نماذج من مجاهدي الصحابة
لقد كان الصحابة، من
المهاجرين والأنصار ، على مراتبهم في الأولية، والسبق، والفضل، يتصدر التعريف بكل واحد منهم، بعد ذكر إسلامه، أنه شهد المشاهد، والغزوات كلها، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو يذكر في ترجمته مقدار ما شهد من هذه المشاهد،
[ ص: 77 ] وشارك في تلك الغزوات، مع ذكر جمعه للقرآن، أو ما حفظه منه، وذكر عبادته، وتهجده، وإنفاقه، وبذله.. وهكذا كانت سيرة الخلفاء الراشدين، إلى تمام العشرة المبشرة، وقد زادوا فوق ذلك، تحمل أعباء الخلافة، والإمارة، والقيادة
>[1] وحيثما نظرت في تراجم هؤلاء الرجال، وجدتهم في المشهورين بالعلم، والزهد، والتعبد، والجهاد، ومن بينهم عدد وافر من الصحابيات العابدات، اللائي اشتركن في جملة من الغزوات، بما تيسر من مشاركة مناسبة، كالسقي، والتمريض، والنقل، والأعمال الإدارية، مع المشاركة الفعلية في القتال أحيانا
>[2] ، وقد شاركت جملة من أمهات المؤمنين في بعض هذه الغزوات، بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفقا لقسمهن، وسهمهن، في الخروج
>[3] وهذه نماذج يسيرة، من هدي خير القرون، من جيل الصحابة، السابقين بالإحسان، من المعروفين بالقراء والعلماء، الذين كانوا من أهل التقوى، والمغفرة، والجهاد، والبذل في سبيل الله، والعبادة، والتهجد، والصوم، وسلامة الصدر، ولزوم الذكر:
1- مصعب بن عمير.. المقرئ
أول من يهاجر إلى
المدينة ، داعية إلى الإسلام، يمضي شهيدا يوم أحد ، وهو يتلو القرآن في الميدان:
لقد ظل
مصعب بن عمير يعلم القرآن، ويدعو الناس للإسلام، واستشهد يوم أحد وهو يحمل الراية، وجعل يقرأ القرآن في الميدان، يثبت به المؤمنين، وكان آخر ما قرأ:
( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين ) (آل عمران: 144) .
[ ص: 78 ] 2- سالم مولى أبي حذيفة.. يحمل اللواء يوم القيامة، على درب مصعب بن عمير
>[4] :
كما اعتنق
سالم مولى أبي حذيفة ، اللواء يوم اليمامة ، وجعل يدعو الناس للاجتماع والقتال: (يا أهل سورة البقرة، يا أهل سورة آل عمران) ، وأنكر على من ظن به أن الراية تسقط من يده فقال: (بئس حامل القرآن أنا إذا) . وقطعت يداه، والراية على صدره، بين يديه، وهو يقرأ بين يدي استشهاده، تماما مثلما صنع مصعب ابن عمير، قرأ:
( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) (آل عمران: 14)
>[5] 3- معاذ بن جبل.. أنموذج فريد، في حب الله، ولقائه
لقد حبب لقاء الله إلى الصحابة، وهم سادة الذاكرين، إنهم كانوا يذكرون الله تعالى ذكرا كثيرا، فزكت نفوسهم، واشتاقوا للقاء الله، إن كانوا في ميدان الجهاد، فهم يرجون الشهادة، وإلا فحسن الختام، وهم في سبيل ذلك يلبون النداء، فيخرجون عن المدينة، التي يحبونها، ويحتملون ألم فراق سيد الصحابة، بل سيد الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المحجلين صلى الله عليه وسلم .
وإنه يمثل لنا هذا الأنموذج،
معاذ بن جبل رضي الله عنه ، وقد كان معلما، داعية إلى الخير، مجاهدا. فعن عاصم بن حميد،
( عن معاذ بن جبل قال، لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى اليمن خرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصيه، ومعاذ راكب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت [ ص: 79 ] راحلته، فلما فرغ قال: يا معاذ عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلك تمر بمسجدي هذا، وقبري، فبكى معاذ خشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم التفت، فأقبل بوجهه نحو المدينة، فقال: إن أولى الناس بي، المتقون، من كانوا، حيث كانوا ) >[6] .
وقد أعد
معاذ بن جبل ، رضي الله عنه ، نفسه للقاء الله، بل إن أهله كانوا مثله، فإنه لما أصاب ولديه الطاعون قبله، استبشر معهما بلقاء الله، قال لهما: كيف تجدانكما؟
قالا: يا أبانا
( الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ) (البقرة: 147) ، قال: وأنا ستجداني إن شاء الله من الصابرين
>[7] . ثم إن معاذ بن جبل استقبل الموت بحفاوة بالغة، وذلك في طاعون عمواس ، بناحية
الأردن ، سنة ثمان عشرة من الهجرة، وله من العمر حينئذ ثلاث وثلاثون سنة. ولما شعر بدنو الأجل، هتف: " مرحبا بالموت مرحبا، زائر مغب، حبيب جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، إنك لتعلم أني لم أكن أحب الدنيا، وطول البقاء فيها، لكري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب، عند حلق الذكر "
>[8] .
وقد خص الله تعالى معاذ بن جبل رضي الله عنه ، بجملة فضائل، من السبق في الإسلام، والبيعة، والعلم، والعمل والزهد، والورع، والكرم، والجود، والتعبد، والاجتهاد. شهد بيعة العقبة ، وبدرا ، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأردفه وراءه، وبعثه إلى
اليمن ، بعد غزوة تبوك ، وشيعه ماشيا في مخرجه، وهو راكب.
[ ص: 80 ]
وهو مع ذلك، متواضع، يقول إذا قام يتهجد من الليل، يناجي ربه: " اللهم قد نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم، اللهم طلبي للجنة بطيء، وهربي من النار ضعيف، اللهم اجعل لي عندك هدى، ترده إلى القيامة، إنك لا تخلف المعياد "
>[9] 4- أبو طلحة الأنصاري.. رجل كألف
أبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود الأنصاري ، شهد العقبة مع السبعين، وبدرا ، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان من الرماة المذكورين، يقي بصدره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قوي التأثير على العدو، حتى
( قال صلى الله عليه وسلم : لصوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة ) >[10] وفي رواية أخرى:
( لصوت أبي طلحة أشد على المشركين من فئة ) .
وكان من أكثر الأنصار مالا، ولما نزل قوله تعالى:
( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) (آل عمران: 92) ، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأوقف أمواله إليه، وجعلها صدقة في سبيل الله على الأقربين، وبني عمه
>[11] " وعن
أنس ، أن
أبا طلحة ، ما أفطر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا في مرض، أو سفر، حتى لقي الله. " وعنه: أن أبا طلحة، غزا البحر، فمات، فلم يوجد له جزيرة يدفن فيها، سبعة أيام، فلم يتغير
>[12] 5- عبدالله بن رواحة.. الفدائي المقدام والصوام
عبدالله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس ، يكنى أبا محمد، أحد النقباء الاثني عشر، وشهد العقبة مع السبعين، وبدرا ، وأحدا ، والخندق ، والحديبية ، وخيبر ،
[ ص: 81 ] وعمرة القضاء . واستخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على
المدينة في غزوة بدر الموعد (بدر الآخرة) ، وبعثه في سرية في ثلاثين مجاهدا، إلى أسير بن رزام اليهودي،
بخيبر ، فقتله، وأرسله إلى خيبر خارصا.
( وعن أبي الدرداء قال: لقد رأيتنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، في بعض أسفاره، في اليوم الحار، الشديد الحر، حتى إن الرجل ليضع يده على رأسه من شده الحر، وما في القوم صائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعبد الله بن رواحة ) >[13] .
6- أبو دجانة.. يبايع على الموت
أبو دجانة سماك بن خرشة ، شهد بدرا ، وأحدا ، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يومئذ، وبايعه على الموت، وقتل بعد اليمامة شهيدا.
كان سليم الصدر، يحفظ وقته ولسانه، فلا يتكلم فيما لا يعنيه، فعن زيد بن اسلم قال: دخل علي ابي دجانة وهو مريض وكان وجهه يتهلل، فقيل مالوجهك يتهلل؟ فقال ما من عملي شيئ أوسق عندي من اثنين، أما أحدهما فكنت لا أتكلم في ما لا يعنيني وأما الآخر فكان قلبي للمسلمين سليما
>[14] .
7- خبيب بن عدي.. أول شهيد سن صلاة ركعتين بين يدي القتل
وهذا
خبيب بن عدي بن مالك ، شهدا أحدا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان فيمن بعثه مع بني لحيان، فأسروه هو
وزيد بن الدثنة ، فباعوهما من
قريش ، فقتلوهما، وصلبوهما
بمكة ، بالتنعيم. ولما خرجوا به من الحرم، ليقتلوه في الحل، قال لهم خبيب: دعوني أصلي ركعتين، فتركوه، فركع ركعتين، " وقال: والله لولا أن تحسبوا أن ما بي من جزع، لزدت: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا " .
[ ص: 82 ] وقال:
ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يبارك على أوصال شلو ممزع
وكان
خبيب ، هو الذي سن هذه الصلاة لكل مسلم، ويستبشر بلقاء الله عز وجل ، فيصلى بين يدي تقديمه للقتل، رحمه الله، وأحسن لقاءه
>[15]