ثالثا : السـبب التصـوري
سادت في العالم الإسلامي، خلال العصور الأخيرة، تصورات سلبية، حادت بالمسلمين عن المشاركة الإيجابية، في حل مشاكل مجتمعاتهم، وحادت بهم، عن التبني المتبادل، لهموم بعضهم بعضا، فقد كانت المسألة، مسألة الزهو، بخصائص الفكر الإسلامي، أمام الفكر الآخر، ولم تكن المسألة، مسألة الانطلاق، بالفكر الإسلامي، ليتحول إلى واقع حي، ينظم للإنسان حياته، بشمولية، واتزان
>[1] ، وقد حل هـذا بساحنا، في غياب الوعي، بأن البعد عن المعترك السياسي والاجتماعي - تجانف عن الشخصية الإسلامية، في اكتمالها، وتخل عن تاريخنا للآخرين، كيما يصوغوه بالشكل الذي يهيئ الأمة، لأن تخدم مصالحهم المتورمة، المتفقة مع ملامح المستقبل، الذي يرومون العيش في أكنافه.
[ ص: 106 ]
لقد كانت القضية المطروحة، هـي أن الدين شيء، والسياسة شيء آخر، فلا يجوز تسييس الدين، ولا تديين السياسة، لأن الدين، علاقة الإنسان بربه، بينما تمثل السياسة علاقة الإنسان بالإنسان!! واستراح هـذا التصور في الذهنية العامة، واستغرق فيه أغلب علماء الدين... ولعل هـؤلاء، الذي يطلقون هـذه الأفكار، من خلال هـذه الذهنية، ينطلقون من النظر إلى الممارسة القلقة، التي تتحرك فيها السياسة، في الواقع المعيش
>[2] ، لدى الفئات المنحرفة من الأمة، أو الجماعات الكافرة، في سلوكها القلق المنحرف، عن خط الإسلام، مما قد يخلق انطباعا، بأن السياسة، تعني الانحراف، في دائرة الكذب، والدجل، والنفاق، مما يختلف كليا،عن مفاهم الصدق، والإخلاص، والإيمان، فلا يمكن للإنسان المسلم الملتزم، أن يلتقي بها، من قريب، أو من بعيد، وربما كان بعض هـؤلاء، يفكرون، بأن الاقتراب من السياسة، يمثل الاقتراب من مواقع الخطر، الذي يلتقي، مع إلقاء النفس في التهلكة، المحرم شرعا، باعتبار أنه يمثل خط المواجهة، للقوى الكبرى، التي تملك القوة الساحقة المدمرة، والأجهزة الخفية الدقيقة، والإعلام الجبار، والمواقع الاقتصادية الواسعة، والمواقف السياسية الحاسمة، التي تؤدي إلى نتائج صعبة، على صعيد سلامة الواقع الإسلامي ككل
>[3] [ ص: 107 ]
إلا أن الممارسة السياسية في الإسلام، تخضع للضوابط الإسلامية، في أخلاقية السلوك، مما يمكن، أن يجعل حركتها مختلفة، عن الواقع السياسي المنحرف، من دون أن يدفعها ذلك، إلى السقوط في دائرة السذاجة، التي تسقط مواقفها، وتهز مواقعها، بفعل الأساليب الملتوية في سياسات الآخرين، لأن للأخلاق الإسلامية، واقعيتها، فيما يحمله ذلك من استثناءات، تنقذ الواقع، من المأزق، وتحمي الناس، من استغلال الآخرين، للقيم الروحية، أو الأخلاقية في الإسلام، بل تنسجم معها، في مرونتها العملية المتحركة، التي توحي، بأن المحرمات، انطلقت من أجل إنقاذ الإنسان، من الضرر، وتوجيهه نحو النفع، فإذا اقتربت، من الخط الأحمر، الذي قد يسقط معه الإنسان، فإن العزيمة تتوقف، لتفسح المجال للرخصة، التي تترك لها حرية الحركة -ضمن ضوابط معروفة ومقررة- في نطاق تحقيق الأهداف العليا
>[4] وهذا هـو الذي يجعل من جواز الكذب، في بعض المواقع، من مثل: (خذل عنا) ، ليتحول الكذب من قيمة محرمة في ذلك الموقع، إلى قيمة جائزة، تنقذ الموقف.. قال
ابن إسحاق ، في سياق كلامه عن غزوة الأحزاب : ثم
( إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله! إني قد أسلمت، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة ) ، فخرج نعيم بن مسعود، حتى أتى بني قريظة، وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال: يا
بني قريظة ، قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت،
[ ص: 108 ] لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن
قريشا ،
وغطفان ، ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم، وأبناؤكم، ونساؤكم، لا تقدرون أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا، وغطفان، قد جاءوا، لحرب محمد، وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم، وأموالهم، ونساؤهم، بغيره.. فأقنعهم ألا يتورطوا مع قريش، وغطفان في قتال، حتى يأخذوا منهم رجالا رهائن، كي لا يولوا الأدبار، فيبقون وحدهم في المدينة، دون أي نصير، على محمد، وأصحابه، فقالوا: إنه للرأي.. ثم خرج حتى أتى قريشا، فأنبأهم أن بني قريظة، قد ندموا على ما صنعوا، وأنهم اتفقوا خفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على أن يختطفوا عددا من أشراف قريش، وغطفان، فيسلموهم له، ليقتلهم، وقال لهم: إن أرسلت إليكم يهود، يلتمسون منكم رهنا من رجالكم، فإياكم أن تسلموهم رجلا منكم.. ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال لهم مثل الذي قال لقريش، وهكذا تألب بعضهم على بعض، وفقدت الثقة فيما بينهم، وأصبح كل فريق يتهم الآخر بالغدر والخيانة
>[5] ، فانفرط عقد وحدتهم، واختل أمرهم، وصارت عاقبته للمسلمين.
وهذا الأصل، هـو الذي يجعل الغيبة واجبة في نطاق حركتها، في ساحة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومستحبة في دائرة النصيحة للمسلمين، وجائزة مباحة في أحوال أخرى، ضمن ما أباحه الشرع، وهذا أيضا، هـو الذي يبعد المداراة من أن تكون نفاقا:
( إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة، من تركه الناس مخافة شره ) >[6] ، والانفتاح من أن
[ ص: 109 ] يكون تنازلا، والمهادنة من أن تكون استسلاما، إذا انضبطت بضوابط التشريع الإسلامي، الذي تحفل فيه القواعد العامة بالكثير من الاستثناءات، في الواجبات والمحرمات، وهي استثناءات تقدر بقدرها.
إن الإسلام دين واقعي، تتجلى واقعيته في تصوراته للإنسان، والكون، والحياة، وتتجلى في تشريعاته.. فالإسلام ينص على أن القدرة، هـي حد التشريع، الذي يقف عنده، فلا يتحرك إلا معها، فإذا انتهت القـدرة، وقف التشـريع حيـث هـو، لا يتقـدم، ولا يتـأخر:
( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) (البقرة:286) ،
( فاتقوا الله ما استطعتم ) (التغابن:16) ،
فليس هـناك ضيق على الإنسان في التشريع، بل هـو المجال الواسـع، الذي يجعـله يتحـرك براحة وحرية، فإذا ضاق عليه حكم، وسعـه آخر،
فهنـاك قاعـدة نفي الحرج:
( وما جعل عليـكم في الدين من حرج ) (الحـج : 78) ،
وقاعـدة: (الضـرار يزال ) ، وقاعدة: (لا ضرر ولا ضرار ) ، وقاعدة: (الأمر إذا ضاق اتسع ) .
فالواقعية اتجاه عام في الدين الإسلامي، وإذا كان هـذا هـو الأصل، فلن تشذ عنه الممارسة السياسة، فالإسلام واقعي أيضا، في ممارسته السياسية، إلا أن هـذه التصورات، حين اختفت في أذهان المسلمين، وغابت عنهم، هـذه الضوابط، أصيبوا بالجمود، الناجم عن حب، بل وهم التنزه، مما أسقطهم، في مفسدة إسلام أنفسهم، ومقدراتهم للآخرين، ليتصرفوا بذلك، كيف شاءوا، غافلين عن كون التجربة التاريخية، قد بينت، أن انخراط المسلمين، في مواجهة التحديات الاستكبارية
[ ص: 110 ] الساحقة، المفروضة على الواقع المسلم، بالآليات المناسبة، تقدح زند حركية المجتمع المسلم كله
>[7] ، بمنحها لأفراده الثقة بأنفسهم، وبإسلامهم، بحيث تصبح للفرد المسلم شخصية جديدة،تفصله عن الشخصيات الأخرى، لا انفصال العزلة عن الناس، ولكن انفصال الشخصية، ذات الملامح الأصلية، عن الشخصيات، ذات الملامح المزيفة، أو الخصائص الأخرى..
إن هـذه المغالبة، تنزع الإنسان المسلم، من استسلاميته للتيارات الأخرى، بملئها للفراغ، الذي تتركه الممارسة المحيدة، لعموم المسلمين، عن عملية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بكل مراتبه، فهي توقظ في الإنسان، الإحساس بالامتلاء، الذي لا يترك فراغا، تتسرب منه ساربة، من فكر، أو ممارسة، مبعدين عن مرضاة الله، مما تنهدم معه الهوة بين النص والواقع، بوجود الإنسان الفعال، الواثق بربه، وبدينه، الذي يكون بعقله، وبروحه، وجسمه، الجسر بينهما، كما تنهدم مع هـذه المغالبة، الهوة بين قدرات الإنسان المسلم وإنجازاته، لأن أصفاد الجهل بالدين، تحطم بتعلمه، الذي يفرضه الالتزام به، دينا شاملا لأبعاد الحياة كلها، تعلما مبينا للواجب فيها، مما يدفع إلى التدخل، لصياغة الخطط الإنجازية، لأوامر الله في الواقع،الذي تتكسر أغلال الجهل به أيضا، بفركه ومعالجته، مما يكسب الإنسان فكرا سننيا، رافضا للتواكل، وقدرة على
[ ص: 111 ] فهم حجم الأسباب، في بناء عمل الإنسان، في الأرض من المنظور العقيدي الإسلامي، والحركة، انطلاقا من بناء هـذا الدين التصوري، الذي انفلتت معالمه من أذهان جل المسلمين، وهذه أمور مجتمعة، تتجاوز بالإنسان المسلم وهدة العجز، التي يستهلك قطعها كل طاقات الإنسان.
إن التصور هـو الهيكل الذي ينشز عليه لحم السلوك، فيستوي بسوائه، أو ينحرف بانحرافه، ومن هـنا أهمية وخطورة الجانب التصوري في آن.