( 5 )
في أواخر العصر الباليوليتي، حيث أصبح زحف الجليد جنوبا، باتجاه المراعي الأفروسية، يمثل تحديا للجماعات البشرية، شمالي الهند، كشفت دراسة توينبي عن تشكل ثلاثة مواقف، لتلك الجماعات. فإذ بقيت إحداها في مكانها، لم تتحرك، فإنها ظلت على تخلفها وبداوتها، حيث إنها رفضت الاستجابة للتحدي الجليدي، بشكل أو بآخر.. وجماعة أخرى، كانت استجابتها محدودة، حيث تراجعت قليلا، باتجاه الجنوب، صوب المناطق الأكثر دفئا، ولكنها بسبب هـذا المدى المحدود للاستجابة، ظلت على رعويتها. أما الفئة الثالثة، فقد نزحت إلى مكان بعيد: إلى وادي النيل في مصر، حيث شمرت عن ساعد الجد، بسلسلة أخرى من الاستجابات الناجحة، لضغوط البيئة هـناك، وصنعت - بالتالي - الحضارة المصرية المعروفة.
وإننا لنتذكرها هـنا - على المستوى العقدي - الآية الكريمة، التي تحكي عن المستضعفين في الأرض:
( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) (النساء:97) .
[ ص: 74 ] هـا هـنا، حيث يقدم القرآن الكريم إيضاحا، وتحفيزا في الوقت نفسه، للحركة صوب الأحسن، عن طريق (الهجرة) التي كانت في العديد من النماذج التاريخية، سبيلا للخلاص، والتفوق، والإنجاز.. إيضاحا عن أن الاستسلام للضغوط، يعني اختيار حالة الضعف، والتخلف، على المستويات كافة.. وتحفيزا للحركة من أجل صياغة عالم أكثر تقدما، وعطاء، وعدلا:
( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ) (النساء:75) . والآيات التي تتحدث عن (الهجرة) ، من أجل تجاوز مواقع الظلم، والقهر، والتخلف، والانتقال إلى مرحلة أفضل، تحرر المؤمنين من الضغوط، وتبارك المهاجرين، كثيرة، متنوعة، ويكفي أن نتذكر أنموذجا آخر منها، ينطوي على دلالة واضحة، فيما نحن بصدده:
( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما ) (النساء:100) ..
ويبقى الفارق الحاسم، والمنعطف الخطير، بين الهجرة، التي يدعو إليها كتاب الله، وهجرات الجماعات البشرية الضاربة في الأرض، على غير هـدى، أن أولاها تمارس حركتها، بهدي من الله، وتتوجه إليه وحده، في البدء والمصير.. ومن ثم تجيء النتائج (التاريخية) ، بمستوى الجهد المبذول، في الحركة، والنية الإيمانية الصادقة، التي تدفعه وتشكله.
[ ص: 75 ]