المبحث الثالث :
تطور المنهج التربوي النبوي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم
لقد اضطلع الصحابة، رضوان الله عليهم، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، بالمسئولية التربوية، التي كلفهم بها في حياته عليه الصلاة والسلام ، واستمروا في تنزيل المضمون التوحيدي للتربية في الإطار التعليمي على العموم مع مراعاة الأهداف والوسائل الأرقمية والمنبرية، هـنا أو هـناك فهم أئمة الأمصار وخطباء المساجد، والمربون للعموم والخصوص، وللصالح والطالح قال
الحسن البصري التابعي: (أدركنا الصدر الأول، يعلمون صغيرنا وكبيرنا،برنا وفاجرنا، وصالحنا وطالحنا، ونحن نريد أن نؤديه كذلك)
>[1] فهو إذن منهج تعليمي عام، يبد أنا نجد بعضهم يخص بعض الشباب، من فضلاء التابعين، بتربية أرقمية خاصة، فقد سبق عن
أبي وائل شقيق ابن سلمة، قال:
( كان ابن مسعود رضي الله عنه ، يذكرنا في كل خميس مرة فقال رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، فقال : أما إنه يمنعني من ذلك، أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا ) >[2] [ ص: 113 ]
وهذه طريقة أرقمية، تعتمد التكوين المتدرج، عبر الجلسة المنحصرة وقتا وعددا، لتخريج الطاقات القيادية خاصة وقد استمر المنهج التربوي، بمضمون التوحيد، سواء بالصورة الأرقمية، أو المنبرية، أو التعليمية، زهاء ثلاثة قرون، كان خلالها هـو المنهج المنتشر، والمعتمد أساسا في تربية الأجيال، قيادات، وجنودا.. وخلال القرن الثالث الهجري، بدأت مظاهر الانتقاص التربوي، في المنهج التوحيدي، من خلال ما صار يتكون من مناهج وساطية، نظرا لدخول الثقافات الأجنبية، التي بدأت تزاحم المصدرية القرآنية والحديثية، في تشكيل عقل الأمة، غير أنه لم يستتب لها الأمر إلا في القرن الرابع الهجري، حيث كثر الإقبال على الوساطات الفكرية،والروحية،على سواء.. هـذا المعنى،يشير إليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، الذي قال فيه:
( خير الناس، القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث ) >[3] وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام ، في سماع المنهج:
( تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم ) >[4] ، وهذا ما سنبينه بحول الله مفصلا.
أما الصحابة فقد قادوا حملة التعليم التي بدأوها في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال
الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان : (جرت عادة الرسول صلى الله عليه وسلم
[ ص: 114 ] والخلفاء الراشدين من بعده، على إرسال الفقهاء والقراء إلى البلاد المفتوحة، ليفقهوا أهلها في الدين،فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض علماء الصحابة، وفقهائهم إلى
اليمن ،
والبحرين ، وإلى
مكة بعد فتحها.. كما بعث
عمر بن الخطاب ،
معاذ بن جبل إلى
الشام ، وكان ضنينا به،حريصا على بقائه
بالمدنية )
>[5] .
وقد ازدهرت عملية إرسال فقهاء الصحابة إلى الأقطار،في عهد
عمر خاصة، وذلك نظرا لدخول شعوب، ومناطق جديدة في الإسلام،بعد عملية الفتح، التي بدأت تتسع في عهده، رضي الله عنه ، ولذلك قال
ابن حزم الأندلسي : ( فلما ولي
عمر رضي الله عنه ، فتحت الأمصار، وزاد تفرق الصحابة في الأقطار)
>[6] ، حتى إنه كان (للأمصار الإسلامية، فقهاؤها، وعلماؤها المعروفون، يفتون ويعلمون، فعرف كل مصر بفقيهه، أو فقهائه من الصحابة)
>[7] ، وقد كان لهم الدور الأكبر، في تكوين العلماء والأئمة، من قيادات التابعين
>[8] ، وكان الصحابة يرون العلم شرطا في الإمامة السياسية، والتربوية،على السواء.
" قال
عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : تفقهوا قبل أن تسودوا "
>[9] .
[ ص: 115 ] " ومر
علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه بقاص،أي واعظ، فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هـلكت وأهلكت "
>[10] .
. وكان التعليم الذي قام به الصحابة، ذا مضمون تربوي مقصود، ينطلق من القرآن والسنة أساسا، فقد " كان أول ما قاله
أبو موسى الأشعري للبصريين حين قدم إليهم: إن أمير المؤمنين
عمر بعثني إليكم، أعلمكم كتاب ربكم عز وجل ، وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وأنظف لكم طرقكم "
>[11] " ويصف لنا التابعي الجليل،
أبو رجاء العطاردي ، طريقة ذلك، وكيفية تنظيم
أبي موسى ، رضي الله عنه ، للجلسات القرآنية قال: كان أبو موسى الأشعري يطوف علينا، في هـذا المسجد، مسجد البصرة، يعقد حلقا، فكأني أنظر إليه بين بردين أبيضين، يقرئني القرآن "
>[12] ، حتى إذا تخرج على يديه، رضي الله عنه جمع كبير من أعلام التابعين، جمعهم ليعظهم، ويعلمهم كيف يتعاملون مع القرآن.
فقد أخرج
أبو نعيم بسنده " عن
أبي كنانة ، أن أبا موسى: جمع الذين قرءوا القرآن، فإذا هم قريب من ثلاثمائة! فعظم القرآن، وقال: إن هـذا القرآن كائن لكم أجرا، وكائن عليكم وزرا، فاتبعوا القرآن، ولا يتبعنكم القرآن.. فإنه من اتبع القرآن، هـبط به على رياض الجنة، ومن تبعه القرآن زخ في قفاه فقذفه في النار! "
>[13] ،
[ ص: 116 ] وإنما كانت قراءتهم القرآن، حفظا ومدارسة، للتكوين، والتربية، والتفقه، وكان ذلك عندهم ضربا من التعبد المحض، فقد نقل " عن
ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قوله: الدراسة صلاة "
>[14] .
وقد تخرج على هـذا المنهج النبوي، جيل من فضلاء التابعين، برزت منهم جملة من القيادات العلمية، وفي طليعتهم بالمدينة المنورة: الفقهاء السبعة، وهم:
سعيد ابن المسيب ،
وعروة بن الزبير ،
والقاسم بن محمد ،
وخارجة بن زيد ،
وأبو بكر بن عبد الرحمن ،
وسليمان بن يسار ،
وعبيد الله بن عبد الله .
وكان منهم بالكوفة :
علقمة بن قيس النخغي ،
والأسود بن يزيد النخغي ،
وعمرو بن شرحبيل الهمذاني ،
وشريح بن الحارث القاضي ، وغيرهم كثير
>[15] كما كان منهم بالبصرة، علماء مربون مثل:
الحسن البصري ،
وأبو قلابة الجرمي ،
وأبو العالية الرياحي ، وغيرهم
>[16] .
[ ص: 117 ]
وفي كل الأمصار الإسلامية الأخرى كاليمن، وفارس، ومصر وغيرها، كان هـناك علماء تابعون، حملوا راية التعليم، والتربية،بقواعد وأصول المنهج النبوي التوحيدي. وقد أشرت إلى أن مصطلح العلم، في عهد الصحابة،إنما كان يطلق على النصوص الشرعية فحسب،وكذلك بقي بهذا المعنى في عهد التابعين وأتباعهم، ولو أنه بدأت في أواخر هـذه المرحلة تتبلور المعاني الجديدة للمصطلح، المتعلقة بالمصطلحات العلمية، والقواعد، والمناهج، لهذا العلم أو ذلك " فعن
ابن جريج قال: سألت
عطاء عن رجل غريب،قدم في غير أشهر الحج معتمرا، ثم بدا له أن يحج في أشهر الحج، أيكون متمتعا؟ قال: لا يكون متمتعا حتى يأتي من ميقاته في أشهر الحج.. قلت: أرأي أم علم ؟ قال: بل علم "
>[17] .
وعن
بقية بن الوليد ، قال: قال لي
الأوزاعي : يا بقية : العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وما لم يجئ عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فليس بعلم
>[18] .
وقال
أبو عمر بن عبد البر ، معلقا على هـذين النصين، ونصوص أخرى مثلها: (ولا أعلم بين متقدمي هـذه الأمة وسلفها خلافا، أن الرأي ليس بعلم حقيقة.. وأفضل ما روي عنهم في الرأي، أنهم قالوا: نعم وزير العلم، الرأي الحسن)
>[19] .
[ ص: 118 ]
والمقصود من ذلك، التأكيد أن العلم المعتمد للتربية، لدى التابعين وأتباعهم، إنما هـو النصوص الشرعية أساسا.. فيتبين أن المنهج التوحيدي النبوي، هو الذي بقي ساريا طوال هـذه الفترة. فما كان التابعون وأتباعهم يرضون عن كتاب الله، وسنة نبيه بديلا، كمادة وحيدة للتربية.
قال
الحسن البصري ، رحمه الله: (إن المؤمنين شهود الله في الأرض، يعرضون أعمال بني آدم، على كتاب الله، فمن وافق كتاب الله حمد الله عليه، ومن خالف كتاب الله، عرفوا أنه مخالف لكتاب الله، وعرفوا بالقرآن ضلالة من ضل من الخلق)
>[20] .
وقال
أبو العالية الرياحي : ( تعلموا القرآن، فإذا تعلمتموه، فلا ترغبوا عنه، إياكم وهذه الأهواء، فإنها توقع بينكم العداوة والبغضاء)
>[21] .
ويتحدث
أبو قلابة الجرمي ، رحمه الله بإشارة لطيفة إلى الأثر التربوي، الذي يتركه الحديث النبوي على طالبه، وما يتعلق به منه، من خلق وتدين، منتقدا طريقة القصاص من الوعاظ، الذين يحدثون من خيالاتهم.. قال رحمه الله: (ما أمات العلم إلا القصاص،يجالس الرجل القاص سنة، فلا يتعلق منه بشيء، ويجلس إلى العلم، فلا يقوم حتى يتعلق منه بشيء)
>[22] .
[ ص: 119 ]
ومن هـنا كان حرص التابعين، ومن تبعهم، على تخليص مصادر التربية والتعليم، من كل ما سوى كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكانت المدرسة الحديثية، في تلك المرحلة، هي المدرسة الأقرب إلى المنهاج التربوي. حيث كانت لها جلسات أرقمية راقية، وكان الحديث النبوي، كما ذكرنا، هـو علم المرحلة، تعلما، وتعليما، ومدارسة، فقد كان
عبد الرحمن بن مهدي ، المتوفى سنة 198هـ يعقد جلسات العلم، في جو تعبدي وقور، كأن أوله تحريم، وآخره تسليم، قال
أحمد بن سنان : ( كان لا يتحدث في مجلس عبد الرحمن، ولا يبرى قلم، ولا يبتسم أحد، ولا يقوم أحد قائما، كأن على رءوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة، فإذا رأى أحدا منهم تبسم، أو تحدث، لبس نعليه وخرج)
>[23] .
وكانوا يختمون جلساتهم العلمية بالدعاء، وقد فعل ذلك
الحسن البصري ،
ويونس بن عبيد ،
وقتادة بن دعامة السدوسي >[24] .
وعن القصد التربوي، تكلم
الحسن البصري ، في علم الحديث، فقال: ( لقد طلب أقوام هـذا العلم، ما أردوا به الله وما عنده، فما زال بهم حتى أرادوا به الله وما عنده)
>[25] .
[ ص: 120 ]
وقال
سفيان الثوري : ( كنا نطلب العلم للدنيا، فجرنا إلى الآخرة)
>[26] .
وعن
معمر قال : ( إن الرجل ليطلب العلم لغير الله، فيأبى عليه العلم، حتى يكون لله)
>[27] .
ولذلك فقد كان طلب الحديث عندهم، طلبا لتطبيقه أيضا، قال
أيوب السختياني، المتوفى 131هـ : (قال لي
أبو قلابة (وهو تابعي توفي سنة: 104هـ) إذا أحدث الله لك علما، فأحدث له عبادة، ولا يكن هـمك أن تحدث به)
>[28] .
(وصلى رجل ممن يكتب الحديث، بجنب
ابن مهدي ، فلم يرفع يديه، فلما سلم، قال له: ألم تكتب عن
ابن عيينة ، حديث
الزهري ، عن
سالم عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يرفع يديه في كل تكبيرة؟ قال: نعم، قال: فماذا تقول لربك، إذا لقيك، في تركك لهذا، وعدم استعماله؟)
>[29] .
وعن
بشر بن الحارث ، أنه قال : ( يا أصحاب، أتؤدون زكاة الحديث ؟ فقيل له: يا أبا نصر، وللحديث زكاة ؟! قال : نعم، إذا سمعتم الحديث، فما كان فيه من عمل، أو صلاة، أو تسبيح، استعملوه)
>[30] .
[ ص: 121 ]
وقال
الحسن البصري : (كان طالب العلم، يرى ذلك في سمعه، وبصره، وتخشعه)
>[31] ومعلوم أنه كان يشترط في الراوي، ليقبل حديثه، أن يكون عدلا، ضابطا.. والعدالة والضبط، مفهومان إسلاميان، يكونان كمال الشخصية المسلمة، وهما مأخوذان من مصطلحي القوة، والأمانة، المذكورين في قوله تعالى:
( إن خير من استأجرت القوي الأمين ) ( القصص: 26) .
ومن هـنا كان المحدثون، يسعون إلى اكتساب الصفات التربوية، التي تؤهلهم لرواية الحديث، فقد قال
أبو العالية الرياحي المتوفى سنة90 هـ: ( أرحل إلى الرجل مسيرة أيام، فأول ما أتفقده من أمره، صلاته. فإن وجدته يقيمها، ويتمها، أقمت، وسمعت منه، وإن وجدته يضيعها رجعت، ولم أسمع منه، وقلت: هـو لغير الصلاة أضيع)
>[32] .
وقال
أبو عاصم النبيل ، المتوفى سنة 212هـ : (من طلب هـذا الحديث، فقد طلب أعلى أمور الدين، فيجب أن يكون خير الناس)
>[33] .
وقال
سفيان بن عيينة ، وهو من أتباع التابعين: (من طلب الحديث، فقد بايع الله)
>[34] .
[ ص: 122 ]
هذا، وقد كان التابعون وأتباعهم، ماضين على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، في التقليل من مادة الجلسة التربوية، حتى يؤتي العلم أكله التربوي، فمن ذلك مثلا، ما كان يوصي به
أبو العالية الرياحي أصحابه، قائلا : (تعلموا القرآن خمس آيات، فإنه أحفظ لكم، فإن جبريل كان ينزل به خمس آيات، خمس آيات)
>[35] .
وعن خالد الحذاء، قال: (كنا نأتي أبا قلابة (الجرمي) ، فإذا حدثنا بثلاثة أحاديث، قال: قد أكثرت)
>[36] .
وهكذا، ففي هـذه الفترة بدأ يتبلور رسم علم الحديث، مصطلحا ونقدا، ولكنه مع ذلك، ظل يحمل ذلك المضمون التربوي، الذي نشأ على أساسه.. فقد قيل
لشعبة ابن الحجاج ، المتوفى سنة 160 هـ: ( يا أبا بسطام، كيف تركت علم الرجال، وفضحتهم، فلو كففت؟ فقال؟ أجلوني، حتى أنظر الليلة، فيما بيني وبين خالقي، هـل يسعني ذلك؟ فلما كان الغد، خرج على حمير له، فقال : قد نظرت فيما بيني وبين خالقي، فلا يسعني دون أن أبين أمورهم للناس وللإسلام)
>[37] .
[ ص: 123 ]
ولذلك قيل : ( كلام
شعبة في الرجال، حسبة يتدين به )
>[38] ..
وشعبة أمير المؤمنين في الحديث، على اصطلاح المحدثين، قال فيه
ابن حجر العسقلاني : (ثقة، حافظ، متقن.. كان
الثوري يقول: هـو أمير المؤمنين في الحديث، وهو أول من فتش بالعراق عن الرجال، وذب عن السنة، وكان عابدا )
>[39] .. فالنقد الحديثي، لديه إذن، لم يكن إلا تعبدا، وتربية لغيره، في نفس الوقت، فقد اشتهرت عنه عبارة : (الاغتياب في الله ) ، كناية عن النقد، حيث يعقد لذلك جلسة، كأنه يؤمن فيها ساعة، فاقرأ ما ذكره
أبو نعيم ، رحمه الله، عنه قائلا : ( كان شعبة يأتي
عمران بن جدير ، فيقول: تعال يا عمران، نغتاب في الله ساعة نذكر مساوئ أصحاب الحديث)
>[40] .
ويراوح في جلساته العلمية، بين التحديث، والنقد، فتكون جلسته هـذه، كجلسته تلك، لا تخلوا من معنى التعبد.
قال
أبو زيد الأنصاري النحوي : ( أتينا
شعبة يوم مطر، فقال : ليس هـذا يوم حديث، اليوم يوم غيبة، تعالوا حتى نغتاب الكذابين )
>[41] ، وقد اشتهر قوله: (تعالوا حتى نغتاب في الله)
>[42] ، ويمر على قاص
[ ص: 124 ] يحدث كذبا، فيقول: (والله لولا أنه لا يحل لي أن أسكت عنه لسكت )
>[43] .
إن هـذه النصوص كلها، لتدل دلالة واضحة، على أن العلم بمفهومه في الصدر الأول للإسلام، كان طلبه، أو تدريسه، تربية.. فهو اجتماع، على مدارسة القرآن، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في جلسات يهيمن عليها الشعور التعبدي، إذ تربط القلوب، والعقول، بالمفاهيم الإسلامية، ارتباطا وثيقا، حتى تصير سلوكا حيا، في حياة العلماء والمتعلمين، على السواء. لقد كان العلم حينئذ، يخدم عدة أغراض : فهو وسيلة لنقل نصوص الدين، ووسيلة لتكوين المتدينين، ووسيلة لإنتاج الدعاة إلى التدين.. وقد استمر العلم على هـذه الحال، وسيلة تربوية، بالقصد الأول، كما كان في القرن الأول والثاني. وقد شهد القرن الثاني، والثالث، ميلاد المدارس الفقهية.
فأبو حنيفة النعمان ، توفي 150هـ،
والإمام الأوزاعي سنة 157،
والليث بن سعد سنة 175هـ
ومالك بن أنس سنة 179،
والشافعي سنة 204 هـ،،
وأحمد بن حنبل سنة 241هـ.
قال
الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان : ( وفي هـذه الفترة، بدأت تتحدد مدلولات العلوم الإسلامية، وتستقل بالتأليف.. فعلم العقيدة،
[ ص: 125 ] والتفسير، والحديث، والفقه، أصبح لكل منها، مدلول خاص، وموضوعات متميزة، عكس ما كان قبل ذلك. فعلم الفقه، كان يطلق على مجموع العلوم الشرعية، من حديث، وعقائد، وتفسير وأخلاق، وتصوف)
>[44] .
وقد حافظ الفقهاء مع ذلك على طريقة المحدثين الأوائل، من حيث ارتباطهم بالنصوص الشرعية أساسا، تعلما، وتعليما، ودراسة، واستنباطا، ومن حيث تركيزهم على المعنى التربوي في تدريس العلم، ومدارسته.. فقد كان
مالك بن أنس لا يجلس إلى طلبته بمجلس العلم، إلا وهو متوضئ
>[45] ..
ويصف
أبو نعيم رحمه الله، جلسته العلمية، بما يدل على بعدها التربوي، قائلا:
(كان
مالك إذا أراد أن يحدث، توضأ، وجلس على فراشه، وسرح لحيته، وتمكن في الجلوس بوقار وهيبة، ثم حدث. فقيل له في ذلك، فقال : أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحدث به إلا على طهارة، متمكنا، وكان يكره أن يحدث في الطريق، وهو قائم، أو مستعجل.. فقال: أحب أن أتفهم ما أحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم )
>[46] .
[ ص: 126 ]
كما قال في نفس السياق، متحدثا عما ينبغي أن يكون عليه المتعلم: (وحق على من طلب العلم، أن يكون له وقار، وسكينة، وخشية.. والعلم حسن، لمن رزق خيره... وذل وإهانة للعلم، أن يتكلم الرجل بالعلم عند من لا يطيعه )
>[47] ، أي يطيع العلم، منبها بذلك إلى أن على المتعلم، أن يعمل بما يسمع من علم، ويتعظ به، ويظهر أثره في تدينه، وخشوعه، وسكينته، مؤكدا بذلك القصد التعبدي للعلم، أي الحديث النبوي، باعتباره مادة للتربية، ولذلك قال لطالب قام عن المجلس ليتنفل : ( ما الذي قمت إليه، بأفضل من الذي كنت فيه، إذا صحت النية فيه)
>[48] .
وقال الإمام الشافعي : (لطلب الحديث، أفضل من الصلاة النافلة)
>[49] .هذا، وقد اشتهر ارتباط الفقهاء الأئمة، بالمصادر الأولى للإسلام مباشرة، كما اشتهر عن أغلبهم قولهم : ( إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو مذهبي) .
وكذا ما يروى عن
مالك بن أنس أنه قال : ( كل رجل يؤخذ من كلامه ويرد، إلا صاحب هـذا القبر) ، يعني الرسول صلى الله عليه وسلم .. وكذا قوله رحمه الله أيضا :
[ ص: 127 ] (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة، فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة، فاتركوه)
>[50] وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على توحيدية المنهج الفقهي، وعدم وساطيته، في تلك المرحلة، مرحلة الإنتاج، والإبداع، والتجديد.. فالنص الشرعي، هـو المصدر الوحيد للتلقي، وكل ما ذكر عنهم من قياس أو غيره، إنما هـي مناهج، لا مصادر حقيقية، مهمتها توسيع دائرة الخطاب الشرعي، ليشمل ما ليس ظاهرا فيه، وإن كان يشمله في الحقيقة ضمنا.. ولذلك قال
الإمام الشافعي رحمه الله:
(فإن من أدرك علم أحكام الله، في كتابه، نصا واستدلالا، ووفقه الله للقول، والعمل، بما علم منه، فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريب، ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة.. فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة، إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها)
>[51] .
فهذا نص واضح في أن الارتباط بالقرآن، في استمداد منهج التدين، هـو السبيل المؤدي إلى إنتاج العقلية القيادية، أو الإمامة في الدين، كما في النص،
[ ص: 128 ] وأن القرآن يتضمن كل ما يحتاجه المسلم في حياته التدينية، كما ذكرت.
ومن هـنا، يتأكد ما قررناه من توحيدية المنهج التديني، الذي كان عليه فقهاء الأمصار، تعلما وتعليما، واستنباطا، وإفتاء ولذلك قرر
الغزالي رحمه الله، بعد وحدانية ( المصدرية) القرآنية، في مجال التشريع، مبعدا مصدرية العقل، الذي هـو مرجع منهجي فحسب، قال : ( وأما العقل فلا يدل على الأحكام الشرعية... فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة، تجوز)
>[52] . والغزالي، إنما كان يصف واقع المنهج الاستنباطي، عند الأئمة الأعلام، من فقهاء المذاهب.
وهكذا نجد التوحيدية النبوية، استمرت بمضمونها التربوي، مع العلماء المربين من الصحابة، ثم مع أتباعهم، ومن تلاهم من المحدثين الأوائل،كما رأينا، وأخيرا مع أئمة الفقه الإسلامي، الذين استمروا على نفس المنهج التوحيدي، الذي ورثوه عن التابعين وأتباعهم، ولذلك قال
ابن حزم ، مؤكدا هـذه الاستمرارية:
[ ص: 129 ]
( ثم أتى بعد التابعين، فقهاء الأمصار، كأبي حنيفة، وسفيان، وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جريج بمكة، ومالك، وابن الماجشون بالمدينة، وعثمان البتي، وسوار بالبصرة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر، فجروا على تلك الطريقة، من أخذ كل واحد منهم، عن التابعين، من أهل بلده، فيما كان عندهم)
>[53] فالمضمون إذن واحد، هـو المنهج التوحيدي، من حيث الارتباط المصدري بالقرآن والسنة.. والشكل متعدد، حسب الظروف الاجتماعية، فهو إن تبلور في إطار صناعة الحديث، في القرن الأول، والثاني الهجريين، فإنه تبلور في إطار الفقه الإسلامي في القرن الثاني، والثالث، وبذلك يكون القرن الثاني، شهد مرحلة الانتقال من رواية النصوص ونقدها خاصة، إلى مرحلة فهمها وفقهها، وتطبيقها بصورة أوسع، وأعمق.
فالنص هـو النص، لكن طريقة التعامل معه، هـي التي كانت تختلف، حسب الحاجة المرحلية. ولذا يكون القرن الثاني، قرنا مخضرما، بين هـذا الشكل وذاك.
والخلاصة، أن هـذه هـي القرون الثلاثة، المشهود لها بالخيرية في
[ ص: 130 ] الحديث الصحيح كما تقدم. وقد كان العلم الشرعي فيها، يحمل راية التربية النبوية، لتخريج قادة الأمة وجنودها، على السواء، انطلاقا من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قال
ابن حزم ، بعد عدة أبواب من كتاب الأحكام، تحدث فيها عن فقهاء الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم ولزوم التدين على منهجهم: ( فرض على كل جماعة مجتمعة: قرية، أو مدينة، أو دسكرة - وهي المجشرة في المغرب أو حلة أعراب، أو حصن، أن ينتدب منهم لطلب جميع أحكام الديانة، أولها عن أخرها، ولتعلم القرآن كله، ولكتابة كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، من أحاديث الأحكام، وضبطها بنصوص ألفاظها، وضبط كل ما أجمع المسلمون عليه، وما اختلفوا فيه، من يقوم بتعليمهم، وتفقيههم، من القرآن، والحديث، والإجماع... فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في ذلك كله،كما ذكرنا، ففرض عليهم الرحيل، إلى حيث يجدون العلماء المحتوين على صنوف العلم، وإن بعدت ديارهم،ولو أنهم بالصين، لقوله تعالى:
( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ) ( التوبة:122) والنفار، والرجوع لا يكون إلا برحيل، ومن وجد في محلته، من يفقهه في صنوف العلم، كما ذكرنا، فالأمة مجمعة على أنه لا يلزمه رحيل في ذلك،
[ ص: 131 ] إلا القصد إلى مسجد الفقيه، أو منزله فقط، كما كان الصحابة يفعلون مع النبي صلى الله عليه وسلم )
>[54] .
وهكذا ترسخ في ذهن الأوائل، من علماء هـذه الأمة،
كابن حزم - وهو رجل عاش في القرن الخامس الهجري ( ت 456هـ) أن استمرار التدين، لا يكون إلا بالتفقه في المصادر الشرعية للإسلام: كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، باعتبار ذلك كان الوسيلة التربوية، التي تبلور فيها المنهج التوحيدي النبوي، في مرحلته العلمية،كما أسلفنا، فصار العلم الشرعي، بمضمونه التربوي المنتج، واجبا بإجماع الأمة،كما ذكر
ابن حزم رحمه الله.
[ ص: 132 ]