المبحث الثاني: مظاهر التربية الوساطية في: حركة الوعي الإسلامي الحديث.
بنظرة نقدية لحركة الوعي الإسلامي الحديث في سيرها المعاصر المشاهد، وبقراءة لما كتب في هـذا الاتجاه مما عرف بكتب النقد الذاتي، ومشكلات الدعوة، ونحوها، نجد أن الحركة تعاني في بعض مواقعها، أو بعض هـياكلها من مجموعة من الأمراض، التي كثر عنها القيل والقال، وترددت بين الألسنة والأقلام، كلما بحث عن مواطن الضعف والخلل.. وهي على العموم أمراض تتعلق حينا بأفراد الحركة كأفراد، كضعف الهمة، وقلة المبادرة، والانتظارية الاتكالية، وندرة الرواحل من الأقوياء الأمناء.. وتتعلق حينا آخر بالتنظيم الحركي، كإطار كلي يستوعب أفراده، كوجود أدبيات تمجد التنظيم كتنظيم مما يؤدي إلى ظاهرة الحزبية والتعصب، ثم التآكل، والحرث في الأرض المحروثة، فتتناحر الجماعات فيما بينها، بسبب ذلك، مما يؤدي إلى تحريف الولاء في قلوب الأتباع، من عبادة الله، إلى عبادة التنظيم، من حيث لا يدرون، فيكون الحب والأخوة بين شباب الصحوة، مبنيا على الآصرة التنظيمية ، لا العقدية الصافية .
وتلك لعمري من أخطر صور الوساطة ، التي تصرف العباد عن عبادة الله إلى عبادة أوثان نظرية، أو أسماء سموها هـم وأتباعهم، ما أنزل الله [ ص: 156 ] بها من سلطان، حيث تصير هـذه الأشكال والرسوم، هـي القنوات الوحيدة التي تقود إلى الله، وتسلك بالشباب إليه، وما سواها لاغ لا قيمة له، فتنتصب التنظيمات، والهياكل، والزعماء، والألقاب، وسائط تحول دون الاتصال المباشر بالله عز وجل .. وما نحسب إلا أن هـذه الأمراض الفردية والجماعية، ما هـي إلا نتيجة طبيعية، لغياب التربية التوحيدية داخل الحركة، أو ضعفها، وانصرافها إلى ضرب من التربية الوساطية، على الصورة الفكرية، أو الصورة الروحية سواء.
فأما الوساطة الفكرية ، فقد تجلت في أخذ بعض أبناء الصحوة الإسلامية، لأفكار بعض مفكريها، بشيء من (التقديس) اللاشعوري، في الغالب. فتكون الأحكام التي أطلقها بعض الرواد - وهي أحكام اجتهادية بالطبع - صالحة لكل زمان، ولكل مكان في اعتقاد بعض المنتمين للحركة، وربما كانت تلك الأحكام خاطئة في أصلها، وربما كانت صحيحة في حينها، وظروفها التي صدرت فيها غير أنها تصير بالنسبة لمكان آخر، أو زمان آخر مؤدية إلى كارثة، إن هـي أخذ بها، حيث صارت كتب معينة، متنا تشريعيا للحركة، دائما أبدا لدى بعضهم، وذلك هـو عين المنهج الوساطي في التربية، والتكوين، والتأثير.. كما احتلت كتب أخرى نفس المكانة، في نفوس بعضهم الآخر، فكانت مقررات وحدها دون سواها، داخل الجلسات التربوية.
لقد أدى ذلك إلى تطور الاتجاه الوساطي في حركة الوعي الإسلامي الحديث، [ ص: 157 ] ببعض البلاد الإسلامية.. ذلك أن فكرة وضع (مقررات) تربوية، تكون مادتها الأساس هـي كتب فلان، أو فلان، قد أدى إلى انتشار الوساطة الفكرية ، وتعميقها، حيث صارت الأحكام الصادرة من أولئك ذات قيمة مطلقة.. وإن في بعض الكتب التي صدرت عن أفراد من الحركة رغم كثرة فوائدها في التأطير التربوي، ما يشعر بأنه كان يقترحها كمقررات تربوية أساسية.. إننا لا ننكر أن تكون هـذه الكتب وغيرها، من (الوسائل) التربوية، لأبناء الحركة، ولكنها على أساس أن تكون ذات قيمة مرجعية، للقراءة والمطالعة، قصد الاستفادة من التجربة الحركية، والفكرية، للمؤلف؛ ترشيدا للحركة.
أما أن تكون هـذه الكتب، لها قيمة مصدرية، فتكون هـي التربية، وتحتل بذلك مكانة القرآن والسنة في النفوس، فهذا هـو الخطير، وتلك هـي الوساطة ، التي تربط الناس بالمفكر المصنف، لا بالله أساسا.
إن بعض كتب حركة الوعي الإسلامي الحديث، تحتاج إلى إعادة صياغة، شكلا ومضمونا، أي سواء من حيث طبيعتها وغايتها، أو من حيث ما ورد بها من أحكام تتسم بالعموم والشمول، مما يخالف المنهج العلمي الحق.. ولقد علمت، ورأيت، أن كثيرا من الناس، كانت بعض كتب الحركة، هـي مادتهم التربوية، على الأقل في فترة من فترات أعمارهم.. وأؤكد للمرة الثانية أن قصدي ليس هـو إلغاء قراءة مثل تلك الكتب، أو (تحريمها) ، وإنما القصد أن توضع في مكانها الطبيعي، [ ص: 158 ] كمرجع مفيد فيه الحق والخطأ، شأنها كشأن كل الكتب مما عدا الكتاب والسنة، وإنما السبيل لذلك هـو تقديم هـذين على كل كتاب، وجعلهما وحدهما (مصدر) التكوين التربوي، مع الاستفادة (المرجعية) من كل شيء.
أضف إلى ذلك، أن الوساطة الفكرية ، حينما تنتشر في صفوف الصحوة الإسلامية، تؤدي إلى نوع من الحيرة والتمزق، إذ كل يتخذ كتابا من الكتب التربوية، (إماما) له في التربية، فتتناقض الأفكار والمناهج، وتنتشر الحيرة والتمزق بين أبناء الحركة الواحدة، بله الحركات، إذ نجد أن من الناس من يعدل عن كتب يتعلق بها بعضهم، إلى غيرها، سواء قصد صاحبها إلى أن تكون مادة مصدرية أو مرجعية، فيتخذها المتربي أو المربي، مادة العمل التربوي، بشكل مصدري، فتكون وساطة فكرية.
أقول هـذا، لأني أعلم أن بعض من (تخرجوا) على كتب بعينها، قد انغلقوا على بعض مفاهيمها، انغلاقا تجاوزته المرحلة التي صاروا إليها حسب مكانهم وزمانهم المعينين.. فبعضها على سبيل المثال فقط، تتحدث عن الدعوة، والاصطفاء، والانتقاء، في مرحلة التأسيس، وهو أمر طبيعي، لكنها بقيت عند قوم راسخة كالمبدأ الثابت، على كل حال، ودخلت حركة الوعي الإسلامي، مرحلة الانتشار والتوسع، وتكوين الرأي العام، لكن نفسيات كثيرة لم تستطع التخلص من الآثار التربوية [ ص: 159 ] لمرحلة التأسيس، حيث التركيز لا التكاثر، وحيث تكوين القيادات لا الجنود.
وكانت مرحلة الخطاب الإعلامي المؤدي إلى التكاثر، بطبعه وهدفه، ضرورة لا بد منها، كما كان شأن (المرحلة المنبرية) في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كما فصلناه في الفصل الثاني المنشور في الجزء الأول، من هـذا الكتاب. لكن كلمات بعض كتب المرحلة التأسيسية بقيت راسخة في أذهان بعض أبناء الحركة رسوخا مصدريا، مثل حاجزا نفسيا، أو قل: (وسيطا فكريا ) ، يحول دون النظر إلى نصوص السيرة، أو قراءة الواقع المتغير، قراءة جديدة.
ومن مظاهر الوساطة الفكرية ، أن تصير تصورات الحركة، للتربية، والتغيير، وأدبياتها الخاصة، متنا تشريعيا ثابتا، فتفقد الحركة بذلك أمرين:
القدرة على الحوار مع المكونات الأخرى من التيارات والتنظيمات، والقدرة على التأقلم مع الأوضاع الجديدة، التي قد تدخلها الحركة، بسبب تغير الظروف الاجتماعية، والسياسية، بما لا يستجيب لمناهجها التي سطرتها في أدبياتها الداخلية أول مرة، إضافة إلى حدوث الأمراض الوساطية في تربية الأفراد، مما ذكرناه في الفصل الأول.
ولا بد أن نشير إلى أن من الوساطة الفكرية كذلك، أن يقتصر على كتاب واحد معين، دون سواه من كتب الحديث النبوي، كمادة وحيدة للتربية، [ ص: 160 ] سواء كان صحيح البخاري ، أو صحيح مسلم ، أو رياض الصالحين أو نحوها، إذ ربما انتخب قوم مصنفا بعينه دون سواه للتربية، لا يبيحون بعدها الخروج عن نصوصه، إلى ما هـو أصح منه، إن وجد، أو ما يكمله، بل ربما اعتبروا اعتماد شيء مما سواه من السنة، خروجا عن الجماعة!!
قلت: هـذا وساطة فكرية، لأن تعيين هـذا الكتاب أو ذاك، من كتب السنة، هـو في حد ذاته ( اجتهاد ) ، صادر عن شخص معين، أو أشخاص، ويحصر فهم الدين لدى المتربين، وممارسة التدين فيما تنطق به تلك النصوص الواردة بذلك الكتاب.. وهو ضرب من ضروب تجزيء الدين والتدين معا، أي تجزيء التصور والممارسة، وهذا أيضا يؤدي إلى نفس نتائج الوساطة ، بالصور المذكورة قبل.
وهكذا يتبين أن حركة الوعي الإسلامي الحديث في بعض صورها، لم تستطع أن تثبت على خط المنهج التوحيدي على التمام والكمال، بل لقد انحرفت إلى المناهج الوساطية، الروحية منها والفكرية على السواء، مما جعلها تعاني من أمراض شتى مما ذكرنا، أدت حينا إلى خفوت الفعالية واضمحلالها، وحينا إلى تضخم الشخصانية وطغيانها، وحينا آخر إلى الوثنية التنظيمية، فتكون تصارعات، وانقسامات، وتفرقات، لا ترجع إلى أسباب معقولة من أصول الخلاف، بقدر ما ترجع إلى الأهواء الوساطية أساسا.. وما ندرت تلك الأمراض ندرتها عند تطبيق المنهج التوحيدي، تصورا وممارسة، في إخراج صف الحركة، تربية وتنظيما. [ ص: 161 ]
التالي
السابق