في الجاهليـة
سفارة عمرو إلى النجاشي
كان
عمرو ، وكان أبوه
العاص بن وائل ، من المجاهرين بالظلم لرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكل من آمن به
>[1] .
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هـو فيه من العافية، لمكانته من عمه
أبي طالب ، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هـم فيه من البلاء، قال لهم:
( لو خرجتم إلى أرض الحبشة ، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه ) ، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من
مكة إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هـجرة في الإسلام
>[2] ، وهي الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة، في السنة الخامسة، من النبوة
>[3] .
ولما رأت
قريش أن المسلمين المهاجرين، قد اطمأنوا بأرض الحبشة،
[ ص: 52 ] وأمنوا، وأن
النجاشي >[4] قد أحسن صحبتهم، ائتمروا بينهم، فبعثوا
عمرو بن العاص ،
وعبد الله بن أبي ربيعة >[5] ، ومعهما هـدية إليه، وإلى أعيان أصحابه، فسارا حتى وصلا إلى
أرض الحبشة ، فحملا إلى النجاشي هـديته، وإلى أصحابه هـداياهم، وقالا لهم: إن ناسا من سفهائنا، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دين الملك، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد أرسلنا أشراف قومنا إلى الملك; ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم، فأشيروا عليه، بأن يرسلهم معنا، من غير أن يكلمهم، وخافا إن يسمع النجاشي كلام المسلمين أن لا يسلمهم، فوعدهما أصحاب النجاشي المساعدة على ما يريداه.
ثم إنهما حضرا عند النجاشي، فأعلماه بالذي جاءا من أجله، إلى أرض الحبشة، فأشار أصحابه بتسليم المسلمين إليهما. وغضب الملك من ذلك، وقال: ( لا والله لا أسلم قوما جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم، وأسألهم، عما يقول هـذان الرجلان، فإن كانا صادقين، سلمتهم إليهما، وإن كانا على غير ما يذكر هـذان الرجلان، منعتهم وأحسنت جوارهم) .
[ ص: 53 ] " وأرسل
النجاشي إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعاهم فحضروا، وقد أجمعوا على صدقه فيما سره وساءه، وكان المتكلم عنهم جعفـر بن أبي طالب
>[6] ، فقال لهم النجاشي: ما هـذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا دين أحد من الملل؟! فقال
جعفر : (أيها الملك! كنا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا منا رسولا، نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا لتوحيد الله، وأن لا نشرك به شيئا، ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة، والصيام) ، وعدد عليه أمور الإسلام، قال: (فآمنا به وصدقناه، وحرمنا ما حرم علينا، وحللنا ما أحل لنا، فتعدى علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا، وظلمونا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورجونا ألا نظلم عندك، أيها الملك!)
وقال النجاشي: هـل معك مما جاء به عن الله شيء؟! فقال له جعفر:
[ ص: 54 ] نعم) ، فقال له
النجاشي : (فاقرأه علي ) ، فقرأ عليه صدرا من سورة (كهيعص) ، فبكى النجاشي، حتى اخضلت
>[7] لحيته، وبكت أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال النجاشي: (إن هـذا، والذي جاء به
عيسى ، ليخرج من مشكاة
>[8] واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون) . "
وخرج
عمرو وصاحبه، من عند النجاشي، فقال عمرو لصاحبه: والله لآتينه غدا، بما أستأصل به خضراءهم
>[9] ) ، فقال
عبد الله بن أبي ربيعة >[10] -وهو الذي أوفدته
قريش ، مع عمرو، إلى النجاشي، وليس
عبد الله بن أبي أمية الذي ذكره قسم من المؤرخين خطأ، بأنه كان مع عمرو في سفارته القرشية إلى النجاشي، لأنه لم يسافر إلى النجاشي مع عمرو
>[11] ، بل الذي رافقه بسفره هـذا هـو عبد الله بن أبي ربيعة
>[12] ، وكـان عبـد الله بن أبي ربيعة، أتقى الرجلين: عمـرو، وعبـد الله بن أبي ربيعـة-: (لا تفعـل، فإن لهم أرحـاما، وإن كانوا خالفـونا،
[ ص: 55 ] فقال
عمرو : (والله لأخبرنه، أنهم يزعمون، أن
عيسى بن مريم عبد) .
وغدا عمرو على
النجاشي من الغد، فقال: (أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه) .
وأرسل النجاشي إلى المسلمين المهاجرين إلى
أرض الحبشة ، فسألهم عن قولهم في المسيح، فقال
جعفر بن أبي طالب : (نقول فيه الذي جاءنا به نبينا: هـو عبد الله، ورسوله، وروحه، وكلمته، ألقاها إلى مريم العذراء البتول) ، فأخذ النجاشي عودا من الأرض، وقـال: (ما عدا عيسى ما قلت هـذا العود)
>[13] ، فنخرت بطارقته، فقال: (وإن نخرتم) ، وقال للمسلمين: (اذهبوا فأنتم آمنون، ما أحب أن لي جبلا من ذهب، وأنني آذيت رجلا منكم) ، ورد هـدية
قريش ، فخرج عمرو وصاحبه، مقبوحين، مردودا عليهما ما جاءا به، وأقام المسلمون معه بخير دار مع خير جار
>[14] .
وكان
أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ، حين علم أن قريشا بعثوا عمرو بن العاص وصاحبه إلى النجاشي، قد بعث أبياتا من الشعر للنجاشي،
[ ص: 56 ] يحضه على حسن جوار المسلمين المهاجرين، والدفع عنهم، جاء فيها:
ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر وعمرو وأعداء العدو الأقارب فهل نال أفعال النجاشي جعفـرا
وأصحابه أو عاق ذلك شاغب >[15] تعلم أبيت اللعن أنك ماجـد
كريم فلا يشقى لديك المجانب >[16] تعلم بأن الله زادك بسطـة
وأسباب خير كلها بك لازب >[17] وأنك فيض ذو سجال غزيـرة
ينال الأعادي نفعها والأقارب >[18]
[ ص: 57 ]
ولما عاد
عمرو وصاحبه إلى
مكة خائبين، ورأت
قريش أن الإسلام يفشو ويزيد، ائتمروا في أن يكتبوا بينهم كتابا، يتعاقدون فيه، على ألا ينكحوا
بني هـاشم ،
وبني المطلب ، ولا ينكحوا إليهم، ولا يبيعوهم، ولا يبتاعون منهم شيئا، فكتبوا بذلك صحيفة، وتعاهدوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة، توكيدا لذلك الأمر على أنفسهم.. فلما فعلت قريش ذلك، انحازت بنو هـاشم، وبنو المطلب، إلى
أبي طالب ، فدخلوا فيه في شعبه واجتمعوا، فأقاموا على ذلك سنتين، أو ثلاثا، حتى جهدوا، لا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سرا، حتى نقض الصحيفة نفر من قريش
>[19] .
لقد أخفق عمرو، في سفارته لمشركي قريش، إلى
النجاشي ، إخفاقا كاملا، بالرغم من أنه بذل كل ما يستطيعه بشر متميز، من أجل تحقيق هـدفه، وكان إخفاقه لأنه كان على الباطل، ولأن المسلمين كانوا على الحق، ولأن النجاشي كان حاكما عادلا منصفا.
[ ص: 58 ]