القـائـد
1 - في ولاية
عمرو بن العاص الثانية، التي بدأت سنة ثمان وثلاثين الهجرية، وانتهت بانتهاء حياته، سنة ثلاث وأربعين الهجرية، والتي كانت في خلافة
معاوية بن أبي سفيان ، لم يقتصر نشاط عمرو على القضايا الإدارية، بل شملت الفتوح، كما هـو دأبه دائما، وكان مجال نشاطه في الفتوح هـو ساحة
ليبيا وإفريقية (تونس) .
فقد عقد عمرو
لشريك بن سمي الغطيفي >[1] على غزو
لواتة (وقد تضم لامه) ، فغزاهم شريك في سنة أربعين، فصالحهم، ثم انتقضوا بعد ذلك على عمرو بن العاص، فبعث إليهم
عقبة بن نافع بن عبد القيس الفهري في سنة إحدى وأربعين الهجرية، فغزاهم
>[2] ، وانتهى عقبة بن نافع إلى لواتة،
ومزاتة في ليبيا، فأطاعوا ثم كفروا، فغزاهم في سنته، فقتل وسبى، ثم افتتح سنة اثنتين وأربعين الهجرية (
غدامس )
>[3] ، فقتل وسبى. وفتح سنة ثلاث وأربعين الهجرية
[ ص: 27 ] (
ودان ) ، وهي من
برقة ، وافتتح عامة
بلاد البربر >[4] ، كما عقد
عمرو لشريك مع
عقبة سنة ثلاث وأربعين الهجرية، فلما قفلا كان شديد الدنف من مرض موته
>[5] .
2 - وقد عودنا عمرو، أن يقود الفاتحين في ولايته إلى الفتوح، كما فعل في ولايته الأولى على
مصر على عهد
عمر بن الخطاب ،
وعثمان بن عفان ، رضي الله عنهما ، حيث قاد جيش المسلمين، الذي فتح
ليبيا ، ولكنه في ولايته الأولى اختار قائدين من قادته لتأمين استمرارية الفتوح، ويبدو أن أسباب تخليه عن القيادة هـي: لتوطيد الأمن والاستقرار في مصر، قاعدة فتح إفريقية، بعد الهزات العنيفة، التي اجتاحتها في أواخر عهد عثمان بن عفان، وفي أيام الفتنة الكبرى، وبعد الحروب التي عانتها، بين أهل الكوفة وأهل الشام، وانقسام أهلها شيعا وأحزابا.. والسبب الثاني، أنه أصبح شيخا طاعنا في السن لا يتحمل أعباء الجهاد بما فيه من مشقة، وتضحية، وفداء، كما يتحملها الشباب والكهول.. والسبب الثالث: أن أمراض الشيخوخة، أصبحت تعتاده وتلازمه، ولا تكاد تفارقه إلا قليلا.
ومنذ بدأ عمرو يزاول مهنة القتال ابتداء من غزوة بدر الكبرى ، التي كانت في شهر رمضان من السنة الثانية الهجرية، أصبح عمرو
[ ص: 28 ] يمارس هـذه المهنة بكفاية، ونجاح، ما دام قادرا على حمل السيف.. كان من حماة قافلة أبي سفيان
>[6] ، التي كانت السبب المباشر لغزوة بدر ، وشهد غزوة أحد ، التي كانت في شهر شوال، من السنة الثالثة الهجرية، مع المشركين على المسلمين
>[7] ، وشهد غزوة الأحزاب (الخندق) ، التي كانت في شهر شوال من السنة الخامسة الهجرية مع المشركين على المسلمين أيضا
>[8] .
ولم يقض المدة بين غزوة أحد، وغزوة الأحزاب متعطلا، فقد كان يعمل على إعداد مشركي قريش للحرب، كما كان يعمل لحشد الأحزاب للحرب أيضا، فكانت غزوة الأحزاب ثمرة من ثمرات جهوده المتواصلة مع أقرانه من أعداء الإسلام.
ولم يشهد
عمرو غزوة الحديبية مع المشركين، لأنه كان في سفارة لقريش لدى بلاط
النجاشي ملك الحبشة ، في محاولة طرد المسلمين من الحبشة، أو تسليمهم إلى مشركي قريش، ولكن سفارته الحبشية باءت بالإخفاق، لأن النجاشي لم يتجاوب مع عمرو، وحكم عقله، ومنطقه، فرفض ما عرضه عليه عمرو رفضا قاطعا، فعاد عمرو إلى قريش خائبا
>[9] .
[ ص: 29 ]
وأسلم
عمرو في السنة الثامنة، فتولى قيادة سرية من سرايا النبي صلى الله عليه وسلم ، وشهد كثيرا من غزواته، وكان سفيره إلى
عمان ، وعامله عليها، ومن عماله على الصدقة أيضا، كما ذكرنا ذلك بالتفصيل.
وبعد التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، سنة إحدى عشرة الهجرية، مضى عمرو في جهاده، فشهد حرب الردة ، وشهد فتوح الشام، وفتح مصر وليبيا، ولم يتخلف عن الجهاد يوما واحدا، حتى عزله
عثمان بن عفان عن مصر سنة سبع وعشرين الهجرية
>[10] على أصح الأقوال.
لقد أمضى عمرو في الحرب ست سنوات، في قتال المسلمين (2هـ-8هـ) ، وأمضي عشرين سنة في الجهاد، مع المسلمين قائدا فاتحا، وسفيرا وإداريا وجابيا، وامتدت ساحة عملياته من عمان على الخليج العربي شرقا، إلى مشارف
تونس من البحر الأبيض المتوسط غربا، في خدمة الإسلام والمسلمين.
ولم يكن عمرو قد تخلى عن سيفه بعد عزله عن مصر مختارا، بل كان مكرها، يتحين الفرصة السانحة ليعود إلى سيفه، أو يعود سيفه إليه، فلما انضم إلى
معاوية ، التحم في الاقتتال بين المسلمين في صفين ، وفي
مصر مرة أخرى، حتى توفي سنة ثلاث وأربعين الهجرية، فسقط المحارب، دون أن يسقط السيف من يده.
[ ص: 30 ]
3 - لقد أتيحت لعمرو فرصة القتال، والجهاد، والاقتتال، من السنة الثالثة الهجرية، حتى سنة ثلاث وأربعين الهجرية، حمل السيف إحدى وثلاثين سنة منها مختارا، وانتزع منه السيف عشر سنوات، أو نحوها قسرا، أي أنه أمضى خمسة وسبعين بالمائة من سني حياته التي أتيحت له خلالها حمل السيف، مقاتلا مجاهدا، ومقتتلا. وهو مقبل على سيفه، إقبال المحب الغاوي المحترف، مما أكسبه ممارسة طويلة لفنون القتال العملية، وتجربة عملية عريضة للقيادة في شتى الميادين، ومختلف الظروف والأحوال.
والتجربة العملية في الحرب، إحدى مزايا القائد العبقري الثلاث: الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، والتجربة العملية.
وبدون شك، كان عمرو من ذوي الطبع الموهوب في القيادة، فهو يحب هـذه المهنة، ويطلبها ويطالب بها، ويحرص عليها، ويغضب أشد الغضب، إذا جرد منها، ويأوي إلى من يهبها له، وينفر ممن لا يوفرها له، وحتى إذا تولى إمارة قطر من الأقطار، فإنه كان يسخر نفسه للقيادة في ميدان الحرب، ولا يسخرها للقضايا الإدارية، فهو يؤثر أن يكون غازيا، على أن يكون واليا، ويفضل أخطار القتال على الراحة في القصور، دون أن تؤثر واجباته في الجهاد في واجباته الإدارية.
وقد نافس أبا عبيدة بن الجراح، أمين الأمة، على القيادة في سرية ذات السلاسل ، وكان بإمرة
أبي عبيدة حينذاك
أبو بكر الصديق ،
[ ص: 31 ] وعمر بن الخطاب ، وغيرهما من كبار الصحابة، فانصاع
أبو عبيدة لإرادة
عمرو ، وأصبح بإمرته، وأبو عبيدة هـو من هـو، سابقة، وإيمانا، وجهادا.
كما أن عمرا، كان ألمعي الذكاء، حاضر البديهة، راجح العقل، حكيما داهية من دهاة العرب المعدودين.
أما علمه المكتسب، فقد كان كل عربي قبل الإسلام وبعده، يتعلم فنون الحرب السائدة في حينه: الرماية، والفروسية، واستعمال السيف، والرمح، والأسلحة الأخرى، وممارسة التعبية الصغرى في استخدام الأرض لحمايته من الرصد، والرمي، والتعسكر.. وكان عمرو قارئا، كاتبا، ومن مثقفي العرب القلائل في أيامه، مما أعانه على اكتساب العلوم النظرية والعملية في فنون القتال.
فلا عجب أن يمتد نشاط عمرو القيادي من
عمان إلى
تونس ، عبر آلاف الأميال، في قارتين من قارات العالم: آسية، وإفريقية، ثم لا يرتد له لواء في حروبه، بل يقود رجاله من نصر إلى نصر، ويبقى فتحه فتحا مستداما عبر القرون والأحقاب، مما يثبت أنه كان قائدا عبقريا حقا.
4 - وصفات عمرو القيادية، واضحة كل الوضوح من معاركه ونتائجها، فقد كان قادرا بكفاية نادرة على إصدار القرارات السريعة الصحيحة في مختلف الظروف والأحوال.. والقرار السريع الصحيح، يستند على عاملين رئيسين: القابلية العقلية للقائد أولا، والحصول على المعلومات عن العدو والأرض ثانيا.
[ ص: 32 ]
وقد تطرقنا إلى قابلية عمرو العقلية الفذة، بما فيه الكفاية، وبقي علينا أن نتطرق إلى العامل الثاني، وهو الحصول على المعلومات عن العدو والأرض.
لقد كان
عمرو يقدر حق التقدير قيمة الاستطلاع، لهذا كان يواجه عدوه وهو يعرف عنه كل شيء تقريبا، فيتحرك نحوه مفتوح العينين في النور لا في الظلام.
فقد كان من أسباب نجاحه في سرية ذات السلاسل ، أن أم العاص بن وائل والد عمرو من
بني بلي >[11] ، لذلك عاونه أخواله في تيسير مهمته، وأمدوه بالمعلومات الضرورية لإحراز النصر.
وكان لمعرفة عمرو بطبيعة بلاد الشام وفلسطين بخاصة: طبيعة أرضها، ومناطقها المناسبة للقتال، وبالطرق التقريبية إلى تلك المناطق، وبمزايا أهلها المحليين، ومزايا
الروم الدخلاء، أثر حاسم في انتصاره على الروم وحلفائهم في معارك فتح بلاد الشام.
والظاهر أنه لم يكتف بالمعلومات المتيسرة لديه عن
فلسطين بالذات، فأقدم على مغامرة استطلاعية فذة، فقام باستطلاع شخصي لمقر قائد الروم (أرطبون) ، واطلع على نقاط الضعف في مواضع الروم،
[ ص: 33 ] وقواتهم عامة، وقائدهم، وبذلك انتصر عليهم بعد مناوشات طالت كثيرا، ولكن هـذه المغامرة الاستطلاعية الخطيرة، كادت أن تكلفه حياته، لولا دهاؤه، وحسن تخلصه من موقفه العصيب.
وكان لزيارة
مصر ، التي قام بها
عمرو قبل إسلامه، أثر كبير في معرفته أحوال مصر وأخبارها، طرقها، وطبيعة أرضها، ومدى الاضطهاد الديني والسياسي، الذي يعانيه المصريون من الروم، فلا عجب أن يقدم عمرو على فتح مصر، وبقيادته ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل فقط، إذ لولا تيسر المعلومات الكافية لديه عن مصر، وأهلها، وعداوتهم للروم، واستعدادهم لمعاونة المسلمين دون الروم، لما كان من المعقول أن يقدم على فتح مصر بمثل هـذا العدد الضئيل من الرجال.