( 4 )
هذا عن الخطوط الرئيسة، لملامح المجتمع المسلم، فماذا عن التفاصيل؟ ماذا عن (تصور) هـذا المجتمع في قلب القرن العشرين، أو الحادي والعشرين، حيث الانفجار المشهود، على كافة المستويات، العلمية، والفنية، والعمرانية، والترفيهية، وسائر ما يهم مجتمعا ما، من المجتمعات في حياته اليومية؟
إنها صورة وضيئة يقينا، ومنطقية بكل تأكيد، ما دام أن المجتمع الجديد يتحرك على تلك الخطوط العريضة، التي عرضنا لها بإيجاز شديد.
إن المجتمع الجديد سيقبل، كل ما ينسجم وهذه الخطوط، من معطيات الحضارة الراهنة، ويرفض كل ما يرتطم بها، أو يتعارض معها.. ابتداء .. إن لدى قياداته ومؤسساته،وأفراده، مقاييس، ومعايير، وموازين، وضوابط فكرية، وروحية، وعقيدية، ومادية، تمكنهم من أداء مهمة النقد، والاختبار، والتمحيص، والفرز، والانتقاء، دونما صعوبات، أو عقابيل، لكي ما يلبثوا أن يقولوا كلمتهم، في جل ما تطرحه هـذه الحضارة، أخذا وتقبلا، وهضما، وتمثلا، أو رفضا، واستبعادا، وإنكارا وصراعا..
إن معطيات هـذه الحضارة، غزيرة كثيفة، وهي تزداد مع الأيام بانفجار مشهود، يأخذ صيغة متوالية هـندسية.. لكن ملاحقة هـذا العطاء الغزير، وفرزه والتأشير عليه، لاتخاذ موقف منه، ليس مستحيلا، ما دام المجتمع المسلم يملك - كما قلنا - معاييره الخاصة، وما دامت عقيدته وسوابقه التاريخية، تعلمه ألا ينغلق، أو يتشنج، إزاء معطيات الحضارات المختلفة، بل أن ينفتح، ويتحرر، ويتعامل مع معطياتها، بأكبر قدر من المرونة، ورحابة الصدر، وانفساح النظر.. وهكذا فإن الرفض التقليدي، لمنجزات الحضارة الراهنة، ملغي من الحساب، والتقبل الكامل لها، ملغي من الحساب كذلك.. ويبقى ثمة طريق واحد، يتوجب وضعه في الحساب، لكنه طريق عريض، واسع، مرن، قدير على تحقيق [ ص: 118 ] أقصى درجات الفاعلية والعطاء: إنه طريق الانتقاء العقيدي، المستمد من معايير الإسلام، وقيمه، وموازينه.
وعلى هـذا فإن المجتمع الجديد، سيشهد الكثير، مما تشهده، وتمارسه المجتمعات الأخرى، وسيكيف الكثير، من الممارسات الأخرى، وسيعيد تركيب الكثير الآخر، بما ينسجم ورؤيته للحياة، وسيرفض، ويلغي من الحساب، الكثير أيضا..
ليست سواء.. معطيات الحضارة المعاصرة هـذه، والموقف إزاءها يتوجب ألا يكون متخشبا، أو متشنجا، ولا اعتباطيا عشوائيا.. ويجب أن نضع في الحسبان دوما، هـذا المقياس الحاسم: إن معطيات هـذه الحضارة، ذات شقين رئيسين، أحدهما، يمثل فلسفتها، وآدابها، وفنونها، وأذواقها، وعاداتها، وتقاليدها، ونظرتها للحياة والوجود.. أي (ثقافتها) بشكل عام، والآخر يمثل علومها الصرفة، والتطبيقية (التكنولوجية) ، وإنجازاتها التجريبية، ومناهج بحثها وتخطيطها.. أي (مدنيتها) بشكل عام.
في الأولى يتوجب الحذر، لأن نقاط الارتطام، تكمن هـا هـنا: في فلسفة الحياة،والموقف من الوجود، والعالم، والكون.. وفي الثانية يتوجب الانفتاح والأخذ، لأنها بمثابة عطاء محايد، يمكن أن يوظف لصالح هـذا الموقف أو ذاك.
لقد فعلتها اليابان، بشكل أو آخر، وفعلتها الصين، بدرجة أو أخرى.. ولكننا لم نفعلها لحد الآن، فضاعت مجتمعاتنا، في العالم، ولم يتبق لدينا أية شخصية، أو حيثية، أو هـوية.. إن المجتمع المسلم، إذن، سيناقش الحساب مع الحضارة الغربية، في شقها الأول، ولكنه سيسارع في الأخذ والاقتباس في دائرة الشق الثاني..
في المجتمع الإسلامي، نشهد جل المؤسسات الإدارية، التي تشهدها مجتمعات العالم الحديث، لا كما يتصور السذج أو الخبثاء، من أن التزام [ ص: 119 ] الإسلام، يعني العودة إلى بساطة الصحراء، وتسطحها.. إن هـذا التصور يثير سخرية أي مسلم، حتى ولو امتلك الحد الأدنى من فهم متطلبات دينه، وبداهات عقيدته.
في المجتمع الإسلامي، نشهد كافة المؤسسات، والأجهزة الاقتصادية: صناعية، وزراعية، وتجارية، ومالية (حتى) !!
في المجتمع الإسلامي، نشهد جل الأجهزة السياسية، والقانونية، والدستورية..
في المجتمع الإسلامي، نشهد كافة المؤسسات التعليمية، والتربوية..
في المجتمع الإسلامي، نشهد كافة المؤسسات الإعلامية، والثقافية، بما فيها الصحافة، والإعلان، والإذاعة، والتلفزيون، والمسرح، والكتاب، والسينما (حتى) !!
ولكن أيا من هـذه المؤسسات، والأجهزة، والنظم، لن تعمل فوضى، وعلى غير هـدى.. كما أنها لن تكون مسخا للصيغ، التي تعمل بها في إطار الحضارة الغربية العلمانية، أو المادية المعاصرة..
إنها - مرة أخرى - أدوات حيادية، والمجتمع الإسلامي، سيعرف كيف يسمها بفلسفته ورؤيته، ويوظفها لتحقيق أهدافه، وتنفيذ مطالب دينه وعقيدته..
وعجيبة - إذن - فكرة الرجوع إلى بساطة الصحراء وتخففها.. إنها تذكرني بذلك السائح الغربي الساذج، الذي زار بغداد، قبل عشرين سنة أو ثلاثين، وهو يحمل خيالاته الرومانسية عن أيام (ألف ليلة) .. ودخل شارع الرشيد، فإذا به يجد عمارات، بدلا من الخيام، وأسواقا حديثة، بدلا من القيصريات، وسيارات بدلا من الجمال!!
إن مطالب الحياة المتطورة، وتعقيداتها المستمرة، وتراكم معطياتها الحضارية، جعلت الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ينظم الأعطيات، [ ص: 120 ] ويخطط الخطط، ويدون الدواوين.. ودفعت غيره من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، إلى البحث في خبرات الحضارات المعاصرة - يومها - لاقتباس كل ما يساعد الحياة الإسلامية الناشئة، على التقنين والتنظيم، والتخطيط، من أجل أن تكون أكثر انضباطا، وبالتالي أكثر قدرة على الفاعلية.. لم يقل أحد منهم، ولن يقول: بأن علينا أن نستلهم بساطة الصحراء، وحياة الأعراب، وتقاليدهم، ونحن نتحرك في العالم، لإعادة صياغته من جديد.. بالعكس.. لقد فتحوا صدورهم لكل خبرة أو مؤسسة، أو تنظيم، ما دامت أنها لا ترتطم بتصورهم وعقيدتهم.. بل إنهم، أحيانا، اضطروا إلى قبول بعضها، رغم ما قد يتضمنه من ارتطام خفيف، إذا صح التعبير، قبلوها (مرحليا) ، ريثما يتيح لهم الزمن، فرصة تنقيحها، وإعادة صياغتها.. ألم يستعملوا لعقود عديدة، عملات فارسية وبيزنطية، كانت تحمل شعارات جاهلية أو دينية محرفة؟! المجتمع الإسلامي، مجتمع مؤسسات، ولكنها لن تكون أدوات مضادة للإسلام.. ستوظف بما يخدم أهداف هـذا الدين..
والمجتمع الإسلامي، سيشهد مشاركة المرأة في الحياة العامة، لكي تمارس دورها الذي ينسجم وتركيبها، وإمكاناتها، ضمن إطار الضوابط الشرعية.. ولكنها لن تخرج فوضى، وعلى غير هـدى، كما تشهد المجتمعات الجاهلية، التي تحولت فيها المرأة إلى أداة رخيصة، للإثارة، ووسيلة تافهة للإشباع، وكأنها سلعة أو إعلان، يستفاد منها لهذا الغرض أو ذاك، وتستهلك هـنا أو هـناك.. ولكنها لن تكون إلا ذلك الإنسان، الذي كرمه الله وفضله على كثير ممن خلق..
إن حركة المرأة في المجتمع الإسلامي، مرسومة ومحسوبة، كي لا تميل الشهوات بها، وهي تسعى لاستهلاكها، ميلا عظيما: وقت الخروج.. مدته.. طبيعة العمل.. الزي.. أسلوب التعامل مع الآخرين.. مطالب الأمومة، والحياة الزوجية.. ضرورات التركيب النفسي، والفزيولوجي.. وغير هـذه الأمور [ ص: 121 ] والتفاصيل كثير، مما يحسب لكي يكون مردوده إيجابيا، لصالح المجتمع الإسلامي، ولصالح المرأة نفسها في هـذا المجتمع..
إنه التحرير للمرأة، لا التعهير لها.
إنه انطلاق مبرمج مرسوم، لا تسيبا فوضويا، ونزوات عمياء..
إن المرأة في المجتمع الإسلامي، ستقدم أقصى ما عندها أما، وزوجة، وعاملة، وإنسانية في نهاية المطاف..
بينما هـي لا تقدم في المجتمعات الأخرى، سوى جوانب محدودة فحسب، من إمكاناتها الفذة المتميزة، التي منحها إياها لله..
وسيشهد المجتمع الإسلامي، وإذاعات مسموعة ومرئية، ودور عرض سينمائي، وملاعب، وحدائق، ونواد، ومتنزهات.. وغيرها من مؤسسات الترفيه، والتوجيه، والتربية.. هـذه جميعا ستكون موجودة، وربما ستزداد عددا، ما دامت ستعمل في إطار التصور الإسلامي، تثقيفا، وتوجيها، وتربية، وترفيها.. وما دامت ستوظف لتعزيز قيم المجتمع الجديد، وهز الثقة، والتعاطف، مع معطيات وقيم الجاهليات المعاصرة كافة..
لقد قام الاتحاد السوفييتي، بعيد نجاح ثورته، باعتماد وتوظيف سائر الأجهزة والمؤسسات المذكورة، من أجل تعزيز فلسفته، ونشر قيمها، وتوضيح أهدافها.. لم يرفض منها شيئا، بحجة أنها معطيات بورجوازية.. لقد رفضت الصين فيما بعد، بعض الطرائق والصيغ البورجوازية، التي اعتمدت في تلك المؤسسات.. أما المؤسسات والأجهزة نفسها، فإنها كانت، وستظل إمكانات حيادية، يمكن أن تمنح الكثير.. فالموقف، الذي يجزع له كثير من المسلمين، من الذين يتصورون المجتمع الإسلامي، وقد صفيت فيه هـذه المؤسسات كافة، فليس ثمة دار للسينما، ولا برامج تلفزيونية، أو ملاعب، أو متنزهات.. ليس ثمة إلا الجد وحده.. يحتاج إلى مراجعة. [ ص: 122 ]
وإذا كان رسولنا صلى الله عليه وسلم ، يطلب منا، أن نروح على أنفسنا ساعة بعد ساعة، لأن القلوب إذا كلت عميت، وإذا كان كتاب الله سبحانه، ينادينا أن نتزين عند كل مسجد، وفي ألصق ما يخص الروح، ويبعد عن المظاهر.. فما بال جماعات من المسلمين، يريدون أن يحرموا ما أحل الله، ويعيدوا وضع الإصر في أعناق المسلمين، والأغلال في أيديهم، وأرجلهم، بعد إذ حررهم هـذا الدين منها!؟
والحديث عن الزينة، يقودنا - أخيرا - عبر هـذا العرض الموجز، إلى المكانة الكبيرة، التي تحتلها القيم الجمالية في الموقف الإسلامي، وبالتالي في (تطبيقات) وحياة المجتمع الإسلامي.. لقد شكلت الجوامع - على سبيل المثال - مهرجانا معماريا، يثير الإعجاب، عبر التاريخ الإسلامي، ومثلت إضافة كبيرة، لفنون العمارة في العالم.. فإذا كانت دور العبادة، قد فتحت صدرها، لتقبل أحدث الابتكارات والصيغ في ميدان المعمار، فلا ريب أن سائر الأبنية والعمائر الأخرى، لا تتناقض في متطلباتها الجمالية، مع مقولات مجتمع، يحكمه الإسلام، بل العكس: إن الجمال والزينة، والتنسيق، والأناقة، والنظافة.. لهي بعض من أبرز قيم الحياة الإسلامية، ومساحات أصيلة، في واجهتها المتألقة..
فلا يتصورون غبي، أو خبيث، أن قيام المجتمع الإسلامي، يقتضي بالضرورة اختفاء العمارات الجميلة، وتسوية ناطحات السحاب بالتراب،والاستعاضة عنها بالخيام، ودور اللبن والطين..
إن المدينة الإسلامية، ليتوجب أن تكون من أجمل المدن.. وإن القيم الجمالية الإسلامية، لتجد فرصتها هـناك، في تصميم العمائر، وصيغ الديكورات.. وإن المجتمعات الإسلامية عبر التاريخ، لتفخر بكونها قدمت الكثير في مجال العمارة، وأغنت معطياتها، بحشد من القيم الجمالية.. وهي لا تزال قديرة، بدفع من روح الإسلام، المتعشقة للأناقة والجمال، إلى تقديم المزيد. [ ص: 123 ]
التالي
السابق