الفصـل الأول : نصوص من كتاب الله في تبني هـموم الناس
- أوجب كتاب الله في آيات كثيرة منه، على القادرين في كل المجالات، إعانة غير القادرين فيها، وهو الصنف من الفروض الذي اصطلح علماء الأصول على تسميته بـ : "فروض الكفايات "، وعرفوها بأنها: موجهة إلى الجميع، لكن إذا قام بها بعضهم سقطت عن الباقين
>[1] .
وفي تسمية الأصوليين - خصوصا الأوائل
>[2] .
- لها، بالفروض الكفائية، إيحاء، بأن القيام بها، من لدن القادرين، ينبغي أن يكون كافيا للأمة، وإلا فإنها لا تسقط، ويبقى الإثم عالقا بعموم الأمة، قال
الشافعي في الرسالة: "وهكذا كل ما كان الفرض فيه، مقصودا به قصد الكفاية، فيما ينوب، فإذا قام به من المسلمين، من فيه الكفاية، خرج من تخلف عنه، من المأثم، ولو ضيعوه معا، خفت، أن لا يخرج واحد منهم، مطيق فيه، عن المأثم، بل لا أشك - إن شاء الله - لقوله:
( إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ) -[التوبة:39]، قال: فما معناه؟ قلت: الدلالة فيها،
[ ص: 41 ] أن تخلفهم عن النفير كافة، لا يسعهم، ونفير بعضهم، إذا كانت في نفيره كفاية، يخرج من تخلف من المأثم، إن شاء الله
>[3] .
إلا أن غير القادرين، لا يبقون - بخصوص الفروض الكفائية - بدون مسئولية، فالشرع يرتب عليهم مسئولية السعي، لإقامة القادرين.
قال تعالى:
( خذوه فغلوه *
ثم الجحيم صلوه *
ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه *
إنه كان لا يؤمن بالله العظيم *
ولا يحض على طعام المسكين ) [الحاقة:30-34].
قال
ابن الجوزي ، في تفسير قوله تعالى:
( ولا يحض على طعام المسكين ) : "لا يطعمه، ولا يأمر بإطعامه
>[4] فالعقاب، لم يكن فقط لأولئك، الذين يمنعون الماعون، وهم قادرون عليه، ولكن عم أيضا، أولئك الذين لم ينهضوا القادرين، ويحثوهم على بذله.. وعليه، وجب فهم قول
الشافعي : لا يخرج واحد منهم، مطيق فيه، من المأثم
>[5] في ضوء كون الإطاقة، إطاقة الحض، والحث أيضا، لا إطاقة الفعل، والإنجاز فقط.
قال
الشاطبي : القيام بهذا الفرض - يقصد الفرض الكفائي - قيام بمصلحة عامة، فهم مطلوبون بسدها على الجملة، فبعضهم هـو قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلا لها، والباقون، وإن لم يقدروا عليها، قادرون على إقامة القادرين، فمن كان قادرا على الولاية، فهو مطلوب
[ ص: 42 ] بإقامتها، ومن لا يقدر عليها، مطلوب بأمر آخر، وهو إقامة ذلك القادر، وإجباره على القيام بها.. فالقادر إذن، مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر، مطلوب بتقديم ذلك القادر، إذ لا يتوصل إلى قيام القادر، إلا بالإقامة، من باب، ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب
>[6]
وإن اللعنة، ما لحقت ببني إسرائيل، على لسان أنبيائهم، إلا لأنهم كان لا يتناهون عن منكر فعلوه ،
قال عز وجل :
( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون *
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) [المائدة:78-79].
وقد تقدم، كيف جعل الله سبحانه، عدم الحض على طعام المسكين تكذيبا بالدين .. وأي منكر إذن، أكبر من التكذيب بالدين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم، فلم ينتهوا، فجالسوهم، وآكلوهم، وشاربوهم، فضرب الله على قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم، على لسان داود، وعيسى ابن مريم"، ثم جلس وكان متكئا، فقال: "لا والذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطرا ) >[7] ولكم تشبث المتشبثون بقوله تعالى:
( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) [المائدة:105]،
[ ص: 43 ] معتقدين، أن هـاهنا رخصة، للقعود عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إذ ظاهر الآية، يوحي بذلك، قال
القرطبي : وظاهر هـذه الآية يدل على أن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ليس القيام به بواجب، إذا استقام الإنسان، وأنه لا يؤاخذ أحد، بذنب غيره، لولا ما ورد من تفسيرها في السنة، وأقاويل الصحابة والتابعين ...
>[8] وقد تنبه
الصديق أبو بكر رضي الله عنه ، إلى هـذا الإشكال، ففي سنن
الترمذي ،
( عن قيس ، قال: خطبنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فقال: إنكم تقرءون هـذه الآية، وتتأولونها على غير تأويلها: ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) [المائدة:105]،
وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أو شك أن يعمهم الله بعذاب من عنده ) قال
أبو عيسى : هـذا حديث حسن صحيح
>[9] وقد أعجبني تعليق
شيخ الإسلام ابن تيمية ، رحمه الله، على هـذه الآية، حين قال: إن المؤمن، عليه أن يتقي الله في عباده، وليس عليه هـداهم، وهذا معنى قوله تعالى:
( عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كما قام بغيره من الواجبات، لم يضره ضلال الضالين
>[10] [ ص: 44 ] هذا وإن
للإمام عبد الله بن المبارك ، رحمه الله، قولا جليلا في تفسير هـذه الآية، حيث قال:
( عليكم أنفسكم ) خطاب لجميع المؤمنين، أي: عليكم أهل دينكم، كقوله تعالى:
( ولا تقتلوا أنفسكم ) [النساء:29]
>[11] ، قال
القرطبي شارحا قول ابن المبارك: فكأنه قال: ليأمر بعضكم بعضا، ولينه بعضكم بعضا، فهو دليل على وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يضركم ضلال المشركين والمنافقين، وأهل الكتاب، وهذا لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجري المسلمين من أهل العصيان. وروى هـذا المعنى عن سعيد ابن جبير ...
>[12] وقال
مجاهد في سبب نزول هـذه الآية: "نزلت في أهل الكتاب"
>[13] وقال
القرطبي : "والمعني: لا يضركم كفر أهل الكتاب، إذا أدوا الجزية"
>[14] [ ص: 45 ]
نستخلص من جميع ما مر، أن تعامل المسلمين في العصور المتأخرة، مع واقعهم، كان عاريا من التمثل للأبعاد الحقيقية، والمقاصد السنية بهذا الخصوص، والتي يشتمل عليها كتاب الله تعالى، وتحث عليها سنة نبيه صلى الله عليه وسلم
، فلا غرو أن أصبح واقعنا على ما أصبح عليه، من ترد وتشتت، وضحالة. . . لأن هـناك آليات برمتها، من آليات حفظ كيان الأمة، قد سقطت، وانعدم انفعال المسلمين لها وبها، وما شيء يحفظ، إلا بما هـيأه صانعه، لأن يحفظ به، وأمتنا، لا يمكن أن تحفظ، إلا بهذه الطرائق، والآليات، والتوجيهات، التي أراد الباري لها أن تؤدي وظيفة الحفظ، وهو العليم الحكيم.
نصوص أخرى من كتاب الله والكلام عنها:
قال الله تعالى:
( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هـذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ) [النساء:75].
قال
ابن كثير في تفسير هـذه الآية: يحرض الله عباده المؤمنين، على الجهاد في سبيله، وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين، من الرجال والنساء والصبيان بمكة، المتبرمين بالمقام بها
>[15] .
ومعلوم، أن العبرة، إنما تكون بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، قال
ابن عطية : والآية تتناول المؤمنين، والأسرى، وحواضر الشرك، إلى يوم القيامة
>[16] .
..
ولابن العربي المعافري [ ص: 46 ] في تفسير هـذه الآية، كلام نفيس، ينطلق فيه من واضح رؤية، وعميق إدراك، لخصائص هـذا الدين ومقاصده، حيث يقول: أوجب الله سبحانه في هـذه الآية القتال، لاستنقاذ الأسرى من يد العدو، مع ما في القتال من تلف النفس، فكان بذل المال في فدائهم أوجب، لكونه دون النفس، وأهون منها ... وقد قال
مالك : على الناس أن يفدوا الأسارى، بجميع أموالهم ... إلى أن قال - : مسألة: فإن امتنع من عنده مال من ذلك؟! قال علماؤنا: يقاتله إن كان قادرا على قتاله، وهو قول مالك
>[17] .
وهذا كلام، غاية في الجلاء والوضوح، في وجوب تبني هـموم المستضعفين من الأمة، وقد استنبط الإمام مالك - وهو من مجتهدي الأمة - فيه من الآية قيد التفسير، أن براءة الذمة بخصوص المستضعفين، معقودة بالنصر بالبدن، إن كان العدد يحتمل، وإلا فلا سبيل إلا ببذل جميع الأموال.. وإن واقعنا ليشهد، أن هـذا من العلم المندرس، لأنه وإن كان في الكتب، فهو غائب في أخلاقنا وتصرفاتنا، مما يستوجب إحياء هـذه العلوم والفهوم.
ويقول سبحانه:
( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتا ) [النساء:85].
[ ص: 47 ]
وقد جعل
الإمام البخاري هـذه الآية، عنوانا لباب من أبواب كتاب الأدب، في جامعه الصحيح، ثم قال: "حدثنا
محمد بن العلاء ، حدثنا
أبو أسامة ، عن
يزيد ، عن
أبي بردة ،
( عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
، أنه كان إذا أتاه السائل، أو صاحب الحاجة، قال: اشفعوا فلتؤجروا، وليقض الله على لسان رسوله ما شاء ) >[18] وأخرج
ابن سعد في (الطبقات) قال:
( قال الحسين بن علي رضي الله عنهما : "سألت أبي عن دخول النبي صلى الله عليه وسلم
، فقال: كان دخله لنفسه، مأذونا له في ذلك، فكان إذا أوى إلى منزله، جزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءا لله، وجزءا لأهله، وجزءا لنفسه، ثم جز جزأه، بينه وبين الناس فيسرد ذلك على العامة بالخاصة، ولا يدخر عنهم شيئا، وكان من سيرته في جزء الأمة، إيثار أهل الفضل، على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما أصلحهم، والأمة، من مسألته عنهم، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، ويقول: "ليبلغ الشاهد الغائب، أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه، ثبت الله قدميه يوم القيامة ... " ) >[19] وقال أيضا في وصفه لدخول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتعامله مع أصحابه،
[ ص: 48 ] رضي الله عنهم : " " أفضلهم عنده أعمهم نصيحة.. وأعظمهم عنده منزلة، أحسنهم مؤاساة ومؤازرة " "
>[20] فانظر كيف تفاضل عنده صلى الله عليه وسلم
أصحابه، بحسب نفعهم للناس.. وواجب امتثال أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم
بالشفاعة الحسنة، والتعرض لوعد الله بالأجر، يقتضي دراسة الواقع، الذي يراد فيه تنزيل هـذا الأمر، فالآية والحديث، فيهما تأصيل لخلق، وهو الشفاعة الحسنة، وتبقى طرائق تنزيله على الواقع وتصريفه، وتثبيته فيه، على مسؤولية المسلمين، في كل زمان ومكان، ليفترعوا أحسنها، وأكثرها ملاءمة لظروفهم.
وإن واقعنا اليوم، أقل ما يمكن أن يقال فيه: إنه يختلف كثيرا عن الواقع النبوي، وعن الواقع في العصور التي تلت، إلى عهد قريب، حيث كانت الشفاعة، تتم عبر العلماء، والوجهاء، والأعيان، عن طريق المثول، أمام الخليفة، أو السلطان، أو الوالي، قصد أن يقضي حاجات المحتاجين، ويسد خلتهم - وسوف تأتي معنا أمثلة، عن هـذا، إن شاء الله - أو يطلق سراح بعض المعتقلين، ولكن هـذه القناة وحدها أصبحت غير كافية، فهي بالإضافة إلى كونها، لا تضبط حركة استجابة المسؤولين، لمطالب الذين يشفعون، وتتركها رهينة بأمزجتهم، وإراداتهم الخاصة، مما يخلعها تتسم بالاضطراب، وتكتسي - إن حصلت - سربال الأنعام، والتفصل، مما ليس دائما صحيحا، بالإضافة إلى هـذا، فإن الشفاعة بهذا النمط وحده، لا تلائم مقتضيات المجتمع المتماثل إلى التمدن - حال مجتمعاتنا - التي تغرض، استعمال قنوات وآليات أخرى، لامتثال الأمر بالشفاعة الحسنة، الذي جاء في الكتاب والسنة.
[ ص: 49 ]
فالناس في العصر الحديث، أصبحوا يعيشون في مدن يتكاثف فيها السكان، ولا يجمعهم فيها، إلا أسباب العيش، وعلى مضض كبير، وقد تمت محاولات جاهدة، وتتم، لجمعهم في إطارات تنظمهم، وأنشئت لهذا السبب، قوانين تنظم إحداث الجمعيات، والأحزاب، والمؤسسات، التي تسهم في تأطير المواطنين، كما تم تقنين طرق إجراء الانتخابات، لاختيار مندوبين عن الشعب، يمثلونه ويتكلمون باسمه (يشفعون له شفاعة حسنة ) في المحافل المخصصة لذلك، كما ضبطت بشكل مجمل، لا يزال فيه اضطراب كبير، آليات للتعريف بالمفترض فيهم، أن يكونوا أكفياء لهذا الشأن.
غير أن كل هـذا، وفي غياب الوعي، المكن للتعاطي معه إيجابيا، وتنظيمه بحسب ما يلائم أرضيتنا القيمية، وفضاءنا الحضاري، وخلفيتنا التاريخية، وبنيتنا الاجتماعية بمختلف أبعادها، يبقى غير قادر، على تأطير واقعنا، بشك كاف، وفعال، مما يستلزم اجتهادات متجددة، في هـذا الاتجاه، شرعيا، وتنظيميا، وتربويا، وتعبويا، للوصول إلى المقصد، من إحداث كل هـذه القنوات والآليات، والذي هـو تفريخ هـموم الناس، بعد تبنيها بشكل ممنهج، مسترشد بالشرع الحنيف، من أجل الفوز بالنصيب من الشفاعة الحسنة، الذي وعد به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم
هذا وقد بين القرآن الكريم، أن الأنبياء، كان من مهامهم الأساسية - بعد الدعوة إلى الله - تبني هـموم أقوامهم، وآلامهم.. وآمالهم، فهذا نبي الله شعيب، يتبنى هـموم الستضعفين من قومه، فيخاطب في شأنهم المستكبرين، يقول تعالى حكاية عنه:
[ ص: 50 ] ( ألا تتقون *
إني لكم رسول أمين *
فاتقوا الله وأطيعون *
وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين *
أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين *
وزنوا بالقسطاس المستقيم *
ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) [الشعراء:177-183].
وهذا نبي الله يوسف، يتبنى مشاكل وهموم الناس، في السنين العجاف، ويتطوع لتحمل عبء توزيع المواد الغذائية، ليقوم بذلك بعدل، فلا يظلم أحد، يقول تعالى حكاية عنه:
( اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ) [يوسف:55].
قال
ابن كثير في تفسير هـذه الآية: "وسأل العمل، لعلمه بقدرته عليه، ولما فيه من المصالح للناس، وإنما سأله، أن يجعله على خزائن الأرض، التي يجمع فيها الغلات، لما يستقبلونه من السنين، التي أخبرهم بشأنها، فيتصرف لهم على الوجه الأحوط، والأصلح، والأرشد ... "
>[21] وهذان نبيا الله موسى، وهارون، يطالبان فرعون، أول ما خاطباه، بإطلاق سراح شعب بني إسرائيل، وعدم تعذيبهم، والكف عن استضعافهم، واستغلالهم فقال تعالى حكاية عنهما:
( إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى ) [طه:47].
نستخلص من هـذه الآيات الكريمات، أن هـذا الدين العظيم، قد غرس في المؤمنين به، التكافل، والتراحم، والتعاون، وبين ذلك في سلوك
[ ص: 51 ] من خلقوا، ليتأسى، ويقتدى بهم - الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - وجعل عدم الانخراط في هـذه الأوامر الإلهية، تكذيبا بالدين.. فهذا الدين "ليس أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة، يؤدي منها الإنسان، ما يشاء، ويدع منها ما يشاء.. . إنما هـو منهج متكامل، تتعاون عباداته، وشعائره، وتكاليفه الفردية، والاجتماعية، حيث تنتهي كلها إلى غاية، تعود كلها على البشر. . . غاية تتطهر معها القلوب، وتصلح الحياة، ويتعاون الناس، ويتكافلون في الخير، والصلاح، والنماء. . . وتتمثل فيها رحمة الله السابغة بالعباد.
ولقد يقول الإنسان بلسانه: إنه مسلم، وإنه مصدق بهذا الدين وقضاياه، وقد يصلي، وقد يؤدي شعائر غير الصلاة، ولكن حقيقة الإيمان، وحقيقة التصديق بالدين، تظل بعيدة عنه، ويظل بعيدا عنها، لأن لهذه الحقيقة علامات، تدل على وجودها، وتحقيقها.. وما لم توجد هـذه العلامات، فلا إيمان كامل، ولا تصديق، مهما قال اللسان، ومهما تعبد الإنسان.
إن حقيقة الإيمان، حين تستقر في القلب، تتحرك في فورها، لكي تحقق ذاتها في عمل صالح ... إن حقيقة التصديق بالدين، ليست كلمة تقال باللسان، إنما هـي تحول في القلب، يدفعه إلى الخير، والبر بإخوانه في البشرية، المحتاجين إلى الرعاية والحماية، والله لا يريد من الناس كلمات، إنما يريد منهم معها أعمالا، تصدقها، وإلا فهي هـباء، لا وزن لها عنده ولا اعتبار "
>[22] [ ص: 52 ]