نماذج من مجاهدي التابعين لهم بإحسان
1- صله بن أشيم العدوي.. شهيد من أهل الذكر والذاكرين
وهذا نموذج لرجل من التابعين، وهو
صلة بن أشيم العدوي ، من كبار التابعين، من أهل البصرة، وكان ذا فضل وورع، وعبادة، وزهد، كان يصلي ما يستطيع أن يأتي الفراش إلا حبوا، وله مناقب كثيرة جدا. وكان يكثر من صلاة الليل في الغزوات، التي يشارك فيها، مقاتلا مع الجيش، وقال رجل لصله: ادع الله لي.. فقال: ( رغبك الله فيما يبقى، وزهدك فيما يفنى، ورزقك اليقين، الذي لا يرجى إلا إليه، ولا يعول في الدين إلا عليه) .
وكان صله في غزاة، ومعه ابنه، فقال: أي بني، تقدم فقاتل، أحتسبك.. فحمل فقاتل حتى قتل، ثم قاتل صله، حتى قتل.
[ ص: 83 ]
واجتمع النساء عند امرأته، معاذة العدوية، فقالت: إن كنتن لتهنيئنني، فمرحبا بكن، وإن جئتن لتعزينني، فارجعن
>[1] 2- عبدالله بن المبارك.. فقيه محدث، من أهل الذكر والجهاد
وهذا
عبدالله بن المبارك ، أحد أئمة المسلمين، أدرك جماعة من التابعين، وروى عن كبار الأئمة، رجل جمع الله له بين العلم الغزير، والعمل الوفير، والإحسان الجزيل، والجهاد المتصل، فكلما سمع صيحة، لبى النداء، وهو مع ذلك كثير النفع لعباد الله، بعلمه، وماله، ويعتني في ذلك بأهل العلم، ورفقة الحج، ويجتهد في إدخال السرور على المسلمين.
وابن المبارك، كثير الخشية، والمراقبة لله عز وجل ، فإذا أدرك محل استجابة الدعاء، سأل الله أن ينجيه من ظمأ يوم القيامة.. وفي هذا المعنى، يقول سويد بن سعيد:
رأيت عبدالله بن المبارك بمكة، أتى زمزم، فاستقى منها، ثم استقبل الكعبة، فقال: اللهم إن ابن أبي الموالي، حدثنا عن محمد بن المنكدر، عن جابر،
( عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ماء زمزم لما شرب له ) >[2] وهذا أشربه لعطش القيامة. ثم شربه.
ثم إن أطيب الناس عيشا، وأسعدهم حالا، من كان عارفا بالله، وفي ذلك يقول ابن المبارك: أهل الدنيا خرجوا من الدنيا، قبل أن يتطعموا أطيب ما فيها. قيل له: وما أطيب ما فيها؟ قال: المعرفة بالله عز وجل .
[ ص: 84 ]
وعن القاسم بن محمد، قال: كنا نسافر مع ابن المبارك، فكثيرا ما كان يخطر ببالي، فأقول في نفسي: بأي شيء فضل هذا الرجل علينا، حتى اشتهر في الناس، هذه الشهرة؟
لئن كان يصلى، إنا لنصلي، ولئن كان يصوم، إنا لنصوم، وإن كان يغزو، فإنا لنغزو، وإن كان يحج، إنا لنحج ! قال: فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام، ليلة نتعشى في بيت، إذ طفيء السراج، فقام بعضنا، فأخذ السراج، وخرج يستصبح، فمكث هنيهة، ثم جاء بالسراج، فنظرت إلى وجه ابن المبارك، ولحيته قد ابتلت من الدموع. فقلت في نفسي: بهذه الخشية، فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج، فصار إلى الظلمة، ذكر القيامة.
ولقد كان
عبدالله بن المبارك ، القدوة في الزهد، والقيام، والذكر.. كان كذلك الإمام المجاهد، بلسانه، وسنانه، حتى اصبح مثلا يحتذى، وقدوة للمجاهدين ... وهو الذي يرسل لصاحبه وأخيه
الفضيل بن عياض ، من ساحات الشهادة، هذه الأبيات، كما رواها
الإمام الذهبي في السير، قال: روى عبدالله بن محمد، قاضي نصيبين، ثنا محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة، قال أملى علي ابن المبارك سنة سبع وسبعين ومئة، وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض، من
طرسوس :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب جيده بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل
فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا
رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا
قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي وغبار خيل الله في
أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا
ليس الشهيد بميت لا يكذب
[ ص: 85 ]
قال: فلقيت الفضيل بكتابه في الحرم، فقرأه، وبكى، ثم قال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح
>[3]
لقد ظل
ابن المبارك طيلة حياته، يحج عاما، ويغزو عاما، حتى توفي في (هيت) من نواحي
العراق ، وهو منصرف من الغزو، سنة إحدى وثمانين ومائة، وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وعن
محمد بن فضيل بن عياض ، قال: رأيت
عبد الله بن المبارك في المنام، فقلت: أي الأعمال وجدت أفضل ؟ قال: الأمر الذي كنت فيه. قلت: الرباط والجهاد ؟ قال: نعم. فقلت: فأي شيء صنع ربك ؟ قال: غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة، وكلمتني امرأة من أهل الجنة، أو امرأة من الحور العين
>[4] وكما كان عبدالله بن المبارك رحمه الله، العالم الذي يذكرك الآخرة برؤيته، كذلك هو بعد مماته.. فهذا أحد الصالحين، يمر على قبر عبدالله بن المبارك، فيتذكر سيرته الزكية في العبادة، وفي الجهاد، فأنشأ يقول:
مررت بقبر ابن المبارك غدوة فأوسعني وعظا وليس بناطق
وقد كنت بالعلم الذي في جوانحي غنيا وبالشيب الذي في مفارقي
ولكن أرى الذكرى تنبه عاقلا إذا هي جاءت من رجال الحقائق >[5]
[ ص: 86 ] 3- إبراهيم بن أدهم.. الزاهد الأواه، يركب البحر غازيا في سبيل الله.
وهذا
إبراهيم بن أدهم ، ويكنى أبا إسحاق، ورى عن جماعة من التابعين.. نشأ في بيت شرف، وعز، ومال، وانصرف عنه إلي العبادة، والزهد، وانشرح صدره بما آتاه الله من فضله، وما ذاقه من لذة العبودية لله، والافتقار إليه، حتى قال: لو علم الملوك، وأبناء الملوك، وما نحن فيه من النعيم، والسرور، لجالدونا عليه بالسيوف، أيام الحياة.
إن هذا النعيم، يدركه أهل الذكر والجهاد، ومراقبة المولى عز وجل ، وهكذا كان إبراهيم بن أدهم، فعن
محمد بن الحسين ، قال: ما انتبهت من الليل، إلا أصبت إبراهيم بن أدهم يذكر الله، فأغتم، ثم أتعزى بهذه الآية:
( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) (المائدة: 54) .
وعن
عبد الملك بن سعد الدمشقي ، قال: سمعت
إبراهيم بن أدهم يقول: أعربنا الكلام فما نلحن، ولحنا في الأعمال فما نعرب.
وكان مستجاب الدعوة، حتى إنه ركب البحر، غازيا في سبيل الله، عصفت بهم ريح شديدة، فأشرفوا على الهلاك، فدعا ربه: (اللهم أريتنا قدرتك، فأرنا عفوك) ، فسكن البحر، وصار كأنه قدح زيت.
وهكذا ظل إبراهيم بن أدهم، بين الذكر والجهاد، حتى قال عشية موته:
أوتروا لي قوسي، فأوتروه، فقبض عليه، فمات، وهو قابض عليه، يريد الرمي على العدو
>[6] وحسبنا ما قدمنا من سيرة هؤلاء العشرة، وقد أكثرنا من ذكر الصحابة، لأنهم النماذج العملية في حسن التأسي، والاقتداء، بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ورضي الله عن الصحابة الكرام
[ ص: 87 ] الذين رضي الله عنهم ، ورضوا عنه:
( فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) (الأعراف: 157) .
وجزى الله خيرا من اتبعهم بإحسان:
( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ) (الحشر: 109) .
وكلهم يتسابق في التحقق بصفات الرجال المؤمنين، الصادقين، المجاهدين، والثابتين على الحق:
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) (الأحزاب: 23) .
الحركات الإسلامية المعاصرة.. تحاول الجمع بين الذكر والجهاد
وهكذا كانت حركات الجهاد، والتحرر من الاستعمار، في بلادنا العربية، والإسلامية، فقد ظلت ساحات الجهاد، مجالا لسياحة أهل الذكر، في أرجاء العالم الإسلامي.. وقد لا نحتاج إلى التفضيل، فكتائب الجهاد الإسلامية، لا يمكن أن تغمر أو تطمس، في
السودان ،
والجزائر ،
وفلسطين ، وسائر بلاد المسلمين.
وساحات الجهاد القائمة اليوم في عالمنا الإسلامي، لجنودها، في كل ركن أذان، وإقامة، وصلاة، وقيام ليل، وتهجد، وصيام، وتلاوة جماعية للقرآن، والتزام للذكر كثيرا، حتى أضاءت وجوه الذاكرين، فهي ناضرة بذكر الله، متعلقة بالفراديس العلى، وتتصل الأنوار من قبور شهدائها، بالسماء، ويفوح المسك من دم الشهداء، ويعظم الاحتمال والصبر، عند جرحى العلميات، ويكثر الذكر والتسبيح، من الممسكين بالزناد، في خط النار، وكلهم يتسابقون حول غايتهم في صدق ووفاء:
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) (الأحزاب: 23) .
[ ص: 88 ]
وأهل الذكر يجتهدون، حتى تنشرح صدورهم، وتطمئن قلوبهم بذكر الله:
( ألا بذكر الله تطمئن القلوب *
الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ) (الرعد: 28-29) .
وأهل الذكر، في جهاد متصل الحلقات، في صلاة، وركوع، وسجود، وفعل الخير، وعبادة لله، وطاعة مع جهاد للعدو، وامتثال لجميع ما أمر الله به، وانتهاء عن كل ما نهى الله عنه، وجهاد في الطاعة، ورد النفس عن الهوى، وجهاد في رد وساوس الشيطان، ومدافعة لأهل الظلم والكفر
>[7] وذلك كله امتثالا لأمر الله جل جلاله :
( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون *
وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ) (الحج: 77-78) . وقد يبلغون درجة الحبور، بذكر الله، حتى يعبر بعضهم عن هذه الحالة، فيقول: (إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها، لا يدخل جنة الآخرة)
>[8] وإنها لمجاهدة متصلة، وتزكية للنفس، لبلوغ درجة الإحسان في العبادة:
( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك ) >[9] وصدق الله العظيم، القائل في محكم تنزيله:
( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) (العنكبوت: 69) .
[ ص: 89 ]