المبحث الثاني نموذج الوساطة الروحية لدى المتصوفة
تفرغ قوم من الزهاد للعبادة، في القرن الثالث الهجري، مثل
الحارث بن أسد المحاسبي ، المتوفى سنة 243 هـ
والجنيد المتوفي سنة 297هـ ، ونطقوا في دقائق الأحاسيس الروحية بإشارات، وخطوا فيها لطائف العبارات، حتى تميزوا بذلك، وعرفوا به لدى الخاص والعام.
وهم وإن لقوا نقدا من بعض الفقهاء، بسبب هـذا النوع من السلوك، الذي كان فيه ضرب من اختزال المفهوم الإسلامي الشامل للعبادة، في فضائل التعبد المحض، من قيام وصيام، على حساب جوانب أخرى من أركان الاستخلاف الإلهي لبني آدم في الأرض، وعناصر أخرى من مهمة الأمانة المنوطة بهم، إلا أنهم رغم ذلك لم تظهر بينهم أفكار وساطية، بصورة بينة، تحتكر فهم الدين، وكمال التدين، والتفرد في التربية والتعليم، ولكن كانوا هـم البداية لهذا، والخطوة التمهيدية لما ظهر من الانحراف الروحي في المجتمع الإسلامي، الذي بدأت معالمه الخطيرة تبرز خلال القرن الرابع الهجري، قرن ميلاد الوساطة في كل شيء كما تقدم.. ذلك أن تلاميذ هـؤلاء، هـم الذين أحدثوا ما أنكره علماء المسلمين في المجال الروحي، فرسخوا لمن لحق بهم، منهج الوساطة الروحية، في التربية والسلوك، إلى يومنا هـذا.
يقول
الحجوي في سياق حديثه عن علم التصوف، في القرن الثالث الهجري،
[ ص: 58 ] بعد ذكر
الإمام الجنيد ، رحمه الله: " ومن تلاميذه
أبو مغيث الحسين بن منصور الحلاج الزاهد المشهور، الذي نقلت عنه مقالات أبيح بها دمه ببغداد سنة 309هـ... قال
زروق : رمي جماعة بالقول بالحلول والظهور مع أنه كفر، كالحلاج،
والشردي ،
وابن أحلى ،
وابن قسي ،
وابن ذوسكين ،
والعفيف التلمساني ،
والعجمي الأيكي ،
والأقطع ،
والششتري ،
وابن عربي ،
وابن الفارض ،
وابن سبعين ، وآخرين "
>[1] فكان القرن الرابع إذن، هـو بداية الانحراف الوساطي، إذ فيه ظهر القول ( بالقطبية ) ، وهي فكرة ضاربة جدا، في ترسيخ فكرة ( الوسيط ) ، بشكل لم يقع مثله في المجالات الوساطية الأخرى، سواء في المجال الكلامي، أو الفقهي! مما أدى إلى سيطرة هـذه الوساطة على باقي الوساطات، وجعلها تحت إمرتها. فالفقيه نفسه لم يعد يتدين إلا كما أمر القطب، وليس العكس! ومن هـنا كان ضمور الفقه، بل هـلاكه، حيث صار العلم ليس هـو علم السنة والكتاب، بل هـو أذواق شيخ الطريقة، ومواجده، في صحوه و (سكره) ، ولذلك أكد
الأستاذ الحجوي ، رحمه الله، " أن حدوث التصوف، وتطوراته أدخل وهنا على الفقه كثيرا بل وعلى الفقهاء "
>[2] والقطبية، كانت فكرة مدسوسة، تهدف إلى تمرير فهوم ما أنزل الله بها من سلطان في كتابه، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بواسطة إضفاء نوع من القداسة، والعصمة المطلقة على الشيخ المربي، بل الوسيط، الذي
[ ص: 59 ] يتصرف في النص الشرعي، ومعانيه - كما يتصرف في مريديه - على حسب ذوقه وهواه.
يقول
ابن خلدون : " ظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ، ومعناه: رأس العارفين، يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة، حتى يقبضه الله، ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان... وهو بعينه ما تقوله
الرافضة ، ودانوا به، ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال، بعد هـذا القطب، كما قاله
الشيعة في النقباء "
>[3] وهكذا صار التصوف ، يكتسي طابع المذهب، المستقل عن المذاهب الفقهية جملة.. فهم أهل الظاهر،
والمتصوفة أهل الباطن، وأولئك أهل الرسوم، وهؤلاء أهل الحقائق.. وتطور مفهوم (القطب) كدلالة وساطية خطيرة إلى أن صارت له من المعاني ما يجعل صاحبه ليس في مقام الفهم المتفرد، والتدين الأكمل، والتوجيه المعصوم فحسب، ولكن في مقام التشريع التكليفي، والتقدير الكوني، الذين هـما من أخص خصائص الألوهية! وذلك قصد اكتساب التسليم المطلق من كل الناس، عامتهم وخاصتهم، لوسطاء يلقنونهم التدين كما شاءوه أن يكون، دون أن يكون ثمة منتقد، أو معترض، أو مراجع!
وأغرب ما قرأت في مفهوم القطبية، ما أورده
الجرجاني في تعريفاته، حيث قال: " القطب: ويسمى غوثا، باعتبار التجاء الملهوف إليه! وهو عبارة عن الواحد الذي هـو موضع نظر الله في كل زمان، أعطاه الطلسم الأعظم من لدنه، وهو يسري في الكون، وأعيانه الباطنة والظاهرة، سريان
[ ص: 60 ] الروح في الجسد! بيده قسطاس الفيض الأعم! وزنه يتبع عمله، وعلمه يتبع علم الحق، وعلم الحق يتبع الماهيات غير المجعولة، فهو يفيض روح الحياة على الكون الأعلى والأسفل! وهو على قلب
إسرافيل ، من حيث حصته الملكية الحاملة مادة الحياة والإحساس لا من حيث إنسانيته، وحكم
جبرائيل فيه كحكم النفس الناطقة في النشأة الإنسانية، وحكم
ميكائيل فيه كحكم القوة الجاذبة فيها، وحكم عزرائيل فيه كحكم القوة الدافعة فيها
>[4] ألا ترى أنه يجعل القطب، أو الغوث إلها صغيرا؟ يشارك الله - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - في تصريف أمره، وتدبير ملكه؟! إن شيئا من هـذا، قل أو كثر، بقي ساريا كوساطة تربوية، في الفكر الصوفي، عبر تاريخ الأبدال والمشيخات.. فتلقى الناس التدين منهم، تلقي المريد المسلم أمره، كل أمره، لأذواقهم وشطحاتهم. ونحن لا ننكر أن في بعض التصوف المنضبط بضوابط الشرع، خيرا كثيرا، ولكن
المتصوفة من حيث هـذا المعنى الوساطي أفسدوا تدين الناس أيما إفساد! ووكلوهم إلى تواكل خطير، واستهلاك فظيع.
لقد كان منطق الوساطة الروحية، يجزم أن المريد لا يمكنه الوصول إلى مقامات الإحسان، إلا عبر ذات الشيخ الكامل!! كما كان المنهج الوساطي الصوفي، يستلهم طريقته التربوية من قصة
موسى عليه السلام مع
الخضر ، من حيث قول الله عز وجل ، حكاية عن هـذا الأخير:
( قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ) [الكهف:70].. فأوجبوا على المريد ألا يراجع شيخه، ولا ينتقده،
[ ص: 61 ] ولا ينكر عليه زلة، ولا خطأ، ولو أتى معصية بينة، لأن عنده العلم اللدني، الذي لا يفهمه العقل البشري، أو بعبارتهم: " على المريد أن يكون عند شيخه، كالميت بيد مغسله " .. فالعصمة التي أضفيت على المشيخة الصوفية ، جعلت التربية الإسلامية، لا تمر إلى جمهور الأمة، إلا عبر قناتها الوساطية.. فالشيخ الوسيط صار في كثير من الحالات معبودا من دون الله، كما قال
الشريف الجرجاني فيما سبق: " باعتبار التجاء الملهوف إليه " .
وكان طبيعيا أن يقاوم الفقهاء التوحيديون هـذا الاتجاه، فكانت خصومتهم واضحة مع أول بداياته وإرهاصاته، مثل إنكار
أحمد بن حنبل في القرن الثالث الهجري على
الحارث بن أسد المحاسبي ، ومهاجمة العلماء
للحلاج ، في القرن الرابع، لكن لم يلبث الفقهاء أنفسهم، أو كثير منهم، أن تبنوا وساطة التصوف، وأذعنوا للمشيخة الروحية المطلقة، خلال أواخر القرن الخامس الهجري، وبداية السادس، إذ في هـذه الفترة بالذات، كان
الإمام أبو حامد الغزالي ، المتوفى سنة 505هـ ، يعطي المشروعية، بسلوكه وتأليفه للمنهج الصوفي.. فعلى يده نضح السلوك الصوفي، كمنظومة متكاملة القواعد، والمناهج؛ ذلك أن (التصوف السني) ، كما يسميه
الدكتور على سامي النشار : " بدأ زهدا، ثم تصوفا، وانتهى إلى الأخلاق.. ووضعه في صورته الكاملة، أبو حامد الغزالي ... وقد احتضن
الأشاعرة مذهب الخلف (الصوفي) منذ أبي حامد الغزالي "
>[5] [ ص: 62 ]
وكما صار الفكر الأشعري عقيدة الأمة مع
الغزالي ، وبعده، فقد صار المنهج الصوفي سلوكها في المجال الروحي، وصارت كتابات الغزالي الصوفية، وخاصة مصنفه الشهير (إحياء علوم الدين) ، متنا تشريعيا لكل مريد، يبغي سلوك مقامات الإيمان. يقول
الدكتور أحمد صبحي ، متحدثا عن الغزالي: " كانت آفة من جاءوا بعده، أن عدوا كتابه (الإحياء) ، كما لو كان كتابا مقدسا! "
>[6] إن بعض المحبين للغزالي - وكلنا نحبه - يرون أنه لم يكن يؤمن بفكرة المشيخة، بدليل أنه لم يأخذ الطريقة على شيخ معين، وبذلك لا يكون مؤيدا للمنهج الوساطي، إلا أنا نرى إعطاءه المشروعية للسلوك الصوفي جملة، من خلال ما سنوضح بحول الله أغرق الأمة في شرك عبادة الوسائط من أصحاب المرقعات، وأرباب الإشارات، والشطحات.. ثم إن التصوف كان قبله منحصرا في بعض الأعلام بسبب رفض العلماء لمنطق الوسيط، أو التخصص الروحي ، ثم صار بعده تدين معظم الأمة بسبب مشروعه النظري والعلمي الذي جعل فيه التصوف ، وطريق
المتصوفة هـو طريق الفرقة الناجية، كما سيأتي، فتبنى الفقهاء نظريته؛ لأنهم كانوا في مرحلة التقليد المحض، والوساطة الفقهية الرديئة، فدخلت الطرق الوساطية إلى كل بيت، وإلى كل أسرة، وتهافت الناس على المشايخ، أو الوسائط، يأخذون الأوراد، وإذن الذكر، مبايعين لهم، ومتوسطين بهم، في تعبدهم للوصول إلى الله!! يقول
الحجوي : " حتى إنك إذا بحثت في أي مدينة، أو قرية، في غالب الممالك الإسلامية،
[ ص: 63 ] تجد زواياها أكثر من مساجدها، ومن المدارس! ولا تكاد تجد عائلة، إلا وهي آخذة طريقة من الطرق تتعصب لها رجالها، ونساؤها، وصبيانها "
>[7] ونظرا لأهمية
الإمام الغزالي في هـذا السياق، فقد وجب أن نقف معه وقفة خاصة، حول هـذا المعنى بالذات، أي الوساطة الروحية ، فنصف أصولها عنده من خلال كلامه، ثم نبين ما ترتب عن ذلك من تطور وساطي إلى درجة تأليه المشايخ، وخروج المتدينين من كل قدرة على المبادرة، وحصر الفعل في ذات الوسيط فقط، ورد الأمر كله إليه؛ مما كان عاملا مهما من عوامل الانحطاط، وصورة مؤسفة من صور اغتيال العقل المسلم، وترسيخ قابليته للاستعمار في نهاية المطاف.