التوحيد والوساطة في التربية الدعوية [الجزء الثاني]

فريد الأنصاري

صفحة جزء
نمـوذج للـوساطة الفقهيـة

من كتاب: " شرح حدود ابن عرفة " ، المتوفى سنة 803هـ ، للشيخ أبي محمد الأنصاري ، المشهور بالرصاع التونسي، المتوفى سنة 894 هـ:

فالنص إذن من القرن التاسع الهجري، وهي مرحلة التقليد المركب للمنهج الوساطي: [ ص: 50 ]

أولا: تـقـديـم الـوسـيط

قال الشارح أبو عبد الله الرصاع : " أما بعد، فإنه لما سبقت منة الله تعالى إلي، وأظهر فضله سبحانه علي، بمحبة شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، الذي افتخرت به أمة النبي صلى الله عليه وسلم ، الشيخ، الولي، العالم، الأعلم، الصالح، الزكي، القدوة، الأسوة، السني، السني، العارف على التحقيق، الهادي إلى الطريق، الدال على التدقيق، صاحب السعد والسعود، واليمن والتوفيق، شيخ كثير من شيوخنا، نهاية العقول في المنقول والمعقول، في وقتنا، وقبل وقتنا! بقية الراسخين من سادتنا، آخر المتعبدين من سلفنا، سيدنا ومولانا، وبركتنا، أبي عبد الله محمد بن عرفة ، رحمه الله تعالى، ورضي عنه، ورحم سلفه، وأعاد علينا فضله، وصيرنا ممن عظم قدرته، وعرفه ... ونذكر إن شاء الله، جملة صالحة، في أول هـذا التقييد وآخره، من طريقه، وفضله، ودينه، وعلمه، وما يحمل طالب العلم على تعظيمه، وبره، وشاهدنا كتبه جامعة، مانعة، شافية، وافية.. المبرز من فقهاء الزمان، ممن يفك رموزها، ويفهم إشاراتها، ويتفاخرون بذلك، خلفا عن سلف، وكل ضعيف عقل، خبيث سريرة، وكبير جهل، إذا ربت به نفسه الخبيثة، علا، وغلا، فيتعرض بالاعتراض للعطب، والبلا! حفظ الله قلوبنا، وملأها بمحبتنا في سادتنا، الذين فتحوا لنا الأبواب، وهدانا الله بهم إلى طريق الحق والصواب " >[1] فانظر إذن، إلى هـذا التقديم، الذي مهد به لشرحه، حيث قدم [ ص: 51 ] المصنف رحمه الله، وكأنه قد حاز مقام العصمة، أو كما قال: " نهاية العقول في المنقول، والمعقول، في وقتنا، وقبل وقتنا! " ، ويسأل الله أن يجعله " ممن عظم قدره " ، والضمير يعود على الشيخ، ويذكر أن مبلغ " المبرز من فقهاء الزمان " ، أن يفك رموز كتبه، ويفهم إشاراتها، كما يفهم من كلامه، أنه لا تجوز معارضته، وأن من فعل ذلك فهو ضعيف عقل، وخبيث سريرة، وكبير جهل!!

ويدعو الله تعالى بعد ذلك، أن يجعله من محبي الشيوخ، أو (السادات) بتعبيره، تعريضا بالمعترضين، والمخالفين. وما كان دافعه إلى هـذا الشرح في الأصل، إلا هـذه المحبة، لا العلم، وقصد الله فيه! وذلك في قوله بعد: " ولما كنت كثير المحبة، والتعظيم لهذا السيد الكريم، أكثرت من النظر في تعريفه للحقائق الفقهية، وولعت في طلب تفهيم فوائده اللوذعية " >[2] ، ولست أدري ماذا بقي بعد ذلك في نفس الشارح، رحمه الله وغفر له، من مقام لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؟

ثانيا : تقديم المنهج الوساطي للمضمون الفقهي

وهو نص يتبين فيه كيف يستدل المقلد بأقوال ابن القاسم ، وسحنون ، وخليل ، وغيرهم، وكيف - وهذا هـو الأغرب - يستخرج ( العلل ) من أقوالهم، وأحكامهم، ليقيس عليها! ومعلوم أن هـذه إنما هـي خاصية النص القرآني، أو الحديثي! وهذا نص، يجمع مواطن من ذلك، دون عرض تفاصيل الجزئيات: [ ص: 52 ]

قال الشارح، رحمه الله: " ولنذكر هـنا مسألة... وذلك أن رجلا أعطي بضاعة أمانة، يتجر بها في بلاد المغرب، من المواضع المأذون فيها عادة.. ذهب المبعوث معه بالمال، إلى المغرب، ثم قدم، وادعى أنه أودعه ببلد من بلاد المغرب، واستظهر بإشهاد في ذلك، وأن العدو دمره الله تعالى، أخذ البلدة المذكورة، واستولى على ما فيها... فادعى رب البضاعة، أن الرجل تعدى في مسيره إلى تلك البلدة، لأنه سافر بالمتاع من بلد فاس إليها، وطريقها مخوف، وتعلق الضمان بذمته، فلا يسقط الضمان عنه بوصول المتاع إلى تلك البلدة المأمونة، وأثبت أن الطريق مخوف.

فوقع الكلام بين فقهاء الزمان، وترددوا في النازلة، فقال قائل منهم بضمان المبضع معه، إذا أثبت ما ذكر، وقال آخرون بعدم الضمان، وهو الذي ظهر لي، وانتصرت له بمسائل مذهبية، تدل على عدم الضمان، شبيهة بالنازلة المذكورة! إذا أثبت العذر للإيداع، وإن لم يقع منه إشهاد على الإيداع، كما صححه جماعة من شيوخ المذهب:

المسألة الأولى: الشاهدة لما ذكرناه، أن ابن القاسم في كتاب القراض من المدونة، قال فيمن نهى رجلا عن الخروج بالمال من مصر ، ثم خرج به إلى إفريقية عينا، ثم رجع به عينا، قبل التجر >[3] به بمصر، فخسر، أو ضاع، قال: فلا ضمان عليه. وجه الشبه بقياس تمثيلي، فيقال: مال على وجه الأمانة، تعدى في الخروج، ثم عاد سليما، إلى موضع مأذون فيه، فهلك، فلا يقع الضمان فيه. أصله هـذه المسألة، وهي مسألة ابن القاسم، ولا يقال بإبداء فارق، بالإذن الجزئي في صورة [ ص: 53 ] ابن القاسم . والإذن الكلي في الصورة الواقعة، والإذن الجزئي أقوى من الكلي، لأنا نقول: العلة المنصوصة، التي ذكر ابن القاسم، (لأنه رده إلى مصر) ، هـذه العلة، يحتمل أن يراعي فيها الإذن العام، في عدم الضمان، من غير إضافة شيء إليه، وهو الظاهر، ويحتمل أن يريد به الإذن الخاص، وهو التجر في بلد مصر ، فإن قلنا بالأول، قلنا بما يناسب بساطة العلة، وإن قلنا بالثاني، قلنا بما يناسب تركيبها، وبساطتها أولى!

المسألة الثانية: من أنفق وديعة، ثم ردها لموضعها، فقد قال فيها: لا ضمان فيها بعد ضياعها... وقد استدل بذلك ابن القاسم في كتاب القراض، على مسألة القراض، انظره، والاستدلال إنما هـو على قول ابن القاسم...

المسألة الثالثة: ما ذكره ابن المواز ، رحمه الله، قال: من استودع دابة، أو ثوبا، ثم أقر المودع بركوب الدابة، ولبس الثوب، ثم هـلك ذلك، فقال ربه: هـلك بيدي قبل رده، وقال المودع: إنما هـلك بعد الرد. قال: صدق المودع بعد يمينه أنه رده... ونقل عن سحنون ، أنه لا ضمان عليه مطلقا...

المسألة الرابعة: الشاهدة للنازلة، ما ذكره الشيخ خليل في مختصره، والنص فيه كذلك في قوله: (وبرئ إن رجعت سالمة) . قال شارحه ما معناه: فإن سافر بالوديعة، حيث لا يجوز له، ثم رجعت سالمة، فلاضمان عليه، إن ضاعت، فهذه قوية الشبه، وأقوى مما ذكرنا في الشبه ... [ ص: 54 ]

ومن قال بالضمان من أهل العصر، استدل على قوله، بقول ابن القاسم : من اكترى دابة، وبلغ الغاية، ثم زاد زيادة على المسافة، أو حبسها أياما، ثم رجعت بحالها، فقال: لربها الكراء، وله الخيار في أخذ قيمتها يوم التعدي، أو الكراء فيما حبسها فيه، قال: كما أن ابن القاسم قال بالضمان، ولو رجعت سالمة، فكذلك في النازلة المذكورة، والجامع ظاهر ما تقدم. فظهر لي في رد هـذا القياس، أن قلت: إن سلمنا صحة القياس المذكور، المعارض لقياس عدم الضمان، يرجح القياس الأول على الثاني، لأنه قياس على أصل قوي في الشبه، من جنس المشبه به، وهو الأصل! >[4] . فانظر رحمك الله، كيف صار كلام ابن القاسم، وسحنون ، وخليل ، (أصلا) يقاس عليه، وتستخرج منه ( العلل ) ، ويتعسف فيه، لرفع تعارض الأقيسة المختلفة، وترجيح ما بينها، كأن ما سمي (بعللها) ، نصوص وحي، نزل من السماء! عجبا، كيف هـوى العقل الإسلامي إلى حضيض الوساطة بهذه الرداءة؟ وللنص تتمة، وقد حذفت منه فقرات مخافة الإملال، وليس فيه شاهد واحد من كتاب الله ولا شاهد واحد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ! والسبب هـو ترسخ الوساطة، في الذهنية الفقهية المقلدة، التي صدرت المرجعيات في مقام المصدريات، وألغت هـذه تماما، فقدست المراجع، وصدق فيهم استشهاد الشاطبي رحمه الله، بقوله تعالى: ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ) [التوبة:31] >[5] [ ص: 55 ]

لقد كان للوساطة الفقهية في تاريخ المسلمين، آثار خطيرة، من الناحية التربوية، من حيث تشكيل التدين الشعبي، الذي كاد يخلو في هـذه الفترة من القصد التعبدي المحض، وصار يراعي عادة هـذا المصر أو ذاك، وأقوال هـذا الشخص أو ذاك، سواء قربت أو بعدت عن قصد الشارع الأصلي! وانعدمت بركة النصوص القرآنية، في تعميق الإخلاص في القلوب، لانقطاع الناس عن ربط تدينهم بها، كما مال الناس إلى طلب (الرخص) من المفتين، باعتبارهم مصادر الدين.. وكانت الوساطة سببا مهما في علل تدين الشعوب الإسلامية، حتى ترك بعضهم الصلاة نفسها، ولقد حكى الشاطبي رحمه الله قصة عجيبة في ذلك عن الباجي ، الذي عاش في القرن الخامس الهجري، وهو بداية مرحلة رسوخ الوساطة الفقهية ، كما بينا، قال رحمه الله:

" حدثني من أوثقه، أنه اكترى جزءا من أرض على الإشاعة، ثم إن رجلا آخر اكترى باقي الأرض، فأراد المكتري الأول أن يأخذ بالشفعة، وغاب عن البلد، فأفتي المكتري الثاني بإحدى الروايتين عن مالك : أن لا شفعة في الإدارات. قال لي: فوردت من سفري، فسألت أولئك الفقهاء -وهم أهل حفظ في المسائل، وصالح في الدين- عن مسألتي، فقالوا: ما علمنا أنها لك، إذا كانت لك المسألة أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها، فأفتاني جميعهم بالشفعة فيها! فقضي لي بها.. قال: وأخبرني رجل عن كبير من فقهاء هـذا الصنف مشهور بالحفظ والتقدم أنه كان يقول معلنا، غير مستتر: إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه!!! >[6] " [ ص: 56 ]

فعلا هـذا مآل الارتباط بالرجال، وجعلهم مكان المصدر الحق، كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. والفقه - وهو الموجه لتدين الناس - حينما يكون مصدره كلام فلان، أو فلان، لا كلام الله ورسوله، يسقط لا محالة في التشهي والهوى، وذلك هـو الباب الأوسع لإسقاط تكاليف الشرع جملة وتفصيلا، وهو مآل نعيشه اليوم حيا !

تلك إذن كانت النتيجة التربوية للمسيرة العلمية، التي سارها الفقه الإسلامي، عندما بدأ ينزلق إلى درك الوساطة، بعد ما تألق في سماء التوحيد، إبان عهد الصحابة، والتابعين، وأتباعهم، والفقهاء المجددين.

وهكذا شكلت الوساطة الفقهية ، إلى جانب الوساطة الكلامية ، المنهج الوساطي الفكري، الذي هـوى بالأمة، وانزلق بها عن جادة التوحيد، في المجالين: التصوري الاعتقادي، والعملي التطبيقي، ومجموعهما هـو الإسلام عقيدة وشريعة.. وانضاف إلى الوساطة الفكرية ، وساطة أخرى، انحرفت بمنهج الإسلام التوحيدي، في الارتقاء بمقامات الإيمان، من الإحسان في عبادة الله، إلى الإحسان في عبادة الإنسان! وقد تتحول أحيانا إلى عبادة الشيطان.. وهذا كان هـو المآل الطبيعي للوساطة الروحية. [ ص: 57 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية