26 - إن عمرو كان يطبق مبادئ الحرب بكفاية، دون أن يتعلمها في المدارس العسكرية، والمعاهد، والكليات، بل تعلمها من تجاربه في الحياة، إذ لم تكن في أيامه، وفي محيطه مدارس عسكرية، ومعاهد، وكليات، تلقن مبادئ الحرب، والعلوم، والفنون العسكرية بعامة، فعلمته الحياة ما لم تعلمه المدارس، والمعاهد، والكليات.
ولكن عمرا لم يقتصر على مزايا القيادة، وصفاتها، وعلى تطبيق مبادئ الحرب بكفاية، بل كان يتسم بمزايا قيادية إضافية، من النادر أن يتسم بها القادة الآخرون، إلا في عدد محدود من القادة، على رأسهم الرسول القائد، عليه الصلاة والسلام ، وعدد محدود من قادة الفتح الإسلامي في القرن الأول الهجري، وعدد محدود من قادة المسلمين في القرون الأخرى، وعلى رأسهم
صلاح الدين الأيوبي [ ص: 86 ]
أول هـذه المزايا هـي: المساواة، فقد كان عمرو يساوي نفسه بغيره، ويساوي غيره بنفسه، لا فرق بين المسلمين، فهم سواسية، كأسنان المشط، وقد تسرب
عمرو أكثر من مرة إلى مقرات قادة أعدائه، أحصى المؤرخون منها ثلاث مرات، باعتباره أحد المسلمين، أو باعتباره رسول قائدهم، ولكن فطنة أولئك القادة جعلتهم يشكون أنه عمرو قائد المسلمين، وليس رسول عمرو أو أحد المسلمين، وكان مبعث شكهم رجاحة عقله، وحصافته، ومنطقه السليم، ولكنهم لم يقطعوا الشك باليقين، لذلك استطاع عمرو بدهائه التملص منهم، والتخلص من خطر عظيم، ولو أنهم أيقنوا أنه عمرو، لما ترددوا في قتله لحظة واحدة، لأنه كان عليهم وحده أخطر من جيش كامل، إلا أنهم شكوا، مما يدل على أن الغريب عن جيش المسلمين كان لا يفرق بين الأمير والأجير، والكبير والصغير، والغني والفقير، فكلهم سواء في المساواة المطلقة مظهرا.
" وفي أيام حصار حصن بابليون ، كانت الرسل تمشي بين الطرفين: عمرو والمقوقس، وأتت رسل المقوقس مقر عمرو، فحبسهم يومين وليلتين، حتى خاف عليهم المقوقس، فقال لأصحابه: أترون أنهم يقتلون الرسل، ويحبسونهم، ويستحلون ذلك في دينهم ؟ فأراد عمرو أن يروا حال المسلمين. فلما جاءت رسل المقوقس إليه، قال لهم: كيف رأيتموهم ؟ فكان من جوابهم:... وأجيرهم كواحد منهم، وما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد. "
>[1] [ ص: 87 ]
إن مبدأ المساواة، كان مطبقا في مجتمع عمرو أيام السلام، أما أيام الحروب، فكان عمرو يستأثر بالأخطار، ويؤثر رجاله بالأمن، وقد أنصف قومه من قدر على الدعة والرخاء، فاختار المشقة والخطر، ليحمي قومه، ويصد عنهم الأعداء.
27 - والمزية الثانية: هـي مزية الاستشارة، فقد كان عمرو يستشير أصحابه في كل المواقف الصعبة، كما كان يستشيره رؤساؤه المباشرون، وغيرهم من الناس.
وقد رأيت استشارة
عمر بن الخطاب لعمرو في ركوب البحر، وجواب عمرو على استشارة عمر، وامتناع عمر عن ركوب البحر نتيجة لمشورة عمرو.
ورأيت استشارة
عثمان بن عفان لعمرو في الاضطرابات الداخلية، مع أن عمرا يومها كان رجلا من رجال المسلمين، لا سلطة له على أحد، بعد عزله عن
مصر .
ورأيت استشارة
معاوية بن أبي سفيان لعمرو في كثير من المعضلات التي عاناها في السلم والحرب.
ورأيت استشارة قادة المسلمين في
بلاد الشام لعمرو في مجابهة الروم بعد اجتماعهم، فأشار عمرو على قادة المسلمين بالاجتماع في (
اليرموك ) ، فكان ما أراد عمرو.
أما عن استشارة عمرو لغيره، فقد رأيت استشارته لأصحابه
[ ص: 88 ] في الصلح والجزية، بين المسلمين وبين المقوقس، وبعد المناقشة اجتمعوا على عهد بين المسلمين وبين المصريين
>[2] .
واستشار
مسلمة بن مخلد الأنصاري في قتال حماة الإسكندرية لفتحها، فأشار عليه مسلمة
بعبادة بن الصامت ، لتولي قيادة فتح الإسكندية ، ففعل عمرو
>[3] . واستشارات عمرو لغيره كثيرة جدا، اقتصرنا على ذكر نماذج منها.
وقد استشار عمرو في السبايا والأسرى
عمر بن الخطاب ، واستشاره في تقسيم الأرض المفتوحة على الفاتحين، كما سبق ذكره من قبل، كما استشاره بكثير من القضايا الأخرى.
لقد كان عمرو يستشيره رؤساؤه من الخلفاء، وزملاؤه من القادة، وغيرهم من الناس، فكان لا يبخل برأيه الرصين على أحد.
وكان يستشير رؤساءه من الخلفاء، وزملاءه من القادة، وغيرهم من الناس، فيعمل بمشورتهم ما استطاع.
ولم يكن يتحيز لرأيه، ولا يتعصب لفكره، بل كان يحاول الأخذ بكل رأي راجح، مهما يكن مصدره، ومكانة صاحبه الاجتماعية.
لقد كان يتقن فن الاستشارة، وهو فن لا يتقنه إلا ذوو العقول والأحلام.
[ ص: 89 ]