تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله، الذي أنعم علينا بالإيمان لسبيله، وهدانا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين.
والصلاة والسلام، على المنقذ من الضلال، خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي أخرج الناس من عبادة العباد، إلى عبادة الله، حرر العبودية، التي هي نزعة فطرية، في الإنسان، من التسلط، والاستعباد، واسترد إنسانية الإنسان، ووضع عن البشرية إصرها، والأغلال، التي كانت عليها..
وكانت النبوة، بكل المفاهيم، والاعتبارات، والواقع الميداني، والسياق التاريخي، ثورة تحرير، وانعتاق، ونسخ لألوهية الإنسان، التي تمارس تحت شتى العناوين، والشعارات، والادعاءات، لإخلاص الوجهة لله سبحانه وتعالى . ذلك أن الشر، والظلم، تاريخيا، ناشئ، من تسلط الإنسان على الإنسان، وتعدد الآلهة، المتخذة من دون الله، والانحراف عن التوحيد، الذي يعني فيما يعنيه، مساواة الخلق أمام الخالق.. والذي لم يعرف الجاهلية، ولا يعرف الإسلام حقيقة، وبعد:
فهذا كتاب الأمة السادس والأربعون: (لمستقبل للإسلام) ، للدكتور أحمد علي الإمام ، في سلسة
(كتب الأمة) ، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، في دولة
[ ص: 7 ] قطر ، مساهمة في التحصين الثقافي، والوعي الحضاري، وإعادة بناء المسلم المعاصر، وإحياء وعيه بدوره الحضاري، ورسالته الإنسانية، ووظيفته في الشهادة على الناس، والقيام لهم، إلى الخير، وإلحاق الرحمة بهم، بعد تحققه بالمرجعية الشرعية، وتبصره بالسنن الاجتماعية، في الأنفس والآفاق، التي تمثل أقدار الله، وسننه، التي لا تتبدل، ولا تتغير، ليحسن التعامل معها، ويمتلك القدرة على تسخيرها، ومغالبة قدر بقدر أحب إلى الله، والفرار من قدر إلى قدر، فليس الرجل الذي يستسلم للقدر، بل الذي يحارب القدر بقدر أحب إلى الله- كما يقول
ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين- وهذا لا يأتى ما لم يمتلك- إلى جانب فقه السنن- القدرة على استشراف التاريخ، واستيعاب الواقع، وإبصار المستقبل، في ضوء هدايات الوحي، ومدارك العقل، وإعداد العدة المطلوبة، بإحياء فروض الكفاية، وتحقيق التخصصات المتعددة، في فروع المعرفة جميعها، والإحاطة بالعلم، وإنضاج الخبرات، والتزود بالطاقات الروحية المحركة، ليتخلص المسلم، من العطالة، ويستأنف دوره من جديد، على هدى وبصيرة.
وقد لا نأتي بجديد عندما نقول: إن الإسلام دين الفطرة، وإن الحضارة الإسلامية، هي عطاء الفطرة، وإن خلود هذا الدين، وامتداده، وقدرته على الإنتاج، والعطاء، مستمد من خلود الفطرة، التي تتأبى على التشويه، والتبديل، وتمتلك إمكانية التجاوز، والتصويب، قال تعالى:
( فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) (الروم: 30) .. إن هذا الدين، فطرة الله،
[ ص: 8 ] فقوامته، واستقامته، وقدرته على التقويم، والامتداد، والتجدد، والتجديد، مستمدة من رصيده في الفطرة البشرية، وكأن بين الإسلام، الذي هو دين الله إلى البشرية:
( إن الدين عند الله الإسلام ) (آل عمران: 19) ، الذي رضيه الله لعباده:
( ورضيت لكم الإسلام دينا ) (المائدة: 3) ، وبين الإنسان، الذي فطره الله على هذه الخصائص، والصفات، والمزايا، تواعد، والتقاء.. وأن المعركة الحقيقية، كانت ولا تزال، في صراع، والتدافع، بين الفطرة، التي فطر الله الناس عليها، وبين محاولات التشويه، والتبديل، والتضليل والاغتيال لهذه الفطرة.
وفي ضوء ذلك، يمكن أن نفهم قول الله سبحانه وتعالى ، في الحديث القدسي:
( ...وإني خلقت عبادي حنفاء، كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم ) (رواه
مسلم في كتاب الجنة) ..
ونفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه
أبو هريرة :
( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه.. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ) (رواه
مسلم ، في كتاب القدر) .
وندرك الأبعاد الكاملة لقوله تعالى في سورة الروم:
( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون *
منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين *
من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) (الروم: 30-32) .
[ ص: 9 ]
وفي ضوء ذلك أيضا، يمكن أن ندرك، بأن حقائق الخلق الإنساني العضوي، والنفسي، لها من الثبات، والامتداد، والديمومة، والعطاء، كحقائق الخلق الكوني.. وإن تميزت، عنها بأهلية الاختيار..وأن رصيد الخلق في الفطرة البشرية، كرصيد الخلق في الفطرة الكونية.. وأن حقائقها، لا تقل ثباتا وامتدادا، عن حقائق الشمس والقمر، والكواكب، الأخرى.. وأن السقوط المستمر للآلهة المزيفة، التي أرادات تبديل خلق الله، عبر التاريخ البشري، وفتنت الناس إلى الحين، جاءت من مواضعات البشر.. وأن غياب الحضارات، واندثارها، واستمرار الإسلام، دليل على خلود هذا الدين، لأنه استجابة طبيعية لفطرة الله، التي فطر الناس عليها، وشاهد إدانة مستمر، وتأكيد على أنه لا تبديل لخلق الله، وأن العبرة دائما هي بالعواقب، والمآلات الممتدة، وليست بالنتائج القريبة، التي تحاول أن تختزل الخلود في لحظات مرضية، في إطار الزمان والمكان..
لذلك بالإمكان القول: إن رصيد هذا الدين، في الفطرة البشرية، أو باعتبار هذا الدين، هو دين الفطرة، أو هو الفطرة نفسها، وإنه صبغة الله سبحانه وتعالى :
( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ) (البقرة: 138) ، وثمره علمه المطلق، بتقلبات الزمان، والمكان، والإنسان:
( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك: 14) ،
( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) (البقرة: 30) ، ونتاج عدله المطلق
[ ص: 10 ] الذي لا يليق به غيره... إن هذا المنطلق لفطرية هذا الدين، هو الذي أهل الإسلام، ليكون دين الإنسان، وهو الفيصل الأساس، بين الإسلام، وسائر المشروعات الحضارية البشرية، والمنظومات العقائدية المختلفة، والأيديولوجيات الوضعية المتعددة.. ولعل هذا هو السر الأعظم، في خلود الإسلام، حيث تتساقط المشروعات، والحضارات البشرية، والدينية التي عبثت بها أيدي البشر.
إن الإمكان الحضاري، والقدرة على تحقيق الشهود الحضاري على الناس، والقيادة لهم، وتقويم سلوكهم، بشرع الله، الذي يمثل أساس مهمة الأمة المسلمة، الذي بينه قوله تعالى:
( لتكونوا شهداء على الناس ) (البقرة: 143) ، نابع من القابليات المركوزة في الفطرة لهذا الدين.
وفي نطاق هذه القدرة، المتميزة، لهذا الدين، على النهوض، وإعادة البناء، الذي اصطلحنا على تسميته: بالإمكان الحضاري، يمكن لنا أن نلمح بعض المقومات، ولعل في مقدمتها، إضافة إلى ركيزة الفطرة:
أن رصيد التجربة البشرية التاريخي، وبكل إصاباته، وإنجازاته، وسقوطه، ونهوضه، وعبره، ودروسه، انتهى إلى النبوة الخاتمة، فهي بذلك تمتلك، إلى جانب رصيد الفطرة، رصيد الفعل التاريخي، الذي يعتبر المختبر الحقيقي للأفكار، والمبادئ، والدعوات، والحضارات، والعبرات، فهي تقف على قمة التجربة البشرية، ليس وقوف الذاهل، الغافل، وإنما وقوف المبصر، الذي يمتلك أدوات النظر، ومعاييره، وقيمه.
[ ص: 11 ]
إن الوقوف على هذه القمة الحضارية، إن صح التعبير، بكل ما فيها من نهوض، وسقوط، وكفر، وإيمان، وخير، وشر، وقوة وضعف، في أقدار التدين، سوف يمكن المسلم، من امتلاك القدرة على استشراف الماضي البعيد، والنظر إلى كيفية بدء الخلق، والتأمل في مسيرته، وما تعرضت له من عثرات، كما يمكنه من استشراف المستقبل البعيد والمآلات، والعواقب، في ضوء ذلك الماضي، الذي استقرت له، وفيه، قوانين الاجتماع البشري، والحركة التاريخية، وتأكدت فاعلية سنن الله في الأنفس، والآفاق.. وحتى لا يصيب إنسان الإسلام، الذهول، والغفلة، والعجز، والضياع، جعل الله النظر في العمق التاريخي، والتأمل في العواقب، والاهتداء إلى السنن، الناظمة للحياة، والاتعاظ بأحوال السابقين، واختصار الزمان، والتجربة، وتحقيق الوقاية الحضارية، من السقوط.. جعلها من الفروض الحضارية، أو الاجتماعية، فقال تعالى:
( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين *
هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) (آل عمران: 137-138)
وإذا سلمنا بأن الحاضر هو مستقبل الماضي، وماضي المستقبل، كما يقال، أدركنا الرصيد، والزاد، ومقومات الرؤية المستقبلية، التي يتمتع بها إنسان الإسلام، الذي لم يقف فيها عند حدود المحسوس، في عالم الشهادة، ويخادع ببعض النتائج القريبة، ويعيش قلق المصير، وإنما يتجاوز إلى ما وراء المحسوس، والمنظور، في عالم الشهادة، إلى التحقق
[ ص: 12 ] برؤى مطمئنة عن العواقب، والمآلات، التي سوف تصير إليها الأمور، من خلال مقدماتها في الماضي، ونتائجها في الحاضر، الأمر الذي سوف ينتهي بها إلى إدراك مآلاتها المستقبلية، المقترنة بتوثيق الوحي، الصادق المصدوق، قال تعالى:
( ولا ينبئك مثل خبير ) (فاطر: 14) .
وهنا قضية، قد يكون من المفيد الإشارة إليها، ولو سريعا، وهي أن الرؤية، التي يمنحها الإسلام للمستقبل، بشكل أخص، ولعالم الغيب بشكل أعم، ليست رؤية غائمة، حالة، طوباوية، بعيدة عن القدرة على التصور، والإحاطة العقلية بها، وإنا هي رؤية تمتلك كامل مقوماتها، وحتى مقدماتها المادية في الدنيا، ونماذج السنن، التي تحكمها، حيث يمدنا التاريخ بدليل صدقها، وفاعليتها، ويضعنا على عتبة المستقبل، متحققين بالزاد المطلوب.
لذلك نقول: بأن أي استشراف للمستقبل، لا يمكن أن يتحقق بدون استشراف للماضي، والتحقق به، وأي إدراك لمصير الخلق، لا يمكن أن يدرك بدون السير في الأرض، والنظر في السيرورة البشرية: كيف بدأ الخلق، قال تعالى:
( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ) (العنكبوت: 20) .
والقرآن الكريم، لم يكتف، بتوجيه المسلم صوب التاريخ، وأمره بالتوغل فيه، واكتشاف السنن الناظمة للحركة الاجتماعية، وتسخيرها، والوقاية الحضارية من إصابتها، وتركه يمارس الاكتشاف بنفسه، وإنما زوده بهدايات الوحي، كما زوده بأدلة، ونماذج تاريخية، في القصص
[ ص: 13 ] القرآني، تفتح بصيرته، وتقدم له القدر، الذي يشكل الأنموذج، وسراج الهداية، ودليل العمل، وبوصلة التوجه.
والمقوم الآخر، الذي يمتلكه هذا دين، في إطار الإمكان الحضاري، أنه يتملك، دون غيره من الأديان، صحة النص السماوي، وسلامته من التحريف، والتبديل، وانتقاله بالتواتر.. وعلى الرغم من أن سلامة النص، تعتبر من لوازم الخاتمية، حيث تعني الخاتمية، في أقرب مدلولاتها، توقف التصويب من السماء، لما يمكن أن يكون من عمليات التحريف، والتبديل، والإلغاء، فإن من خصائص الخلود أيضا، استمرار النص سليما، لكل الأجيال، في كل زمان ومكان، حيث لا يعقل أن يخاطب الناس بنصوص محرفة، أو منحولة، ومن ثم يحاسبوا على مدى التزامهم، بما حمل لهم الخطاب من تكاليف، وفي ضوء ذلك يمكن أن نفهم الأبعاد الكاملة لقوله تعالى:
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر: 9) .
نقول: على الرغم من ذلك، وعلى الرغم من لوازمه المادية، وثمرته، بتعهد الله بالحفظ، فإن الخطاب السماوي في الرسالة الخاتمة، خضع لأعلى درجات التوثيق، والحفظ، والنقل، حيث بلغ حد التواتر، الذي يفيد علم اليقين، مشافهته، وكتابته، إلى درجة أصبح معها النص القرآني - بالمعايير العلمية البشرية - يعتبر أقدم وثيقة تاريخية، وردت بطريق علمي صحيح، ولذلك قد لا نستغرب، أن يدرك ذلك بعض أبناء الأديان الأخرى، ويقوده إدراكه، ومنهجه العلمي الوثائقي، إلى اعتبار القرآن، هو المصدر
[ ص: 14 ] الوحيد، الوثيق، لبيان عقائد النصرانية، واليهودية الصحيحة، وبيان ما داخلها من تحريف، وتشويه، ذلك أن المصادر الأخرى، لا يوثق بها، لا من الناحية التاريخية، ولا من الناحية العلمية، إذا خضعت للفحص والاختبار، وأن قبولها واستمرارها، محكوم بنوع من التسليم، وهالة من القدسية، تحول دون مناقشتها، وعرضها على موازين التقويم والنقد.
وهنا قضية، لا بد من إثارتها، ولعلها من مقومات الإمكان الحضاري أيضا: وهي أن المسلمين، في الجيل المشهود له بالخيرية، لم يفهموا من قوله تعالى:
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر: 9) ، أنهم معفوون من مسئولية الحفظ، والتوثيق، والنقل، طالما أن الله تعهد بها، وإنما أدركوا مسئوليتهم تجاه القرآن، وأنهم أوعية الحفظ، والنقل، وأن الحفظ والنقل، إنما يتحقق من خلال عزمات البشر وفعلهم، لذلك، سارعوا إلى الحفظ والكتابة، منذ بدء الوحي، حيث اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم كتابا للوحي، ونهى عن كتابة غير القرآن، حتى لا يختلط النص السماوي بكلام البشر، فقال:
( لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه ) (رواه
مسلم في كتاب الزهد) ، وأرعبهم اشتداد القتل بالقراء، في معركة اليمامة ، وخافوا على ضياع القرآن، وأن يلحق بهم ما لحق
باليهود والنصارى ، من الاختلاف ومن ثم استنفروا جهودهم كاملة لحماية خطاب الله، الذي هدد بالإصابة، فكان جمع القرآن، وحفظه، ونقله، حتى وصلنا كما أنزل.
[ ص: 15 ]
وأمة تمتلك وتنفرد بوراثة الكتاب، وبامتلاك النص السماوي الخاتم، الخالد، سليما، وتدرك أن مدلولاته، ومقاصده، لا بد أن تتحقق من خلال عزمات البشر، هي أمة مؤهلة، لتحقيق الشهادة على الناس، والقيادة لهم، والقيام بأمانة الشهود الحضاري.
وقد يكون من الأمور المهمة، التي تقتضي الإشارة إليها، نحن بسبيل الكلام عن مقومات الإمكان الحضاري الخالد، الذي تحقق للأمة المسلمة، والذي يمنحها القدرة على النهوض، وإعادة البناء، هو عقيدة التوحيد، وثمراتها الإيجابية، في إعادة صياغة الإنسان، وتوحيد وجهته، في العقيدة والعبادة، والولاء والبراء، وتحقيق الانسجام بين نفسه، وروحه، وجسمه، وعقله، وعاطفته، وسائر أشواقه، وتطلعاته، وسموه، وحاجاته، وترقية، خصائصه، وتصعيد غرائزه، ذلك أن التوحيد لم يقتصر على آفاق البحث النظري، في مجال العقيدة، وتوحيد الأسماء والصفات، وإنما أثمر رؤية توحيدية، في كل شعب الحياة، المعرفية والعملية، ونفي الشرك، وتوحيد الوجهة، في المجال السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والأخلاقي:
( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) (الأنعام: 162) .
ولعلنا نقول هنا: إن التوحيد هو الركيزة الأساس، في الإمكان الحضاري، حيث قضى على التثليث، والتجسيد في العقيدة، الذي حاول إخضاع الخالق لسيطرة الإنسان، وخصائصه، وصفاته، وقضى على الثنائية، بين الوحي والعقل، التي كانت سببا في سقوط الحضارات
[ ص: 16 ] تاريخيا، وتشطير الإنسان، وتقطيع أوصاله، وتعدد وجهاته، ومنازعه، ومصادر التلقي عنده.
لقد تخلص إنسان الإسلام، من ثنائية الوحي والعقل، ذلك الخيار الصعب، الذي طرح تاريخيا، كثمرة لمقدمات مغلوطة، فلم ير المسلم تناقضا، بين معارف الوحي، ومدارك العقل، لأن الله، هو مرسل الوحي، وخالق العقل، ومكلفه بتعاليم الوحي، ومخاطبه بمعارفه، ولذلك فلا يمكن أصلا، تصور أي تناقض.. فالعقل هو سبيل معرفة الوحي، ومحل تكليفه، والوحي، هو سراج الهداية للعقل، والإطار المرجعي، والضابط المنهجي لمعارفه، ولا يمكن ابتداء لأحكام الوحي، أن تناقض العقل السليم، لأنه محل الخطاب والتكليف، كما أسلفنا.. ولو افترضنا أن الصدام والتناقض، حاصل من الناحية النظرية، فلا معني إذا للتكليف، الذي مناطه العقل، لأن التكليف لا يقع إلا في محله.. ولما كان العقل، متأثرا بالرغبات والنزوات، وواقعا تحت احتمالات خطأ الحواس المعتمدة، لإيصال المعلومة إلى العقل، كما أنه خاضع للعلم المحدود، والعمر المحدود، والاطلاع النسبي، فلا يمكن له أن يستقل بالنظر، له والحكم. أما الوحي فهو: خطاب الله، العليم، علما مطلقا، منزها عن الخطأ والغرض، والمبلغ المبين له هو: الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم ، لذلك فالتعارض منتف، بأصل الوضع، أما عند توهم التعارض، أو وجوده، لسبب أو لآخر فإن الوحي المعصوم، مقدم عقلا، على العقل المظنون.
وجيل خير القرون، ومن تبعهم بإحسان، في فترات التألق،
[ ص: 17 ] والعطاء الحضاري كلها، لم يعانوا من هذه الإشكالية، التي دمرت إنسان الحضارة الغربية، ووضعته أمام الخيار الصعب، فانتهى، إما إلى إلغاء العقل، وإسقاطه، واعتبار التدين والإيمان، يعني ويقتضي: الإلغاء الكامل للعقل، والتسليم، بدون تعقل، الأمر الذي أدى إلى شيوع الخرافة، والتصورات المشوهة، والانسلاخ من الدين، والقيم الأخلاقية.. وإما إلى نفي الدين، وتأليه العقل، والاكتفاء بعلم ظاهر الحياة الدنيا:
( يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ) (الروم: 7) ، وإسقاط معارف الوحي، وتقطيع الإنسان إلى أبعاض.
إن جيل خير القرون، والفترات التاريخية كلها، التي تمتعت بالبناء، والتألق الحضاري، لم تعان من هذه الثنائيات، إلا عندما طغت مفاهيم الحضارة الغربية، وأخذ الناس بأشيائها، ونقلوا فكرها، وفلسفتها، وثقافتها، وهما، منهم بأنها قارب النجاة، وسبيل الرقي الحضاري وما زادتهم إلا تبعية وتكريسا للتخلف، ونوعا من الفصام الحضاري.
ولعل من مقومات الإمكان الحضاري، الذي يؤهل الأمة المسلمة للشهود الحضاري، أو بعبارة أدق: يؤهلها للشهادة على الناس، والقيادة لهم: هو وجود أنموذج الاقتداء التطبيقي، المعصوم، الذي تم تطبيقه، وبناؤه، على عين الله، صاحب الخطاب الأصلي، وفعل المعصوم صلى الله عليه وسلم لتنزيل القيم، والنص السماوي المطلق، على الواقع النسبي، وتقويم سلوك الناس بها.. وهذا الأنموذج الذي امتد بناؤه ثلاثة وعشرين عاما، أستوعب أسس الحالات، وسبل حلول المشكلات، التي يمكن أن تتعرض لها البشرية، في تاريخها الممتد، حتى قيام الساعة، إنه أنموذج للدعوة والدولة،
[ ص: 18 ] والضعف والتمكين، والسقوط والنهوض، والهزيمة والنصر..الخ.. أنموذج لكيفية التعامل مع القيم، من خلال الواقع، والتعامل مع الواقع، والارتقاء به، وتقويم سلوكه، بشرع الله، من خلال القيم.. ويبقى المطلوب، في كل مشروع للنهوض والتجاوز: القدرة على استلهام الأنموذج المعصوم، وفقه الحالات المشابهة، ووضع الواقع في موقعه المناسب، من مسيرة بناء الأنموذج، والإفادة من كيفية تعامله مع الحال المشابه، لتسديد المسيرة، وتغذية السير، بعيدا عن أي تقليد، ومحاكاة للنماذج الرديئة، من أي مصدر جاءت. لذلك جعل الله استلهام الأنموذج المعصوم، دينا من الدين، قال تعالى:
( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) (الأحزاب: 21)
ومن الأمور التي لا بد من لفت الانتباه إليها، ويمكن اعتبارها من مقومات الإمكان الحضاري أيضا، في هذا المجال- مجال تميز الأمة المسلمة، بأنموذج الاقتداء التطبيقي المعصوم، لتنزيل القيم على الواقع- هو استمرار حمل الأنموذج، وعدم انقطاعه، في كل المراحل.. صحيح بأن مساحة هذا الأنموذج، قد تتسع، لكنها أبدا لا تنقطع، ولعل سمة الخلود، التي تعتبر من لوازم الرسالة الخاتمة، تعني فيما تعني، من الناحية النظرية: القدرة على الإنتاج العلمي في كل عصر، وتأكيد ذلك من الناحية العملية التطبيقية، إنما يكون في امتداد الأنموذج، الذي يجسد القيم، ويدلل على قدرتها على الإنتاج، وقابليتها للتطبيق، وإثارة الاقتداء بها.. في ضوء ذلك، يمكن أن نفهم بعض الأبعاد الغائبة، لقول
[ ص: 19 ] الرسول صلى الله عليه وسلم :
( لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) (رواه
البخاري ومسلم ) .
إنه استمرار لأنموذج الاقتداء، الذي يمنح الدليل العملي، والشاهد الواقعي على الإمكان الحضاري، وقابليات النهوض، وإعادة، البناء، والإقلاع من جديد، ذلك أن الطائفة القائمة على الحق، تمثل بحق ميدانا تدريبيا تأصيليا للمعاني الغائبة، وترجمة القيم إلى واقع وسلوك، والأفكار إلى أفعال.. ولعل امتلاك الأمة المسلمة للقيم، في الكتاب والسنة، التي لا يد للإنسان في وضعها، يمنحها القدرة على اكتشاف أخطائها، وممارسة عمليات التصويب، والنهوض، والتجديد الذاتي، والقضاء على جوانب الانحراف، ونوابت السوء.. يمنحها القدرة، ليس فقط على معايرة الحاضر (الواقع) ، وتحديد مواطن الإصابة، والقصور، ومعرفة أسباب التقصير ورسم سبل الخروج منه، وتقويمه بشرع الله، وإنما تمتلك القدرة أيضا، على تقويم الماضي (التاريخ) ، وبيان جوانب الانحراف والاستقامة، والخطأ والصواب فيه، التي انتهت بنا إلى ما صرنا إليه.
فالتاريخ، هو في نهاية المطاف، فعل بشري، يجري عليه الخطأ والصواب، وهو محاولة لتنزيل القيم على الواقع.. وهو ليس أمرا مقدسا، ولا معصوما، وهو بذلك ليس مصدرا لتشريع الأحكام، وإنما هو محل للدرس، والعبرة، والاهتداء إلى السنن الاجتماعية الفاعلة، والتحقق بالوقاية الحضارية، حتى لا يتكرر الخطأ، وتستمر الإصابة.
[ ص: 20 ]
فالأمة المسلمة، ليست أسيرة لتاريخ أو لماض، اللهم إلا السيرة الصحيحة، التي تمثل أنموذج الاقتداء، المسدد بالوحي، والمؤيد به.. بل لعل السيرة النبوية، تشكل أحد المعايير التطبيقية، لتقويم التاريخ، وبذلك فالأمة المسلمة، قادرة باستمرار، على التجدد الذاتي، والتجديد، وهذا يعتبر أحد مرتكزات الإمكان الحضاري الكامن في طبيعة الأمة، وقيمها، التي تؤهلها باستمرار، لاستئناف السير، ومعاودة النهوض، ولعل هذا، هو السر الحقيقي في عدم انقراض الأمة المسلمة، وموتها، وعدم خضوعها بإطلاق، للدورات الحضارية، التي جرت على الحضارات التي سادت ثم بادت، على الرغم من خضوعها لسنة التداول الحضاري، قال تعالى:
( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ) (آل عمران: 140) ، ذلك أن خميرة النهوض، تتمثل دائما في القيم المستمدة من الوحي (الكتاب والسنة) ، وفي تجسيدها، وتفعيلها في الطائفة الممتدة، القائمة على الحق.
لقد ذهب علماء الحضارات، كثمرة لاستقرائهم التاريخ البشري، وصفحات السقوط والنهوض، إلى أن الحضارة، أية حضارة، تمر بمراحل ثلاث، فقالوا:
إن المرحلة الأولى: هي مرحلة الفكرة، مرحلة الإيمان بالهدف، الذي يملأ على الإنسان نفسه، ويشكل له هاجسا دائما، وقلقا سويا، ويدفعه للعطاء غير المتناهي، والتضحية في سبيل ذلك، بكل شيء، بما يمكن أن يعتبر أن من أهم سمات هذه المرحلة: بروز إنسان الواجب، الذي لا يرى
[ ص: 21 ] إلا ما عليه، ويقبل على فعله بوازع داخلي، بإيمان، واحتساب، دون أن يخامر عقله، ماله من حقوق.. هو إنسان واجب، إنسان إنتاج، وليس إنسان حق فقط، إنسان استهلاك.. وقد يكون من المفيد هنا، أن نذكر بحديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي وصف مرحلة الوهن الحضاري، والإشراف على السقوط، وحدد معادلتها، عند سئل عن الوهن، الذي يصيب الأمة قال:
( حب الدنيا (ظهور إنسان الغريزة-إنسان الاستهلاك) ، وكراهية الموت ) (غياب إنسان الإيمان، والإنتاج، والاحتساب) (الحديث رواه
أحمد ، مجلد5، ص 278) .
أما الدورة الحضارية الثانية، أو المرحلة الحضارية الثانية، التي تمر بها الأمة، هي مرحلة العقل، وضمور الإيمان، وفتور الحماس، نسبيا.. مرحلة التوازن، بين العمل والأجر، بين الحق والواجب، بين الإنتاج والاستهلاك، بين الدنيا والآخرة، دورة ضبط النسب.. حلول العدل، محل الإحسان.. وهنا تصل الحضارة إلى قمتها، وتبدأ مرحلة السقوط، إذا لم تستدرك ما يتسرب لها من أمراض. والدورة الحضارية الثالثة، أو مرحلة ما قبل السقوط النهائي، هي مرحلة غياب الإيمان، وبروز الشهوة، والغريزة، وانكسار الموازين الاجتماعية، واستباحة كل شيء وبكل الأساليب، وعندها تسقط الحضارة، وتموت الأمة، ويتم الاستبدال.
إن عدم خضوع الأمة المسلمة، للدورات الضارية بإطلاق، وقدرتها على الاستمرار، والتجاوز، والتجدد، والتجديد، والنهوض، من دون
[ ص: 22 ] غيرها من الأمم والحضارات، يعني فيما يعني: أنها تمتلك الإمكان الحضاري الممتد، والمفقود في الحضارات الأخرى، السائدة منها، والبائدة، وذلك بامتلاكها النص السماوي السليم، الذي يشكل المعيار، وامتداد الأنموذج، المفعم بالإيمان، والإيثار، والإحسان، المتمثل بالطائفة القائمة على الحق، التي تمثل خميرة النهوض، بما تحمل من إيمان وفاعلية، إنما تمثل استمرار إنسان الواجب الذي يحفظ التوازن، ويعيد للحياة معناها المفقود، ويثير الاقتداء به، وهذا من ثمرات الخاتمية، الخلود، ومن لوازمها، إن صح التعبير.
وفي ضوء ذلك، يمكن أن ندرك مواثيق الله، وعهده لهذه الأمة، أن لا يسلط عليها عدوها، تسليط استئصال وإبادة، وإنما تسليط تأديب على معاصيها، وتحريض لها، لتعاود المراجعة، والتقويم، والنهوض من جيد.
قال تعالى:
( لن يضروكم إلا أذى ) (آل عمران: 111) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ..وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم ) (رواه
مسلم ، في كتاب الفتن وأشراط الساعة) .
وهنا نقطة، قد تكون جديرة بالتوقف قليلا، بما يتسع له من المجال، وهي أن السقوط الحضاري، مهما كان قاسيا، يكون بالإمكان تجاوزه، واستدراكه، واستئناف عملية النهوض من جديد، إذا اقتصر السقوط والانهدام، على عالم الأشياء، أو ما اصطلح على تسميته: (بالمدنية) ، واستمر عالم القيم والأفكار، أو ما اصطلح على تسميته: (بالثقافة) ، سليما.. لذلك استطاعت الأمة الإسلامية بما تمتلك من قيم محفوظة
[ ص: 23 ] بحفظ الله:
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر: 9) ، والمتحقق حفظها، من خلال عزمات البشر، استطاعات أن تعيد البناء، وتمارس عملية النهوض، على الرغم من فداحة الانكسارات، وعظم النكسات، وشراسة الهجمات، وقوة الأعاصير المدمرة، لأنها لم تفتقد قيمها، وأفكارها، ومخطط النهوض ودليله.
وفي ضوء ذلك، يمكن أن ندرك أبعاد قوله تعالى، في أعقاب هزيمة أحد :
( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين *
إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ) (آل عمران: 139-140) ..أنه استعلاء الإيمان رغم سقوط، وهزيمة الأشياء، وعظم الانكسار.. وقوله تعالى في سورة البروج، بعد أن عرضت السورة لعذابات المؤمنين، تحريقهم بالأخدود، وشراسة الظالمين، وتقديم نماذج للظلم المتصاعد، قال تعالى:
( هل أتاك حديث الجنود *
فرعون وثمود ) (البروج: 17-18) (طغيان واستبداد حاكم: فرعون. وتواطؤ وظلم أمة: ثمود) ، ثم ختم السورة بقوله تعالى:
( بل هو قرآن مجيد *
في لوح محفوظ ) (البروج: 21-22) ، الأمر الذي يلمح منه الإنسان، أن الشدائد الشديدة، لا تنال من الأمة، ولا تسقطها، إذا حفظ لها عالم أفكارها، الذي يضمن القدرة على العود، لذلك فإن معركة إسقاط الأفكار، والغزو الثقافي، هي الأخطر دائما، وعمليا.. وأن عملية التحريف والانتحال، والمغالاة، هي الأدهى والأمر..ولذلك أيضا، نرى أن حسبة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، رسالة كل
[ ص: 24 ] مسلم، وفريضة الأمة المسلمة، هي الحارس الأمين لعالم القيم، وتطبيقاتها في المجتمع، ونرى أن الدورات التجديدية على رأس كل مائة عام، التي أخبر عنها الصادق المصدوق، تأتي لتعيد تنقية عالم الأفكار، مما أحدث فيه من جديد
( يبعث الله على رأس كل مائة عام، من يجدد لهذه الأمة أمر دينها ) (رواه
أبو داود ، في الملاحم) ، ليبقى الإمكان الحضاري مستمرا.
وفي إطار ما تتمتع به الأمة المسلمة، من الإمكان الحضاري، الذي يمنعها من السقوط، ويدفعها إلى النهوض، بما تمتلك من الخصائص، التي أشرنا إلى شيء منها، قد يكون من الأهمية بمكان، العود على بدء، من أن الحضارة الإسلامية، بعطائها، وامتدادها، لم تعان، على مستوى التصور والسلوك، معا، أو على مستوى الفكر والفعل، من ثنائية العقل والوحي، الأمر الذي أدى إلى تشطير الإنسان، وتدمير بعضه، وإنما سار العقل والوحي بخطين متوازيين، لا يصطدمان، فلا تعارض في التصور الإسلامي، بين العقل والنقل، أو بين صريح المنقول، وصحيح المعقول، والأمر لا ينظر له في المجال المعرفي الإسلامي، في إطار التعارض، الذي غالبا ما يمليه اليوم الموقف الدفاعي، بمقدار ما ينظر إليه في نطاق الانسجام والتوافق، لإنتاج الإنسان المتوازن، المتناسق.
فإذا كان الوحي في الكتاب والسنة، مصدرا للمعرفة والتشريع، فإن العقل، بما يمتلك من الإمكان، والأهلية، هو الذي يستنبط، ويحقق ذلك، بل ويمتد به لتعدية الرؤية، وتنزيل النص، وتحقيق ذلك، بل يمتد به لتعدية الرؤية، وتنزيل النص، وتحقيق مقاصده في الواقع، بما
[ ص: 25 ] اصطلح عليه: (بالاجتهاد، الذي يعتبر المصدر الثالث للتشريع..) وما الاجتهاد إلا إعمال العقل، لمد الرؤية، وتوليد الأحكام الجديدة، للحوادث الجديدة، في ضوء الوحي، ذلك أن العقل، يجرد المقاصد، من حدود الزمان، والمكان، ويولد في ضوئها الأحكام الجديدة، أي أن العقل، يمتد بالوحي ليقوم بأحكامه جميع شئون الحياة.. فإذا كانت النصوص تتناهى، والحوادث المتجددة لا تتناهى، كما يقول علماء الأصول، فإن اعتماد الاجتهاد كمصدر للتشريع، هو أحد مقومات الإمكان الحضاري، ومصدر الحيوية، وسبيل تحقيق الخلود، وآلية الفعل الحضاري، ذلك أن الاجتهاد، هو مصدر الإجابة عن كل الأسئلة، وتقديم الحلول لكل المشكلات، التي تواجه المسلمين، بعيدا عن صور التخلف، والعجز، والتخاذل الحضاري، التي يمكن أن يصنف خارج نطاقه الإسلام الصحيح، وأمانة التكليف.
وقد يكون من الأمور، التي لا بد أن تقدر حق قدرها، على الرغم من كل المحاولات المستميتة لتشويهها، والتي كانت سببا في اختيار الإسلام، واستمرار امتداده، في كل الظروف، والأحوال، والأوضاع، سواء في أكثر المجتمعات تقدما مدنيا، أو في أكثرها تخلفا وانحطاطا، أن الإسلام استرد إنسانية الإنسان، وجعل التدين حرية واختيارا، واستطاع إيقاف تأله الإنسان على الإنسان، الذي هو مصدر الشر، والظلم في العالم -كما أسلفنا-وحل المعادلة الصعبة، أو صوب المعادلة، بين السلطة والألوهية والإنسان.
[ ص: 26 ]
ذلك أن العلاقة، بين السلطة، والطغيان، والعلو في الأرض، وبين الألوهية، أخذت حيزا كبيرا من تاريخ الإنسان الطويل، في هذه الدنيا، حتى لتكاد تكون علاقة تلازم في فترات طويلة، حيث كان يصعب على صاحب السلطة، أن يقبل، أو يعترف، أو يتصور بوجود سلطان غيره، أو بوجود إله غيره، يمكن أن يتجه إليه الناس.
وهنا لا بد أن نذكر مرة أخرى، بقولة فرعون، كأنموذج للطغيان في التاريخ البشري، عندما دعاه موسى إلى الإيمان بالله، حيث قال:
( ما علمت لكم من إله غيري ) (القصص: 38) ..
( أنا ربكم الأعلى ) (النازعات: 24) ، ومقوله النمرود:
( أنا أحيي وأميت ) (البقرة: 258) ، واستدل لذلك من استخدام سلطته، التي أوهمته بالألوهية، وفهم من قول سيدنا إبراهيم: إن الله يحي، ويميت، تلك العملية الساذجة، حيث يقدر هو أيضا أن يقتل إنسانا، ويطلق سراح آخر، ممن حكم عليهم بالإعدام، وعندما نأتي على ذكر هذين الأنموذجين، من تاريخ العلاقة، بين الإنسان، والسلطة، أو بين السلطان، والتأله، والعلو في الأرض، فإننا نؤكد أن هذه النماذج، سوف تتكرر، بشكل، أو بآخر، بشكل واضح، سافر، أو بشكل خفي مستتر، وأقل ما في ذلك اليوم، عزل الحياة عن سلطان الله، ليحل محله المتألهون، أو آلهة العصر الجديد-ولكل عصر آلهته-لأن القرآن خالد، ومجرد عن حدود الزمان، أو المكان.. وهذا الخلود يعني تكرار الفراعين، والنماريد، والقوارين، وتكرار المواجهة، والإصابات، والتدافع، بين
[ ص: 27 ] الحق، والباطل، ليمتحن الناس، ويتمايزوا، والشر من لوازم الخير، قال تعالى:
( كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) (الرعد: 17) ولولا هذه الشواهد، التي قد لا يخلو منها عصر، أو مكان، في جنبات الأرض الواسعة، لكان القرآن، كتاب تاريخ، وقصة، وتسلية، لا علاقة له بواقع الحياة، ولا مستقبلها.
إن صاحب السلطة، إذا تجرد من الإيمان بالله، وديمومة مراقبته، وخشيته، واستصحاب الحذر من التسلط، وما يترتب عليه من الإثم العظيم، يصعب عليه، بما يتملك من القدرات التنفيذية رؤية مقام العبودية لله تعالى، واستشعار المسئولية عن العمل، والكف عن شهوات النفس.
لذلك نرى، من استقراء التاريخ، أن الكثير من أصحاب السلطان، والحكام، حتى عند اعترافهم، بوجود الله، لم يرضوا أن يعترفوا بسلطانه، على الأرض!!، وعند اعترافهم بهذا السلطان يحاولون تشويه، صورة العبودية لله تعالى، لتكون في خدمتهم، فيجعلون من أنفسهم، آلهة الأرض، نيابة عن إله السماء، ويعلنون أنهم هم المتحدثون باسمه، والمفسرون لتعاليمه، وأنهم هم ظله على الأرض، الذين يمثلون إرادته، وفي هذه الحالة، يربطون، بين استبدادهم، وتسلطهم على حياة الناس، وضمائرهم، وبين إدارة الله، الذي انتدبهم، بزعمهم، ليكونوا آلهة الأرض، بحيث يصبح كل من يخالفهم، أو يناقشهم، أو يتقاعس عن
[ ص: 28 ] تنفيذ أوامرهم، عاصيا لله سبحانه.. إنه التأله، والتسلط، والظلم، باسم الله، والدين، وهو أشد وأشر أنواع التسلط، وتعبيد الإنسان للإنسان.
ولقد عاني الإنسان، من الحكم الديني، أو ما عرف في
أوربا ، باسم: ( الحكم الثيوقراطي ) ، أشد المعاناة، حيث لم يعد الحكام يتسلطون، على دنيا الإنسان، ويلغون وجوده، واختياره، وإنما امتد ذلك، للتسلط على أخراه أيضا، لأن معارضة الحاكم الثيوقراطي، عصيان لله، سوف يحاسب عليه الإنسان، في الدنيا بالظلم، والعسف، والطغيان، وفي الآخرة، بالعذاب الأبقى!!
وكان من المستحيل، عقلا، وواقعيا أن يستمر، هذا التأله، الذي يمارس على الإنسان، منفصلا، ومنكرا لله تارة، ومستخدما اسم الله، وإرادته، حينا آخر. لكن المشكلة بالقراءة الخاطئة، التي وقع فيها الإنسان، أثناء النظر إلى معادلة السلطة، والإنسان، فتوهم أن المشكلة كلها آتية من الإيمان بالله، الذي يزيفه هؤلاء، الذين يدعون أنهم ظل الله على الأرض، وليست المشكلة في التزييف، ومحاولة الاعتداء على سلطان الألوهية، من بشر، هم كسائر البشر، يعطون أنفسهم حق التسلط على الآخرين، الذين لا يختلفون عنهم، فكان أن أنكر الإنسان الدين، والإيمان، سقوطا في هذا التزييف، دون أن يدرى أن حل المشكلة، وتصويب المعادلة، إنما يكون بالإيمان الصحيح، وتوحيد الألوهية، والربوبية، وإيقاف الشرك السياسي، ونسخ التألهات السلطوية، التي حاولت أن تجير الإيمان لحسابها.. ولم يدر الإنسان أن إلغاء الإيمان بالله،
[ ص: 29 ] وقيمه، التي تحكم الجميع، ويتساوى أمامها الجميع، هو تكريس لألوهيات البشر، بشكل ظاهر، أو خفي، لأنهم هم، الذين سوف يتولون وضع الضوابط، والمعايير، التي يحكمون بها الناس، ويغيرونها تبعا لأهوائهم، ولتحقيق مصالحهم، وتأمين سلطتهم، وتسلطهم.
ولا بد أن نذكر هنا، أن أعتى المواجهات، كانت بين النبوة والكبراء، سدنة الشرك السياسي.. كانت بين مدعي الألوهية من البشر ومنكري ألوهية البشر وتسلطهم، من الأنبياء، إلى درجة يمكن أن نقول معها: إن النبوة جاءت كثورة تحريرية، لإيقاف تسلط الإنسان، على الإنسان، وإعلان مساواة الناس، وإعلان التوحيد، والوحدانية، التي تلغي تأليه البشر، أو شراكة البشر.. جاءت لتحرير الإنسان، من العبوديات جميعا، وتربطه، بخالق البشر، بما فيهم أصحاب السلطان، وتمنحهم القدرة على الصمود، والمواجهة، والصبر، في مواجهة الظلم، والاستبداد، والشرك السياسي، وتجعل ثوابهم عظيما، في مواجهة التأله، في الأرض، وتقدم لهم نماذج للظلم، والاستبداد السياسي الموهوم، وكيف كانت عاقبته، بل وتتحدى الظالمين، والمتألهين، بالعواقب، وأنهم على الأرض، ليسوا أكثر من وسائل إيضاح، وأدوات فتنة، موقوتة، للظلم، والطغيان، فأين فرعون، وهامان ونمرود، وقارون؟! وتمنحهم الثقة، والانتصار، مهما اشتد الظلم، والظلام، فالذي قوض ملك فرعون، هو الذي تربى في قصره، على الرغم من كل الاحتياطات السلطوية.
[ ص: 30 ]
ونستطيع أن نقول هنا: إن الإسلام، أو النبوة، الخاتمة، استطاعت أن تصوب معادلة السلطة، والإنسان، في التصور، وتجسد هذا التصويب، في الواقع، عندما نزعت صفة الألوهية، عن كل المخلوقات، وأعلنت المساواة في الإنسانية، والخلق، بين الحاكم، والمحكوم، بل أكدت أكثر من مرة، حتى لا يتلبس الإنسان بألوهية الإله، أن الأنبياء المتصلين بالله فعلا، هم بشر من البشر، لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا.. وأن السلطة، هي في نهاية المطاف، تكليف، وليست تشريفا.. وأنها مسؤولية، من أعظم المسؤوليات.. وأنها إجارة، وليست إمارة، وتعاليا على خلق الله.. وأن السلطان، ملزم بتنفيذ شرع الله.. وأن طاعته لا تنعقد، إلا بهذا الالتزام بالقيم، التي لا يد له في وضعها.. وأنه ليس بالضرورة، أن يكون خير الناس، لأنه تولى أمرهم.. وأن الشورى، إنما تكون فيما لا نص فيه، من الله، ورسوله، وحتى في تطبيق النصوص، وتنزيلها على الواقع.. وأن الإنسان، مسؤول أمام الله وليس أمام المخلوقين، مهما كانوا.
نقول: لقد استطاع الإسلام، أو النبوة الخاتمة، تصويب معادلة السلطة، والإنسان، واسترداد كرامة الإنسان، بحيث أصبحت العلاقة، بين السلطة والإنسان، نوعا من العقد الاجتماعي، الذي ضبطت فيه حدود الطاعة، والمسئولية، سواء بالنسبة للحاكم، أو المحكوم، على حد سواء.
وكان شعار، أو ميثاق الحكم، في الإسلام: " أطيعوني، ما أطعت الله " - والناس يعلمون شرع الله، الذي يشكل لهم المعيار لفعل الحاكم، ويستوجب طاعته- " فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم " .. " وليت أمركم، ولست بخيركم، فإن أحسنت فأطيعوني، وإن أسأت فقوموني، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " .
[ ص: 31 ]
إن هذا الميثاق، للعلاقة سوى بين الحاكم، والمحكوم، وجعل المسئولية أمام الله وليست أمام البشر، وجعل القيم المنزلة، الثابتة، هي معيار الحاكم، والمحكوم، وبذلك صوبت معادلة السلطة، والإنسان وألغيت ألوهيات البشر لبعضهم، وهذا هو أشد أنواع التسلط، الذي عاني منه الإنسان، في تاريخه الطويل، من التعامل مع الأرباب، من غير الله.
لكن النزوع السلطوي، إلى الطغيان، والاستبداد، والتأله، والترفع على خلق الله، لا يزال يتكرر بشكل، أو بآخر، ..ولعل من مظاهر الخلود، في القرآن، أن يتكرر الوهم، عند بعض أصحاب السلطان، ويدعي بعضهم، أنهم آلهة الأرض، فتأتي ممارساتهم جميعا، اعتداء على كرامة الإنسان، واختيار الإنسان، ويتكرر شعار:
( آمنتم له قبل أن آذن لكم ) (الشعراء: 49) ، ويستمر العدوان على سلطان الله، في التشريع، ويخول بعض أصحاب السلطان أنفسهم، وضع الشرائع، التي تؤمن من مصلحتهم، وتحقق تسلطهم، ويتلاعبون بها، طبقا لأهوائهم، حتى أصبحوا يتفننون بالاعتداء على سلطان الله، فكما كانوا، في الماضي يعتبرون أنفسهم آلهة الأرض، فهم اليوم يقولون: إن الإيمان بالله، أو الإسلام، هو نوع من العلاقة الوجدانية الخاصة، بين الله، والإنسان، محلها الضمير، بعيدا عن تنظيم مسالكه، وعلاقاته، في الأرض، التي يتصرف بها، بشر من البشر، هم أصحاب السلطة.
وبعد هذا، هل نستطيع أن نقول: إن فصل الدين عن الحياة، أو بعبارة أدق، فصل الحياة عن الدين، الذي يمثل التطبيق العلماني، في المجال المعرفي- كما أن اعتبار الإنسان مصدر كل السلطات، والتشريعات، باسم
[ ص: 32 ] الديموقراطية ، يمثل الوجه الآخر للتطبيق العلماني في المجال السياسي- هو لون من الارتكاس، عن طريق النبوة، وعودة إلى تأليه السلطة، ومنحها، سلطان وضع القيم للناس، وإلغاء لقيم الله الناظمة للحياة، والعلاقة بين الناس، وعودة إلى ممارسات الأرباب في الحكم، والتشريع، وإهدار كرامة الإنسان؟
لذلك نقول: إن تصويب المعادلة، بين السلطة، والألوهية والإنسان، هو من أبرز ملامح الإمكان الحضاري، وإعادة البناء الصالح.
وبعد:
ففي هذه الظروف العسيرة، التي، تمر بها الأمة المسلمة، التي يسودها الإحباط، واليأس، والتخاذل، والاستسلام، بسبب استكبار (الآخر) وعلوه، وما استدعى ذلك من العبث بمفاهيم الجهاد، وتغييب مدلوله، وإسقاط تاريخه، وتجاوز موقعه من الدين، بلون من التأويل الفاسد، والفهم المغشوش، والانتحال الباطل، وتفسير المنهزم، تأتي هذه اللمحات التفاؤلية، تحمل البشائر والبصائر، بأن المستقبل لهذا الدين، وتعيد الاعتبار لاستعلاء الإيمان، الذي يكاد يتوارى، والذي يحمي من الانكسار، استجابة لقوله تعالى:
( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) (آل عمران: 139) ، ليس ذلك من خلال الأمنيات، والرغبات، وإنما من خلال السنن التغييرية، التي شرعها الله وأرادها، وفطر الناس عليها، وزودهم بآلياتها، بكل ما تقتضية من الإعداد الروحي والمادي، ليكون الإنسان هو وسيلة التغيير وهدفه، في آن واحد.
[ ص: 33 ]
يأتي هذا الكتاب، ليؤصل لمفهوم الجهاد، من الناحية الشرعية، ويعيد له روحه، وفاعليته، ومواصفاته، وبعده الحضاري، والمستقبلي، وما يقتضيه من إعادة الصياغة والإعداد، ويحذر من التقاعس، والتثاقل عن النفرة إليه، الذي يؤدي إلى تعريض الأمة للاستبدال، والانقراض، خاصة وأن دور الإعداد الروحي بدأ يتضاءل، ويغيب، تحت وطأة الانتكاسات المتلاحقة، وضغوط الحياة المادية، وانطفاء الفاعلية، وتسرب اليأس إلى النفوس، وغلبة سلطان العادة، وغياب معاني العبادة، وانكماش الأبعاد النفسية، والمادية، المترتبة على ملازمة المجاهد لذكر الله، لكي يتحقق بالنصر، والفلاح:
( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) (آل عمران: 200) .
إن الانهدام الروحي، الذي يعاني منه، الفرد المسلم اليوم، ومحاولات الانتقاص، والتقليل من شأنه، وإغفال دوره، يستدعي نذر النفس للمرابطة من جديد في هذا الموقع، وإحياء معانيه في نفوس الأمة.
وقد حاول مؤلف الكتاب-جزاه الله خيرا- ترجيح بعض الأمور الاجتهادية، لأسباب يراها ومواجهات يعيشها، ومقاصد شرعية يهدف إلى تحقيقها-وفي الأمر سعة، إن شاء الله- لكن تبقى وجهات نظر فكرية، اجتهادية، ليست بالضرورة أن تكون هي المرجحة في رأي كثير من المسلمين، ذلك أن (كتاب الأمة) ، هو كتاب فكر، معني بالاجتهاد الفكري، والتشكيل الثقافي- وكل إنسان يجري عليه الخطأ والصواب من خلال مرجعية شرعية، منضبطة بضوابط الكتاب والسنة.
والله هو المرفق والهادي إلى سواء السبيل.
[ ص: 34 ]