المبحث الأول: عمل الصحابة رضوان الله عليهم
عمل الصحابة، مصدر معتبر من مصادر التشريع، وهو المصدر الثالث من مصادر فهم كتاب الله، بعد كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فهم رضوان الله عليهم، سليلو عهد البعثة، وهو عهد فيه حس الإدراك لكمال الشرع، ولمقاصده على وجه الصواب، مرتفع، لأنه عهد البنيان في حالة جدته، وكماله البشري الممكن، وهذا سبب رئيس، في كون سكوت عموم الصحابة، عن ممارسة معينة، حجة كافية على شرعيتها
>[1] ، فكيف إن نص على هـذه الممارسة في الكتاب والسنة، وحض عليها الصحابة، وعملوا بمقتضاها، وأجمعوا عليها، وذكر ذلك من فضائلهم في مدونات الحديث والسير، التي تحدثت عن فضائل الصحابة ؟
وفي ما يأتي، جوانب من تراجم بعضهم - رضي الله عنهم أجمعين- تنقل لنا مدى امتثالهم، لأوامر الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، الحاضة على تبني هـموم الناس:
1 -
عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
هـل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
ينادي به رضي الله عنه ، بعد مقتل
جعفر بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، في غزوة مؤتة ، ليخلفه في حمل اللواء (وهو في جانب العسكر،
[ ص: 63 ] ينهش ضلع جمل، ولم يكن ذاق طعاما قبل ذلك بثلاث، فرمى بالضلع، ثم قال: وأنت مع الدنيا، ثم تقدم فأصيبت إصبعه، فارتجز فجعل يقول:
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيـت
يا نفس إلا تقتلي تموتي هـذا حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقـد لقيت إن تفعلي فعلهما هـديت
وإن تأخرت فقد شقيت
ثم قال: يا نفس إلى أي شيء تتوقين ؟ إلى فلانة -لزوجته- ؟ فهي طالق ثلاثا..وإلى فلان، وإلى فلان -لغلمان له- ؟ وإلى معجف -اسم حائط له- ؟ فهو لله ورسوله.
يا نفس مالك تكرهين الجنه أقسم بالله لتنـزلنـه
طائعـة أو لتـكرهنه فطال ما قد كنـت مطمـئنه
هل أنت إلا نطفة في شنه قـد أجلب الناس وشدوا الرنه
فما زال رحمه الله حتى قتل، وكان ذلك في سنة 8 للهجرة
>[2] ، ولم يكن رضي الله عنه جنديا نظاميا -تماما كسائر أصحابه- وإنما قاتل في سبيل الله، من أجل نصرة دينه، وإبلاغ هـداه للناس، بتحطيم الحواجز التي تحجزهم عنه، وتمنعهم إياه.. ففي سبيل الله، ونصرة للمستضعفين، قد استشهد رضي الله عنه .
[ ص: 64 ] 2- أبو بكر الصديق رضي الله عنه
>[3] ( أبقيت لهم الله ورسوله) ..
عن
زيد بن أسلم ، عن أبيه، قال: (كان
أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، معروفا بالتجارة، ولقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده أربعون ألف درهم، فكان يعتق منها، ويقوي المسلمين، حتى قدم
المدينة ، بخمسة آلاف درهم، ثم كان يفعل فيها، ما كان يفعل
بمكة ) .
( وعن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، ووافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوما.. قال: فجئت بنصف مالي. قال: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا أبقيت لأهلك قلت: مثله . وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك فقال: أبقيت لهم الله ورسوله.. فقلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا. )
وكما أن أبا بكر رضي الله عنه -معتق
بلال - لم يكن يبخل بماله في سبيل الله، وعون المستضعفين، فلم يكن يبخل بنفسه كذلك، فقد (ذكر أهل العلم بالتواريخ والسير: أن أبا بكر، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا ، وجميع المشاهد، ولم يفته منها مشهد، وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، حين انهزم الناس، ودفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رايته العظمى يوم تبوك ) .
توفي رضي الله عنه سنة 13 للهجرة
>[4] [ ص: 65 ] 3- عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
( " لو مـات جـدي بطـف الفـرات، لخشـيت أن يحـاسـب الله به عمر " ) .. " كان رضي الله عنه ، زمان الرمادة، إذا أمسى، أتي بخبز، قد ثرد في الزيت، إلى أن نحروا يوما من الأيام جزورا، فأطعمها الناس، وغرفوا له طيبها، فأتي به، فإذا قدر من سنام، ومن كبد، فقال: أنى هـذا ؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، من الجزور التي نحرنا اليوم، قال: بخ، بخ، بئس الوالي أنا، إن أكلت أطيبها، وأطعمت الناس كراديسها -عظامها-، ارفع هـذه الجفنة، هـات لنا غير هـذا الطعام.. فأتي بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده، ويثرد ذلك الخبز، ثم قال: ويحك يا (يرفأ) ! ارفع هـذه الجفنة، حتى تأتي بها، أهل بيت (بثمغ) ، فإني لم آتهم منذ ثلاثة أيام، وأحسبهم مقفرين، فضعها بين أيديهم... "
>[5] " وقد خرج رضي الله عنه مرة، (في سواد الليل، فرآه
طلحة ، فذهب
عمر ، ودخل بيتا، ثم دخل بيتا آخر، فلما أصبح طلحة، ذهب إلى البيت ذلك، فإذا بعجوز، عمياء مقعدة، فقال: ما بال هـذا الرجل يأتيك ؟ قالت: إنه يتعاهدني، منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى، قال طلحة: ثكلتك أمك طلحة! أعثرات عمر تتبع "
>[6] وكان رضي الله عنه يقول: " لو مات جدي بطف -بشط- الفرات، لخشيت أن يحاسب الله به عمر "
>[7] [ ص: 66 ]
وقد شهد رضي الله عنه ، بدرا وأحدا ، والمشاهد كلها، واستشهد
>[8] سنة 23 للهجرة.
4 - عثمان بن عفان رضي الله عنه:
( ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم ) >[9]
لنستمع إلى الصاحب الشهيد، رضي الله عنه ، وهو يخاطب محاصريه يوم الدار، لعلهم ينثنون عن عزمتهم الظالمة،
( فعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: أشرف عثمان من القصر وهو محصور، فقال: أنشد بالله، من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قـال يوم حراء : ليـس عليه إلا نبـي، أو صديق، أو شهيد، وأنا معه. فانتشد له رجال.
قال: أنشد بالله، من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم بيعة الرضوان ، إذ بعثني إلى المشركين من أهل مكة، قال: هذه يدي، وهذه يد عثمان، فبايع. فانتشد له رجال.
قال: أنشد بالله، من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: من يوسع لنا بهذا البيت في المسجد، ببيت له في الجنة، فابتعته من مالي، فوسعت به المسجد. فانتشد له رجال.
قال: وأنشد بالله، من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم جيش العسرة ، قال: من ينفق اليوم نفقة متقبلة >[10] ، فجهزت نصف الجيش من مالي. قال: فانتشد له رجال. [ ص: 67 ]
قال: وأنشد بالله، من شهد رومة، يباع ماؤها ابن السبيل، فابتعتها من مالي، فأبحتها ابن السبيل. فانتشد له رجال. )
وأخرج
الترمذي ، في مناقب
عثمان ،
( عن عبد الرحمن بن خباب السلمي ، قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم ، فحث على جيش العسرة، فقال عثمان: علي مائة بعير، بأحلاسها، وأقتابها.. ثم حث، فقال عثمان: علي مائة أخرى، بأحلاسها، وأقتابها، قال: ثم نزل مرقاة من المنبر، ثم حث، فقال عثمان: علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بيده هـكذا: ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم ) >[11] 5 -
علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
" يا دنيا، يا دنيا! أبي تعرضت ؟ أم لي تشوفت ؟ هـيهات هـيهات، غري غيري، قد بتتك ثلاثا، لا رجعة لي فيك "
>[12] " يجيئه أمينه، ومؤذنه، ابن النباح يوما، فيقول: يا أمير المؤمنين! امتلأ بيت المال، من صفراء وبيضاء.. فقال: الله أكبر! ثم قام متوكئا على ابن النباح، حتى قام على بيت المال، فقال:
هذا جناي وخياره فيه وكل جان يده إلى فيه
يا ابن النباح! علي بأشياخ الكوفة، قال: فنودي في الناس، فأعطى جميع ما في بيت المال، وهو يقول: يا صفراء! يا بيضاء! غري غيري، هـا، هـا.. حتى ما بقي فيه دينار، ولا درهم، ثم أمر بنضحه، وصلى فيه ركعتين "
>[13] [ ص: 68 ]
وعن
الحر بن جرموز ، عن أبيه " قال: رأيت عليا، وهو يخرج، وعليه قطريتان، وإزار إلى نصف الساق، ورداء مشمر، قريب منه، ومعه درة، يمشي بها في الأسواق، ويأمرهم بتقوى الله، وحسن البيع، ويقول: أوفوا الكيل والميزان، ويقول: لا تنفخوا اللحم "
>[14] وقد شهد رضي الله عنه ، المشاهد كلها،مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يتخلف، إلا في تبوك ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه)
>[15] استشهد رضي الله عنه ، سنة 40ه.
6 -
الحسن بن علي رضي الله عنهما :
( ابني هـذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين ) >[16] يخرج رضي الله عنه ، من ماله مرتين، ويقاسم الله عز وجل ماله، ثلاث مرار، حتى إن كان ليعطي نعلا، ويمسك نعلا
>[17] مات رضي الله عنه ، سنة 50 هـ.
7 -
الحسين بن علي رضي الله عنهما :
ريحانة رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج رضي الله عنه ، في زمن
يزيد بن معاوية ، ليعيد الأمر، إلى نصابه، والإسلام إلى صفائه، فيقتل في سبيل الله، والمستضعفين،
[ ص: 69 ] بكربلاء ، يوم الجمعة - وقد كان يوم عاشوراء- من شهر محرم سنة 61ه.
>[18] 8 -
أبو سعيد الخدري (سعد بن مـالك بن سـنان) ، رضي الله عنه :
( لم يكن أحد، من أحداث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعلم من أبي سعيد الخدري ) ، (حنظلة بن أبي سفيان)
>[19] قال
ابن حجر ، في (الإصابة في معرفة أسماء الصحابة ) : (روى
ابن الهيثم بن كليب ، في مسنده، من طريق
عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد ، عن أبيه، عن جده،
( قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ، أنا، وأبو ذر ، وعبادة بن الصامت ، ومحمد بن مسلمة ، وأبو سعيد الخدري ، وسادس، على أن لا تأخذنا في الله لومة لائم، فاستقال السادس فأقاله ) >[20] ( وسمع مرة، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي قال فيه: لا يمنعن أحدكم مخـافة الناس أن يتـكلم بالحـق، إذا رآه، أو علـمه، قال أبو سعيد : فحملني ذلك، على أن ركبت إلى معاوية، فملأت أذنيه، ثم رجعت ) )
>[21] مات رضي الله عنه ، سنة 63هـ .
[ ص: 70 ]