ثانيا: معاني القنوت في القرآن الكريم
لقد جاء ذكر القنوت، في القرآن الكريم، في ثمان سور، في اثني عشر موضعا، وثلاثه مواضع منهن مكية، في النحل، والروم، والزمر، وبقيتهن مدنيات، في سور: البقرة، وآل عمران، والنساء، والتحريم، والأحزاب.
تدور معاني القنوت في هذه المواضع، على الطاعة، والاستجابة، والاستكانة، والخضوع، والخشوع، والإقرار بالعبودية، ثم تأتي بمعنى الطاعة عامة، والطاعة لله عز وجل ، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، والطاعة في سكون، والطاعة في خشوع، والخشوع في الصلاة، وطول الركوع في الصلاة.
وعليه، فالقانت هو الخاشع، المطيع لله ورسوله، العابد، الراكع، المستكين له، الخاضع لأمره، الخاشع في صلاته، الذي يطيل في صلاته، وركوعه.
والقنوت مرتبة عالية، لأنه يذكر بعد الإسلام، والإيمان، ولهذا فالإسلام بعده مرتبة يرتقى إليها، وهو الإيمان، ثم القنوت ناشيء عنهما.
وهذا بيان تفصيلي، للمواضع التي جاء فيها لفظ القنوت، مع تفسير موجز لمعنى القنوت، في كل موضع، مع تصنيف الآيات موضوعيا:
الكون كله قانت لله
( وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ) (البقرة: 116) ،
( وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ) (الروم: 26) . ومعنى (قانتون) في الموضعين: أي مقرون بالعبودية، مطيعون، خاشعون لله خاضعون.
[ ص: 95 ] القنوت صفة الأنبياء
كما جاء في ذلك في وصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام :
( إن إبراهيم كان أمة قانتا ) (النحل: 120) ، وقانتا هنا، تعني: الخاشع، المطيع.
فضل القانتين وأهل القيام والتهجد
( أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ) (الزمر: 9) . وكلمة قانت هنا، تعني: الخشوع في الصلاة، والتهجد.
( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ) (البقرة: 238) .
الأمر بالقنوت خطابا لمريم عليها السلام
( يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) (آل عمران: 43) . والقنوت هنا، بمعنى: طول الركوع في الصلاة، امتثالا لأمر الله تعالى. وفي خطاب القرآن لأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن:
( ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما ) (الأحزاب: 31) .
أي: تطع الله، ورسوله، وتستجيب.
ثم جاء في ذكر القنوت، على أنه صفة ملازمة، للمؤمنين، والمؤمنات:
( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات ) (الأحزاب: 35) . أي: المطعين، والمطيعات، في سكون.
[ ص: 96 ] ( الصابرين والصادقين والقانتين ) (آل عمران: 17) ، أي: الطائعين، الخاضعين.
( فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله ) (النساء: 34) ، أي: مطيعات لأزواجهن.
( مسلمات مؤمنات قانتات ) (التحريم: 5) ، مطيعات.
( وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) (التحريم: 12) ، أي: من المطيعات.
ثالثا: المعنى الاصطلاحي للقنوت
وقد ذهب
ابن حجر العسقلاني إلى أن القنوت يطلق على معان، والمراد به هنا الدعاء في الصلاة، في محل مخصوص من القيام
>[1]
ومع أن المراد بالقنوت هنا، هو الدعاء في الصلاة، فإن هذا المعنى، يجمع المعاني الأخرى المرادة من القنوت، لأنه دعاء، في قيام، في صلاة، لا كلام فيها، إلا ذكر الله، في طاعة لله، وعبادة خالصة، خاشعة، وإقرار بالعبودية.
رابعا: مشروعية القنوت، وخاصة قنوت النوازل، وضرورته في عصرنا هذا
والقنوت سنة نبوية، وخاصة عند النوازل الكثيرة، التي تحل بالأمة المسلمة، وهي تواجه الحرب، والحصار، والمقاطعة، والكيد، واستبداد قوى الطغيان، والاستكبار، من
[ ص: 97 ] أعداء الله الظاهرين، والمستترين، ولا بد من بيان المقصود من النوازل، التي يشرع عندها القنوت.
النوازل في حياة المسلمين
ومن يتأمل اليوم في حال المسلمين، ويهتم بأمرهم، ويتابع أخبارهم، ويسعى مع العاملين لإقامة الدين، يجد من النوازل ما يدعو المسلمين لدعاء القنوت، وهذا بيان ذلك:
(أ) حال المسلمين:
1- أغلبية، مغلوبة وأكثريات مقهورة.. وأقليات مهضومة.
2- العرب والمسلمون، مختلفون فيما بينهم، وبعضهم تبع للأجنبي، تماما كما كان الغساسنة والمناذرة.. أو كما كان في اليرموك، يقاتل الروم المسلمين، بعدد مساو لهم من العرب تبعا..
3-
بيت المقدس في أيدي
اليهود ، وأهل فلسطين مشردون، حرموا الأمن، حتى إنهم ليقتلون في مساجدهم.
4- المسلمون مستضعفون حيثما كانوا.. وقد اجتمعت كلمة الكفر على حربهم، واستلاب خيراتهم، وتداعت عليهم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، مخافة أن تعود دولة الإسلام، وتنتشر دعوته في العالمين، وتسود حضارته، وتزدهر على ضفاف النيل، والرافدين، والبحر الأحمر، والبحر الأبيض، والبحر الأسود، والقرن الأفريقي، وقلب أفريقيا، فضلا عن
أوروبا ،
وأمريكا .
والمسلمون في
البوسنة والهرسك ، أستبيحت نساؤهم، وشرد أطفالهم، وقتلوا تقتيلا، على مرأى ومسمع من دول العالم. بل تآمرت دول الغرب، المدعين المسيحية، حتى تتم تصفيتهم، جسديا وعرقيا، واستولى أعداء من الصرب والكروات، على معظم أراضيهم، ومنعهم مجلس الأمن الدولي، بقرار ظالم، من التسلح، ثم منع المسلمون من مساعدتهم،
[ ص: 98 ] وأتيحت الفرصة لأعداهم الصرب والكروات، للقضاء عليهم نهائيا، حتى لا تقوم للإسلام قائمة في قلب أوروبا:
( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ) (الصف: 8) .
ثم كانت كارثة الشيشان، التي مكر فيها أعداء الله الروس بالمسلمين
الشيشان ، وسكت الغرب، وتآمرت جمعياته، المنسوبة للعفو، وحقوق الإنسان، وتواطأوا جميعا، ومكروا مكرا كبارا، في محاولة منهم لتدمير تلك القوة الإسلامية، فأخلوا الطريق للروس، ليقوموا بتنفيذ خططهم في تدمير المباني والمعاني، وليس بالمسلمين اليوم، حيلة لنصرة إخوانهم، بل قد حيل بينهم وبين إخوانهم، بشتى العوائق، ومكر الليل والنهار. وما للمسلمين والحالة هذه، إلا أن يضرعوا إلى الله، قانتين في صلواتهم، ومناجاتهم لربهم، أسوة بنبينا صلى الله عليه وسلم .
والقنوت سبيلنا، لنصرة إخواننا المستضعفين، نصرهم الله، وأعلى لواءهم، وقهر أعداءهم.
5- المسلمون ممنوعون عن إقامة دينهم، والقيام بمقتضيات توحيد الله، والاتساق مع أنفسهم، في إقامة شعائر الله، وشرائعه:
(أ) في النظم التربوية، والتعليمية، والثقافية، والإعلامية، تبعا وتقليدا للغرب، وتراثه الوثني، والمادي.
(ب) وشرع الله معطل، في المعاملات المالية.. فالربا المحرم، تقوم عليه مؤسسات، والغش، والغرر، والبيوع الفاسدة، تسود المعاملات المعاصرة.
(ج) والقوانين الجنائية، مستمدة من القوانين الوضعية، ذوات الأصول المادية، والمجوسية، والوثنية.
[ ص: 99 ]
(د) وحدود الله معطلة.. ورغم مطالب المسلمين، فإن مؤسساتهم التشريعية مقهورة، بالعلمانية، والتدخلات الخارجية، حتى لا يتميز المسلمون في قوانينهم.
وليشوهوا صورة النظام الإسلامي، ويشوشوا عليه، يفترون على الله الكذب، ويقولون على الله مالا يعلمون، ويصفون الشريعة العادلة بما هي منه براء.
(ب) أهل الكفر مع المسلمين:
1- الكفار في تطاول، واستكبار، واستبداد، على خلق الله، واستضعاف، واستصغار، واستذلال للمسلمين..
2- جيوش الكفار، تعيث في الأرض الفساد..
3- وصنائعهم، وجيوبهم، مؤتمرة، تحارب بالسلاح جنود الرحمن..
4- ومن خلع رقبة الكفر عن عنقه، وطرح قوانينه، ونظمه، وعاد إلى الله، متوكلا عليه، دارت عليه دوائر البغي، ومكروا عليه مكرا كبارا، وزوروا عليه، وافتروا الكذب، مستخدمين سيطرتهم على المؤسسات الدولية، والسياسية، والأمنية، والمالية، ومتخذين ستائر الرحمة، والإغاثة، والعدل، وحقوق الإنسان، لفرض الحصار الظالم، والمقاطعة الجائرة.
إن الظلم ظلمات يوم القيامة، وعلى المفترين الظلمة، خزي، وندامة.. ودعوة المظلوم، ليس بينها وبين الله حجاب.
وعلى دعاة الحق، أن يوجهوا عداءهم، وبغضهم، إلى هؤلاء الأعداء، ثم إن على الدعاة إلى الله، أن يكونوا مخلصين لله، في القنوت، والدعاء، أن يتولاهم بالتأييد، والتمكين لدينه، وينصرهم على عدوهم.
[ ص: 100 ]