الانسحاب هـي أمريكا، وليست روسيا.. أمريكا التي غضت الطرف عن انقلاب عام 1952م في مصر، وكانت حتى عام 1956م تؤمل فيه خيرا،
[ ص: 50 ] فتحرسه، وتحميه.. ثم بعد كم من التنازلات السرية والمعلنة، قدمتها القيادة المصرية لإسرائيل، من أجل أن تنسحب، وينسحب معها الإنكليز والفرنسيون؟.
أما في حرب الـ 1967م، فإن الزعماء الروس، خدعوا عبد الناصر، بإيهامه أن إسرائيل لن تهاجم، وأن عليه هـو - في المقابل - ألا يبدأ الهجوم!.. وفيما بعد، وعبر حرب الاستنزاف، ما الذي قدمته روسيا لمصر، غير الأسلحة الدفاعية الصرفة، وكأنها تحرص، أكثر من أمريكا على رضا إسرائيل وأمنها؟
وغير هـاتين التجربتين المريرتين، عشرات من التجارب، التي أكدت أكثر فأكثر، أن الغربيين مهما اصطرعوا على العقائد، والمصالح، فإنهم يد واحدة على من سواهم، سواء انقسموا إلى دولتين عظميين، أو عشرين دولة متوسطة القوة، كما حدث في الحربين الأولى والثانية، أو اتحدوا في إطار أوروبا واحدة، أو عالم وفاق واحد، أو نظام عالمي جديد..
وثمة من المتشائمين، من يرى، بأن فشل النظم الرأسمالية والتوفيقية، التي ستلجأ إليها الدول، والشعوب المتحررة من الشيوعية، قد يؤدي إلى تزايد الفقر والجوع، وتفاقم مشاكل البطالة. كما أن عجز الدول الغنية - لسبب أو آخر - عن تلبية حاجات هـذه الشعوب، في لحظات التشكل الجديد، والانعطاف المصيري الحاسم، قد يقود - بمعية العوامل الأخرى - إلى تمركز الثروة، وعودة الطبقية كرة أخرى، وربما سيتمخض ذلك عن الدعوة، للعودة ثانية إلى الشيوعية التي قد تجد مبررات أقوى، من ذي قبل، لكي تستعيد نفوذها، مع شي من عمليات التعديل والتجميل المناسبين، للعصر الجديد!
أما أن النظم الرأسمالية والتوفيقية، قد تفشل في ملء الفراغ، فهذا حق، لأن هـذه النظم لم تتسلم - بعد - شرعية بقائها وديمومتها في بلادها نفسها، فكيف بها في بلاد تتفاقم فيها المشاكل والتراكمات؟ وأما أن الدول الغربية، قد تعجز عن تلبية حاجات الشعوب المذكورة، أو الاستمرار في دعمها بالمال والغذاء المنتجات الصناعية، فهذا حق كذلك، لأن عطاءا كهذا، له حد يقف عنده، وهو ليس حرا سائبا، وإنما تحكمه جملة من الضوابط والشروط، التي قد لا تسمح بالاستمرار عليه.
[ ص: 51 ]
وأما أن ذلك الإخفاق، وهذا العجز، قد يعيد الشيوعية ثانية، بثياب جديدة فذلك أمر بعيد، ليس من قبيل التحليل النظري الصرف، الذي يطرح المقدمات ويستخلص النتائج، وإنما في ضوء قوة الوقائع المنظورة نفسها.. فها قد مضى أكثر من عامين، على تحرر تلك الشعوب، وعلى جوعها ومعاناتها كذلك، وهي تطالب أكثر فأكثر، بالتخلص كلية من بقايا الماركسية، في حياتها الجديدة.. وها قد مضى أكثر من عامين على الجوع والمعاناة، والجماهير ذات القول والفصل، تخرج إلى الشوارع، وتضحي، وتتعرض للقتل، من أجل مزيد من التحرر، من كابوس، ما كانت تصدق، أنها خارجة من قبضته.
وليس فشل الرأسمالية، والتوفيقية، وعجز الدعم الغربي، بقادر على أن يقنع تلك الشعوب، بأن تتنازل عن حريتها كرة أخرى، للصنميات والطواغيت.
إن الخبز يمكن أن يأتي.. وإن النظم البديلة، يمكن أن تبتكر، أو تعاد صياغتها، إلى اليوم الذي تصير فيه قادرة على تلبية المطلوب.. لكن شيئا واحدا لا يمكن أن يجيء: عودة الشيوعية مرة أخرى، بعد ثلاثة أرباع القرن، من الجوع والقسر معا.. وبعد سيول غزيرة من الدماء.. وعشرات الألوف من الضحايا. وإنهم ليعرفون جيدا، أن الشيوعية، إذا عادت، فإنها لن تطعمهم من جوع، وهي - إلى ذلك - سترجع كرة أخرى إلى القسر، الذي لم يعد يطيقه الإنسان، والجماعات، والشعوب.
>[1] .