15 - وكان يحب رجاله، وكان رجاله يحبونه، وكانت المحبة المتبادلة شائعة بين القيادة والجنود، وقد قال له حرسه حين حضرته الوفاة: كنت لنا صحاب صدق، تكرمنا وتعطينا، وتفعل وتفعل
>[1] ، مما كان ينعم به عليهم، ويهبه لهم، ويكرمهم به.
ولكن
عمرا ، كان يعرف واجباته، فيؤديها كاملة، ويحاسب نفسه على أدائها، قبل أن يحاسبه غيره، ويعرف حقوقه، فيطالب بها، ويحاسب غيره عليها، ولا يتغاضى عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
كما كان يعرف حقوق رجاله، فيؤديها لهم أداء كاملا، ويعرف واجباتهم، فلا يسكت على إهمالها، أو أدائها غير كاملة، أو بشكل غير متقن.
والمحبة المتبادلة شيء، والحقوق والواجبات شيء آخر، وما كانت المحبة المتبادلة تؤثر في مجرى حقوق عمرو، وواجباته، وحقوق رجاله وواجباتهم.
" وقد كان رجل ممن خرج مع عمرو، حين خرج من
الشام إلى مصر ، أصيب بجمل له، فأتى إلى عمرو يستحمله، فقال له عمرو: تحمل مع صحابك حتى تبلغ أوائل العامر. فلما بلغوا العريش جاءه، فأمر له بجملين، ثم قال: لن تزالوا بخير، ما رحمتكم أئمتكم، فإذا لم يرحموكم هـلكتم وهلكوا. "
>[2] .
[ ص: 47 ]
وكان الذين لا يعرفون
عمرو بن العاص ، لا يستطيعون أن يميزوه عن رجاله في شيء، إذ كان كأحدهم: (ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد) ، كما وصف رسل
المقوقس عمرو بن العاص ورجاله
>[3] .
وكان عمرو يرفق بالحيوان الضعيف، وإنما سميت الفسطاط، " لأن عمرا لما أراد التوجه إلى
الإسكندرية ، لقتال من بها من
الروم ، أمر بنزع فسطاطه، فإذا فيه يمام قد فرخ، فقال عمرو: لقد تحرم منا بمتحرم. وأمر بالفسطاط فأقر كما هـو، وأوصى به من بقي. " ، ولما قفل المسلمون من الإسكندرية، قالوا: أين ننزل؟ قالوا: الفسطاط، لفسطاط عمرو، الذي كان خلفه
>[4] .. فإذا كان هـذا مبلغ رفقه بالحيوان، فهو برجاله أرفق.
ولكن حبه العميق لرجاله، لم يكن يمنعه أن يحثهم على أداء واجباتهم الكاملة، فقد كان عمرو يذمر
>[5] المسلمين، ويحثهم على الثبات، فقال له رجل من اليمن: إنا لم نخلق من حجارة، ولا من حديد
>[6] وعمرو كان يريد رجاله في أداء واجباتهم حجارة وحديدا في صلابتهم، لا يكلون ولا يملون.
[ ص: 48 ]
وحين أراد رجاله أن يوقدوا نارا في ليلة شاتية قاسية البرد، منعهم عمرو، وهدد من يوقد النار بقذفه فيها
>[7] ، وكان ذلك في غزوة ذات السلاسل ، على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا دليل جديد على حب عمرو لرجاله، لأنه لو سمح لهم بإيقاد النار، لاكتشف عدوهم قلتهم، واستمكن مواضعهم، ولقضى عليهم بسهولة ويسر.
وقد كان
عمرو يحب أخاه
هـشام بن العاص ، حبا عظيما، ويفضله على نفسه، كما ذكرنا، وكان هـشام يعمل بقيادة أخيه عمرو في معركة أجنادين ، من معارك فتوح الشام ، " ولما انهزم الروم يوم أجنادين انتهوا إلى موضع لا يعبره إلا إنسان، فجعلت الروم تقاتل عليه، وقد تقدموه وعبروه، وتقدم هـشام فقاتل عليه، حتى قتل، ووقع على تلك الثلمة فسدها، ولما انتهى المسلمون إليها هـابوا أن يوطئوه الخيل، فقال عمرو: (أيها الناس! إن الله قد استشهده، ورفع روحه، وإنما هـو جثة فأوطئوه الخيل) ، ثم أوطأه هـو، وتبعه الناس حتى قطعوه. " ولما انتهت الهزيمة، ورجع المسلمون إلى العسكر، كر إليه عمرو، فجعل يجمع لحمه وأعضاءه، وعظامه، ثم حمله في نطع
>[8] فواراه
>[9] .
لقد كان عمرو من أولئك القادة، الذين يبادلون رجالهم حبا بحب،
[ ص: 49 ] ولكن ليس على حساب الواجب، ولا تناقض بين المحبة المتبادلة، والحرص على الواجب لدى القائد حقا ورجاله، فهما متلازمان، وعليهما تبنى الثقة المتبادلة، التي لا تكون إلا بالمحبة المتبادلة، والعمل الدائب المتواصل من أجل إحراز النصر.
16 - وكان لعمرو شخصية قوية جدا، لكفاياته العقلية والخلقية المتميزة، وكان شخصية من شخصيات العرب قبل الإسلام وبعده.
كان سفيرا
لقريش في الجاهلية إلى الحبشة، كما ذكرنا، وكان قائدا من قادتهم، وكان من ذوي الرأي فيهم.
وبعد إسلام عمرو مباشرة قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " وكان عمرو يقول: ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبخالد بن الوليد أحدا من أصحابه في حربه منذ أسلمت " ، فكان من قادة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن سفرائه وعماله، وكتابه، ودعاته، كما كان من قادة
أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، ومن قادة
عمر بن الخطاب ،
وعثمان بن عفان ، رضي الله عنهما ، ومن عمالهما على مصر، ومن عمال
معاوية بن أبي سفيان ، وقادته حتى توفي عمرو بمصر، فكان يفرض شخصيته المرموقة، على الحكام والمحكومين، في الجاهلية والإسلام.
وحتى بعد أن عزله عثمان بن عفان عن
مصر ، لم يستطع تجاهل شخصيته الفذة، فكان يستقدمه في الملمات، ويستشيره في أموره.
[ ص: 50 ]
والحديث عن شخصية عمرو يطول، وإثبات أنه كان ذا شخصية قويـة جـدا، لا مسوغ له، لأنه واضـح معروف مشهـور، والمعـروف لا يعرف كما يقولون.
وكانت له قابلية بدنية فائقة، أعانته على تحمل أعباء القتال في الصحراء، وفي المناطق الحارة، كمنطقة الخليج العربي، والمناطق المعتدلة، كبلاد الشام،
ومصر ،
وليبيا ، وفي مختلف الفصول، شتاء وصيفا.
واحتفظ بهذه القابلية، حتى أواخر عمره، ويبدو أنه كان صحيح البدن، يتمتع بالصحة والعافية، لا يعاني الأمراض إلا قليلا. ولعل اهتمامه براحته حين يستقر، وابتعاده عن مواطن الأوبئة، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، واعتناءه بغذائه، وكسائه، ومسكنه، له دخل في اعتدال صحته، وعافيته، وتخلصه من الأمراض والأوبئة.
وكان له ماض ناصع مجيد: أبوه سيد من سادات قريش، وهو ناب من أنياب العرب، خدم قومه قريشا بكل طاقاته، المادية والمعنوية، في التجارة والسفارة، والسلم والحرب، وكان ذلك قبل إسلامه.
فلما أسلم، خدم الإسلام والمسلمين، خدمة لا ينافسه فيها كثير من أنداده، من القادة، والولاة، والسفراء، والنابهين، من المسلمين.
يكفي أن نذكر أن ماضيه المجيد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، جعله الوحيد من الصحابة الذي تولى القيادة، والسفارة، والولاية، وجباية الصدقات،
[ ص: 51 ] والكتابة، للنبي صلى الله عليه وسلم ، إذ من الصحابة من تولى منصبا من تلك المناصب، أو منصبين، ولكن لم يتولها واحد منهم مجتمعة للنبي صلى الله عليه وسلم أبدا.
ويكفي أن يكون قائدا من قادة
أبي بكر الصديق ،
وعمر بن الخطاب ،
وعثمان بن عفان ، ومن ولاة عمر، وعثمان،
ومعاوية ، وحسبه أن يقال عنه: إنه كان من ولاة عمر، وما كل أحد بقادر على تولي قطر من أقطار المسلمين لعمر.
ويكفي أن يكون أحد قادة فتح
أرض الشام بعامة،
وفلسطين بخاصة، وفاتح
مصر ،
وليبيا ، وجزء من
تونس .
ويكفي أن يكون له أثر في نشر الإسلام من الخليج العربي شرقا إلى امتداد ليبيا على البحر المتوسط غربا. ونشر العربية لغة في أرض الشام، ومصر، وشمال إفريقية.
إن ماضي عمرو ناصع مجيد، يضفي عليه مجدا وشرفا بغير حدود.