( 3 )
لننتقل من العام إلى الخاص، فنضرب عددا من الأمثلة، كشواهد محدودة فحسب، من بين مئات الأمثلة، وألوفها، مما لا يتسع له المجال.
إن المسلم - مثلا - وهو يؤدي فريضة الصلاة، خمس مرات في اليوم،
[ ص: 93 ] يحبذ أن يؤديها جماعة في المسجد، أو الجامع، ويغرى بمضاعفة الأجر، سبعا وعشرين مرة، إن هـو فعل ذلك.. إن لهذا مردودا نفسيا، وصحيا، واجتماعيا، لا يعرفه إلا من مارسه فعلا.
فعندما ينكب الإنسان على العمل الفكري، أو الجسدي، الساعات الطوال، يصل في كثير من الأحيان، حافة التوتر والإعياء، وتجيء الصلاة فرصة طيبة للتوقف، عن الانحدار، فيما وراء الحافة، واستعادة القدرات النفسية، والفكرية، والجسدية، من خلال هـذه العبادة الفذة، التي تشارك فيها الكينونة البشرية، بكافة مكوناتها، الروحية، والفكرية، والجسدية، وسرعان ما يجد الإنسان نفسه، وقد تحقق بقدر من الارتخاء، وبعد، بدرجة أو أخرى، عن نقطة التوتر والإعياء، ويتذكر المرء هـا هـنا، نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يخاطب بلالا، عند كل صلاة:
( أرحنا بها يا بلال ) >[1] ، ويتذكر كذلك، ما أراد أن يقوله الباحث الأمريكي، (ديل كارنيجي) في كتابه المعروف، الذي حطم أرقاما قياسية في مبيعاته في الخمسينيات: (دع القلق وابدأ الحياة) ، وكيف أن إحدى مرتكزاته الأساسية، لعلاج التوتر، هـي أن يمنح الإنسان المجهد نفسه، بين حين وحين، دقائق من الاسترخاء، يقدر بعدها على استعادة توازنه، والمضي في الجهد المبذول، وإلا فإن الجملة العصبية، والقلب، قد يتعرضان بنتيجة الضغط المتواصل، لأذى يصعب تداركه.. ويتذكر، فضلا عن هـذا وذاك، وعلى مستوى الخبرة الشخصية، كم أن الصلاة بحركاتها الجسدية المرسومة بعناية، تعطي الجسد، والفقرات بخاصة، رياضتها الملائمة، بين فترة وأخرى، وتمنحها بالتالي المرونة المطلوبة، كما أنها تتجاوز الآلام القاسية، التي يعرفها جيدا، أولئك الذين لا يمارسون أية رياضة، لتكييف الفقرات.
فإذا ما أضفنا إلى هـذا كله، تلك المسافة التي يقطعها المصلي، بين داره والمسجد، عدة مرات في اليوم، وقد لا تقل عن مئات الأمتار، وما تتمخض عنه
[ ص: 94 ] حركة الذهاب والإياب، من رياضة جسدية، ونفسية، تجيء في وقتها المناسب، تماما بين فترات الجهد والعمل، وتذكرنا - على وجه الخصوص - صلاة الفجر، وكيف تمنح الإنسان المؤمن، فرصة يومية، مترعة بالنداوة، والشفافية، والعذوبة، وهو يجتاز الطريق من داره إلى المسجد، مع لحظات الفجر الواعدة الأولى.. وكيف أن هـذه الصلاة، في وقتها المرسوم، تمنح الإنسان مرتكزا روحيا وسلوكيا، يعطي بفاعلية ملحوظة، سياق اليوم كله.. أدركنا كم تملك الصلاة، ولا سيما إذا ما نفذت في المسجد، من مردود نفسي، وجسدي، على المصلي.. ولن يتسع المجال هـنا للحديث عن البعد الاجتماعي، المتحقق عن لقاءات المسجد الدورية، وهذا كله، في مستوييه النفسي والاجتماعي، لا يعد شيئا، إذا ما قورن بالمردود الروحي للصلاة، التي هـي عماد الدين، وجوهر العبادات وتاجها، والتي تمثل قمة التصعيد التعبدي لله سبحانه، وأعلى صيغ التواصل، بين الإنسان، وخالقه جل في علاه.
وهذا هـو الهدف الأساس للصلاة الإسلامية، ولعله هـدفها الأوحد، بكل ما يتضمنه من مغزى، لكن هـذا لا يمنع، من أن تترتب على هـذه الممارسة التعبدية منافع شتى، إن على مستوى العقل، أو الجسد، أو الوجدان، فليس ثمة تعارض في الرؤية الإسلامية، بين أي من مكونات الإنسان.. والممارسة التي تستهدف أو تتعامل مع جانب منها، لا ترتطم ابتداء، مع سائر المكونات الأخرى، بل، والأكثر من ذلك، أنها تمنحها فرصا مناسبة، بهذا القدر أو ذاك، لكي يتحقق كل منها بالمزيد من حالات الحيوية، والتوازن، الأمر الذي يؤول في نهاية المطاف، إلى تعزيز إنسانية الإنسان، وتغذية هـذه الإنسانية، ذات المواصفات الخاصة، بما يلائم جوانبها كافة.
إن هـذا التوازي، بين المطلب الروحي للصلاة، كهدف أساس، وبين المطالب الأخرى، التي تجيء عرضا، إنما يمثل في سياقه العام، التوجه الأساس للإسلام، في نسيجه كافة، بل إنه ليمثل جوهر هـذا الدين، بما أنه العقيدة، التي جاءت لكي تعيد الوفاق، بين مكونات الإنسان، التي بعثرتها المذاهب، والأديان
[ ص: 95 ] المحرفة، ولكي تمارس المهمة نفسها، بين الإنسان وبين العالم، والطبيعة، والكون.
في المنظور الإسلامي، تتوافق الطاقات الكونية والإنسانية، وتنسجم، وتتوجه في حركة عطاء دائمة، نحو الله الواحد الخلاق، متعبدة إياه وحده، مسبحة بحمده وحده.. وهذا التوجه المتناغم، الذي يقف قبالة كل المحاولات الوضعية، والدينية، التي أقامت الحواجز، والمتاريس، بين مخلوقات الله، وبين الإنسان.. وبين هـذا الجانب، أو ذاك، من مكوناته، والتي حكمت على ممارساتها، وتوجهاتها، بالتناقض، والتصادم، والتبعثر.. هـذا التوجه المتوحد يحكم كل الممارسات الإسلامية، بدءا من أشدها روحية، وانتهاء بأكثرها التصاقا بحاجات الإنسان الحسية والجنسية.. ففي كل الأحوال، نلتقي بتعامل شمولي، يتمحور عند جانب ما، من الإنسان، لكنه لا يصطدم أو يتعارض، مع مطالب الجوانب الأخرى كافة. ولقد كان لهذا الوفاق، مردود إيجابي فعال، ليس على مستوى النفس البشرية فحسب، وإنما على المستوى الحضاري، الذي هـو بشكل من الأشكال، جماع التوافق بين الطاقات كافة.
ومهما يكن من أمر، فإن الصلاة، بأبعادها هـذه، لتتكشف أكثر، فأكثر، عن حكمة الله البالغة، في كل ما فرضه من عبادات، وأنزله من تعاليم وتشريعات، وبغض النظر عن الجدل القائم، حول الإفادة من معطيات العلم الحديث، لتفسير أو تعزيز المفردات الإسلامية، وردود الفعل المبالغ فيها، بين أصحاب هـذه الدعوة، والمنكرين لها، فإن مما لا ريب فيه، أن كشوف العلم، والخبرة البشرية المتأتية، عن رصيد التجربة، في واقع الحياة، لتؤكد أكثر فأكثر، مصداقية المفردات الإسلامية، وطبقاتها المتعددة، ذات المردود الإيجابي، الفعال في الحياة الإنسانية. فإذا ما تجاوزنا دائرة العلم، بمفهومه الاصطلاحي، المحدود، إلى الخبرة البشرية المتأتية، عن رصيد التجربة، في واقع الحياة، ومجرى الحضارات، فإننا سنجد أنفسنا، قبالة تأكيدات أخرى، أكثر أهمية وخطورة، لما
[ ص: 96 ] تتضمنه الممارسات الإسلامية، من أبعاد إيجابية، وبالتالي لأحقية هـذا الدين، في حكم الحياة.
وما يقال عن الصلاة، يمكن أن يقال، عن أية ممارسة تعبدية أخرى، في الإسلام.. خذ الصيام - مثلا - إنه هـو الآخر، يتمركز عند تنفيذ أمر الله، والالتزام بكلماته وتعاليمه:
( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) (البقرة:183) ، لكن هـذه الممارسة الروحية ذات الخصوصية، والتي يتكفل الله سبحانه بمكافأة أصحابها، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي:
( كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) (متفق عليه، واللفظ للبخاري) .. هـذه الممارسة، سرعان ما تتكشف عن جملة من المزايا، في شتى السياقات الصحية، والنفسية، والاجتماعية، فتتواءم معها، وتغذيها، وإذا كان العلم الحديث، قد أكد أكثر من مرة، ما لتجربة الصيام، من مردود إيجابي فعال، على صحة الإنسان، وعلى تمكينها من استعادة سويتها، وحيويتها، إثر كل مرض أو انحراف، فإن واقع التجربة البشرية، يؤكد من جهته، غنى المكاسب، التي يحظى بها الإنسان، من جراء هـذه العبادة الدورية، الأساسية، في الإسلام.
إن رمضان هـو شهر الفرح، والسكينة، والتوازن، ومراجعة الحسابات، وتدارك الأخطاء.. شهر الأمن النفسي، والاجتماعي، لكل الخائفين المذعورين، والجوعى المتضورين.. شهر كسر حاجز الروتين الزمني، والاجتماعي، والوظيفي، والنفسي، الذي يغطي أحد عشر شهرا، فلو أنه امتد على مدار السنة، ومضى لكي يأكل العمر كله، فإن لنا أن نتصور، كم سيكون لهذه الاستمرارية النمطية، لهذا التسطح، والتشابه المكرور، من مردود سيء، على الإنسان، يعرفه جيدا من يجد في رمضان، فرصة للتجدد، والتغيير، وممارسة نظام يومي جديد، تتبدل فيه جل المواصفات، والعلاقات، والمفردات.
[ ص: 97 ]
فهناك في رمضان، تجاوز لتقليد الوجبات الثلاثية الصارم، وتحرر من إلزامها، تقابله وجبتان، تحملان مذاقهما الخاص، وأجواءهما السعيدة، وفرحهما: الفطور، والسحور.. هـناك صلاة التراويح، التي يجتمع لها أبناء الحي، أو القادمون إليه من أماكن شتى، والتي تحمل هـي الأخرى، مذاقها الخاص.. هـناك التخفيف من قيود العمل الوظيفي، ترويحا عن الصائمين.. هـناك القيلولات العذبة، بعد العودة من العمل.. هـناك الفترات الزمنية المتطاولة، للتواصل أكثر مع كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وهنا:.. وهناك.. مفردات كثيرة، لا يحصيها العد، تتكشف أكثر فأكثر، عن غنى التجربة الإسلامية، في شتى مستوياتها، وكثافتها، وازدحامها، بما يمنح الإنسان والحياة البشرية، المزيد من الفرح، والسعادة والتوازن، والسكينة، والأمن، والاسترخاء، والعطاء، والإبداع.
( 4 )
وإذا كنا في المقطع السابق، قد أشرنا - مجرد تأشير - على نمطين من الممارسات التعبدية، وما تتضمنانه من أبعاد نفسية، وجسدية، واجتماعية (مضافة) على المطلب الروحي الأساسي، فإن لنا في هـذا المقطع، أن نؤشر على بعض الشواهد، في دائرة الممارسات الاجتماعية، حيث تمنح آداب الإسلام، حشودا غنية من التعاليم، لا تكاد تترك صغيرة، ولا كبيرة، في مجرى الحياة، إلا ورسمت لها المعالم، ودلت السائرين عبرها، إلى الطريق.. وهو طريق ينطوي - والحق يقال - على أقصى درجات المرونة، والاستقامة، والشفافية، والبر، والرحمة، والتكافل، والأمانة، والإخلاص، والعطاء، والنظافة، والحشمة، والذوق.
ها هـنا أيضا، تتبدى أكثر فأكثر، ومن خلال حشود الخبرات الحضارية، التي يمارسها، ويكتشفها (غيرنا) ، وبخاصة دائرة الحضارة الغربية، مصداقية المفردات الإسلامية، وقدرتها الفذة، على تشكيل مجتمع سعيد، متوازن، نظيف، قدير على العطاء..
[ ص: 98 ]
فإن مما يميز الحياة الحضارية الغربية، في دائرة العلاقات الاجتماعية، في جانبها الوضيء طبعا، تلك المفردات المؤكدة في الحياة اليومية، والتي تشكل مراكز الثقل، في نسيج الممارسات العامة، والتي غدت، لكثرة تكرارها، والتزامها، إلفا يتفق عليه الجميع، ولا يكاد يجرؤ أحد على تخطيه، إلا لحقه الاشمئزاز والاحتقار.
وللأسف، فإن هـذه المفردات، التي تمنح قدرا من الضوء، للحياة الاجتماعية الغربية، هـي نفسها التي كان هـذا الدين، قد منحنا إياها، وألزمنا بها، وهي نفسها التي نقضناها، في عصور تخلفنا، وانحطاطنا، عروة عروة، حتى بلغت حياتنا الاجتماعية القعر، من الحضيض، الذي لا تحسدنا عليه، أشد الجماعات والشعوب تفككا، وتخلفا!
ولعل من السذاجة القول: بأن الغربيين، قد اقتبسوا هـذه المفردات المتألقة، من تجربة الحياة الإسلامية، عبر التاريخ، وإن كان بعضها، فيما تؤكده الدراسات الحضارية المقارنة، والشواهد اللغوية
>[2] ، مستمدا من هـذه التجربة.. لكن السياق العام للخبرة، يصعب معه التحقق، من بينة قاطعة، والأهم من ذلك أن الحضارة الغربية، وهي تجتاز طريقها الطويل، تكتشف، وتؤسس، وتنمي، وتنفذ مفردات السلوك الاجتماعي، وعن طريق التجربة والخطأ، ومن خلال الاحتكاك بمطالب الواقع البشري، يرسب أو ينفى بعضها، ويظل بعضها الآخر قديرا على البقاء، بسبب من (نجاحه) ، المستمد من (المنفعة) ، أو المردود الإيجابي، الذي حققه ولا يزال، للحياة الاجتماعية هـناك.
بمعنى أن الاكتشاف الحضاري، للمفردات، في صميم الخبرة الاجتماعية، يجيء لكي يؤكد بلسان الحال، ما سبق وأن وضعه هـذا الدين، بين يدي المنتمين إليه، ودعاهم إلى الالتزام به، والحرص عليه، إذا أرادوا أن تكون حياتهم إسلامية حقا!
[ ص: 99 ]
ويصعب على المرء، ماذا يأخذ، وماذا يدع، من هـذه المفردات، كشواهد على ما أراد الإسلام، أن يزرعه في نسيج التجربة الاجتماعية، لكي ينبت خيرا ونظافة، وأمنا، وطهرا، وعطاء.. ولنتذكر - على سبيل المثال - آداب أو أخلاقيات (الجوار) و (المجلس) و (الطعام) و (الطريق) من بين حشود، لا تعد، ولا تحصى من الشواهد.. إن الغربيين - والحق يقال - يتفوقون اليوم، في العديد من مفردات هـذه الحلقات الاجتماعية الأربع. وهم - والحق يقال أيضا - لا يتكلفون في الأعم الأغلب، أيما سلوك مصطنع، إزاء هـذه المفردة أو تلك، وإنما تصدر عنهم بشكل عفوي، وكأنها غدت جزءا من حياتهم، لا يحتاج لأي قدر من الالتفات، أو التذكير، أو التفكير.
وعلينا وقبل المضي في الموضوع، ومن أجل تجاوز، أي قدر من سوء الفهم، أن نشير، إلى أن هـذه المسألة، تمثل الجانب المضيء، من الحياة الاجتماعية الغربية، وتظل هـناك جوانب، وطبقات أخرى، في نسيج هـذه الحياة، مترعة حتى النخاع بالقذارة، والعفونة، والظلمة، والتفكك، والفساد، الذي قد يبلغ حافة البهيمية، بل إنه ليتجاوزها أحيانا، بحيث تبدو السوائم والكلاب، أكثر احتشاما من الإنسان!
فإذا ما جئنا إلى تلك الحلقات، للتأشير على ما أراده الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتحقق، في مساحاتها جميعا، فإننا سنجد أنفسنا، قبالة حالة اجتماعية، تتوازن فيها وتتلاءم، كافة القيم الإيجابية، في نسيج العلاقات الاجتماعية، والحضارية عموما. ويزيدها قدرة على الفاعلية، والتألق، أنها تنبثق عن (العقيدة) ، القادمة من عند الله، وتستمد مقومات وجودها، من طاعة الإنسان، والجماعة المسلمة للأمر الإلهي، الذي يرتبط في عمقه، بمطالب الإيمان، والتقوى، والإحسان. . ويزيدها جمالا، وإشعاعا - كذلك - أنها لا تقتصر على تغطية باطن اجتماعي، متعفن، بديكور جميل، كما أنها لا تنكمش - كما يحدث في التجربة الغربية - عند مفردات، أو مساحات محدودة، من نسيج الحياة الاجتماعية، بينما تتسيب المفردات، في المساحات الأخرى، وتتفكك، وتضيع.. إنها هـنا في
[ ص: 100 ] الحياة الإسلامية، كل مترابط، وهي تمثل جهدا أخلاقيا، واجتماعيا متواصلا، لنفي الخبث، والتحقق أكثر فأكثر، بالطيب وحده.. هـذا إلى أنها - على خلاف الحالة الغربية - لا ترتبط بنسبيات المنافع، والمصالح العابرة، وإنما تتجاوزها، وتعلو عليها، باتجاه القيم التي تليق بمكانة الإنسان، في العالم، مستمدة تجاوزها، وديمومتها، في الوقت نفسه، من تجذرها في العقيدة، وليس في أي شيء، أو قيمة أخرى.
في علاقات (الجوار) مثلا يلتقي المرء، بتأكيدات متزايدة، في كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على احترام حق الجار، الذي يكاد يبلغ حد القدسية، التي يكون اختراقها، تجاوزا لحرمات الله، ونستمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يقول في واحد من أحاديثه الشريفة، في هـذه المسألة:
( ما زال- أي جبريل - يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه! ) >[3] .
هذه مسألة، قد لا يبدو ثقلها واضحا على مستوى التنظير، ولكن بمجرد أن يتذكر كل امرئ منا، ما جرى، ويجري على الأرض، أو في الميدان، كما يقولون، أن يسترجع العذاب، والمرارة، والقلق، والغيظ، والكراهية، والحقد، والرغبة في الانتقام، كلما ابتلي بجار، لا يرعى، هـو أو أبناؤه، حق الجوار، بدءا من استراق النظر، وانتهاء بالشتائم، والسباب، مرورا بصنوف الأذى والاستلاب، والعدوان.. وأن يتذكر قبالة هـذا، كل صنوف الفرح، والاستقرار، والمحبة، والألفة، والانسجام، والتعاون، والتزاور، والعطاء، عندما يمنحه الله سبحانه جارا طيبا، يقدر مطالب هـذا الدين، ويرعى الله في جاره..
عندما يتذكر هـذا وذاك.. حالة الظلمة، وحالة الضوء.. حالة تلف الأعصاب، وتجدد المشاحنات، وتراكم الأحقاد.. وحالة السكينة، والمحبة، وتبادل العطاء.. فإنه سيعرف، لماذا في كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كل تلك التعليمات، والأوامر، والتوجيهات، التي بلغ أحدها حدا، كاد معه الجار، يرث جاره، بدلا من الزوجة والأبناء!
[ ص: 101 ]
في آداب المجلس، نلمح متابعة عجيبة، لكل صغيرة، وكبيرة، بدءا بخفقات النفس، وخوالج الشعور، وانتهاء بأماكن الجلوس، وصيغ الدخول، والخروج.. هـذه الخطوط التي تتجمع، وتتآلف، لكي تجعل (المجلس) ، في المجتمع الإسلامي، نموذجا لرهافة الإحساس، واحترام النظام، وتوزيع الفرص بالعدل، والقسطاس، لكل المشاركين، وتنتهي عند بؤرة احترام إنسانية الإنسان، التي تهان، وتبتذل في العديد من المجالس، التي لا تستهدي بكلمة الله.
في آداب الطعام، نكاد نلتقي - إذا جاز التعبير - بما يسميه الغربيون ويفاخرون به: (الإتيكيت) ، الذي ترسمه تعاليم الكتاب، والسنة، والذي ينفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما يجعله أنموذجا، في الذوق، والنظافة، والاحتشام، والأناقة، وبما يرتفع بهذه الممارسة الحسية الصرفة، إلى الآفاق التي تليق بالإنسان: البدء باسم الله.. تناول الطعام باليمين.. إفساح المكان للآخرين.. تجاوز الأحاديث التي لا تنسجم، وحالة تناول الطعام.. التعامل مع الجهة القريبة من الماعون.. تجاوز حالتي الشح، والإسراف، في الولائم والدعوات.. إلخ . . إلخ.. مما يمكن أن نتابع تفاصيله في كتب السنن.
في آداب الطريق، الذي يكاد اليوم في الحياة الإسلامية الراهنة، ينقلب إلى ساحة للإسفاف، والقذارة، وانعدام الذوق، والصراع، والتكالب، وتجاوز حقوق الآخرين، وإسقاط الحق العام.. إلخ.. في هـذه الآداب، نلتقي بتلك المفردات المتألقة، التي يصير فيها الطريق، دربا آمنا، نظيفا، يجتازه المسلم إلى عمله، أو بيته، وهو مطمئن، إلى أنه لن يرى إلا الجميل، ولن يسمع إلا الكلمة الطيبة، ولن يلتقي إلا أولئك، الذين لا يكاد (السلام) ، يسقط من شفاههم!
إن (إماطة الأذى) عن طريق الناس، و (إفشاء السلام) ، و (الكلمة الطيبة) ، و (البسمة الودود) ، و (الإحسان) إلى الآخرين، والرحمة بالضعيف، والحنان مع الطفل، والاحتشام في التعامل بين الجنسين.. إلخ، لهي في مجموعها ترسم صورة مشرقة، ووجها متحضرا أصيلا، للعالم الذي يريد الإسلام، أن يقيمه،
[ ص: 102 ] وللآداب التي يتحتم الالتزام بها، عبر اجتياز طرقه، ودروبه، في هـذه المدينة أو تلك، وعبر هـذا الحي، أو ذاك..
إن بعضا من هـذه المفردات، يمارسها الغربيون في الشوارع، والطرقات، فتمنح حياتهم بهاء، وسماحة، وإنسانية، وجمالا.. إن التحية الودودة.. وكلمتي (شكرا) ، و (آسف) ، المعلقتين على الشفاه، والبسمة الحانية المطلة، من الوجوه، بإلفة وحنان، والالتزام المتأصل، بمفاهيم وقيم النظافة، والتعاون العفوي المتجذر في السليقة، لإماطة الأذى عن طريق الناس.. إلى آخر هـذه المفردات العذبة النبيلة، لا نكاد نجد عشر معشارها في طرقنا، وأزقتنا، وحاراتنا.. لقد ضيعناها، منذ زمن طويل، وحلت بدلا عنها اللعنة، والكراهية، والحقد، والتقاتل، والتدافع، والغضب، والكلمات الحادة، التي تخرج بين لحظة وأخرى، كالسكاكين الجارحة، فتنزف لها النفوس الحساسة، والضمائر المرهفة، التي كادت تصل في حياتنا الراهنة، لهذه الأسباب، وغيرها كثير، حافة الإعياء والانهيار.
إن هـذا الذي يميز الشارع، أو الطريق الغربي، فيمنحه ملامح إنسانية متحضرة، ويغذيه بالإلفة، والمحبة، والجمال، هـو مما أراد أن يعلمنا إياه هـذا الدين.. ولقد تعلمه أجدادنا حقا وصدقا، فصاغوا تلك الحياة الأنيقة، الودودة، الإنسانية، المتحضرة، التي انطوت على كل المفردات، التي تتألق وتزدهي بها مدينة الغرب اليوم، دون أن تنزلق في مساوئها، ومطباتها.. وما أكثر هـذه المساوئ، والمطبات.