21 - وكان عمرو، يطبق مبدأ: الأمن، وهو من أهم مبادئ الحرب، لتوفير الحماية لقواته، ومواصلاتها، وقاية لها من مباغتة العدو لها،
[ ص: 64 ] ومنعا للعدو من الحصول على المعلومات عن قواته، والأرض التي يقاتل عليها، ومواطن الضعف والقوة في قواته، عددا وعددا، وتنظيما وتسليحا، وقيادة ومعنويات، ومعاقل وحصونا.
فقد حرص على السرى ليلا، والاختفاء نهارا، كما فعل في مسير الاقتراب في سرية ذات السلاسل، كما حرص على عدم إيقاد النار، وعدم المطاردة في السرية، حفاظا على أمن رجاله.
وكان يخرج المقدمات، والمجنبات، والمؤخرات، والساقات، ويستخدم الدوريات الاستطلاعية، والدوريات القتالية، حفاظا على أمن رجاله، وللحصول على المعلومات عن العدو، وحرمانه من الحصول على المعلومات عن قواته وأرضه.
تلك أمثلة على تطبيقه مبدأ: الأمن، على النطاق التعبوي، لذلك لم يستطع عدوه أبدا مباغتة قواته، ولا الحصول على المعلومات الضرورية عنها.
أما تطبيقه هـذا المبدأ على النطاق السوقي، فمظهره فتح مصر لتأمين
بلاد الشام من الجنوب، والجنوب الغربي، ومن الغرب باتجاه البحر، وفي فتح ليبيا لتأمين حدود مصر من الغرب، ومحاولته فتح النوبة، لتأمين مصر من الجنوب، وفتح إفريقية لتأمين حدود ليبيا الغربية.
[ ص: 65 ]
وهكذا كان عمرو في تطبيقه مبدأ الأمن، لا يحمي قواته التي بقيادته وحسب، بل يحمي حدود الدولة الإسلامية على المدى القريب والبعيد.
22 - وكان عمرو يطبق مبدأ: المرونة، وهو المبدأ الذي كان يسمى قبل الحرب العالمية الثانية (1939م-1945م) بمبدأ: قابلية الحركة، فأصبح يسمى بعد تلك الحرب مبدأ: المرونة، لأن قابلية الحركة تدل على الحركة المادية، وهي صفة نسبية، لا يعبر عنها تعبيرا صحيحا، إلا بالمقارنة مع قابلية حركة العدو.
إن المرونة تعني أكثر من ذلك، إنها لا تتضمن قوة الحركة حسب، بل قوة العمل السريع كذلك، فعلى القائد أن يكون مرن الفكر، وعليه أن يطبق تلك المرونة عند وضع الخطط لحملته، وأن تكون خططه بشكل يمكنه من أن يعدل سريعا في عمليات قواته حين تضطره الظروف، التي لم تكن بالحسبان.
ولعل من نافلة القول إثبات ما كانت تتمتع به خطط عمرو التعبوية والسوقية من مرونة، كما كانت المرونة تسيطر على تطبيق تلك الخطط في ميادين القتال. فقد كان عمرو ألمعي الذكاء، حاضر البديهة، واسع الأفق، عاقلا، متزنا، مجربا، قارئا، كاتبا.. ونتيجة لكل ذلك، كانت قراراته سريعة صحيحة، وخططه موفقة سليمة.. والموقف يتبدل بسرعة في القتال تارة، وببطء تارة أخرى، فكانت خطط عمرو مرنة جدا، لتناسب المواقف المتبدلة باستمرار في المعركة، لذلك كانت
[ ص: 66 ] خططه ناجحة للغاية في مجال التطبيق العملي.
وقد كان يستفيد من الفرسان بما عرف عنهم من قابلية سريعة للحركة، واندفاع في تحمل الواجبات، التي تحتاج إلى سرعة الحركة لإنجازها، كما فعل بعد فتح طرابلس ، حيث فتح
صبراتة بسرعة الحركة كما ذكرنا.
23 - وكان يطبق مبدأ التعاون، وهو توحيد جهود الطاقات القتالية; لبلوغ الغرض المطلوب من المعركة.
ولكن تعاون عمرو، كان يشمل نطاقا أوسع من توحيد جهود المقاتلين، لإحراز النصر، فقد كان متعاونا مع قيادته العليا، ومع القادة العامين من أنداده، ومع صنوف جيشه، ومع قادته المرءوسين، ومع السكان المحليين أيضا، لتحقيق هـدفه الأول، وهو إحراز النصر، مع تحقيق أهدافه الأخرى في العلاقة الاجتماعية، والأخوة الدينية، والإفادة من القادرين على القتال محليا، لدعم جيشه بالرجال، والقضايا الإدارية.
فقد كان عمرو متعاونا مع قيادته العليا (الخليفة) تعاونا وثيقا، فكان يستشير الخليفة فيما يعترضه من معضلات، كما فعل باستشارة
عمر بن الخطاب في أسرى منطقة الإسكندرية، فأمر عمر بردهم، بعد أن يخيرهم بين الإسلام وبين البقاء على دينهم
>[1] ، كما ذكرنا ذلك..
[ ص: 67 ] وكما فعل باستشارة
عمر بن الخطاب في قسمة أرض مصر، فأمر عمر أن تبقى غير مقسمة، ويبقى ريعها للمسلمين كافة، لا لقسم منهم
>[2] .. وكما استشاره في الإقدام على فتح إفريقية ، فلم يوافق عمر على فتحها في حينه
>[3] .
وكان عمرو متعاونا مع القادة العامين من أمثاله، وأنداده، كأفضل ما يكون التعاون، فقد عقد أبو بكر الصديق
لأبي عبيدة بن الجراح ،
وعمرو بن العاص ،
وشرحبيل بن حسنة ،
ويزيد بن أبي سفيان ، ألوية لفتح
بلاد الشام ، وكان لكل قائد من أولئك القادة، قيادته المستقلة، على منطقته الخاصة به من بلاد الشام، وكان عمرو على
فلسطين ، فإذا اجتمع قائدان أو أكثر في منطقة من مناطق الفتح، كان القائد العام على الجميع هـو قائد تلك المنطقة
>[4] ، فتعاون
عمرو مع أشقائه القادة الآخرين، تعاونا وثيقا، بالرأي السديد، وبالحرب والقتال، كما تعاون مع أولئك القادة،
وخالد بن الوليد في معركة اليرموك، تعاونا وثيقا، وكان هـو صاحب فكرة اجتماع المسلمين في
اليرموك ، كما أسلفنا.
وكان يجعل بحكمته، وقيادته الفذة، التعاون بين صفوف جيشه وثيقا متكاملا، وكان من ثمرات هـذا التعاون الوثيق، ما أحرزه المسلمون بقيادة عمرو من انتصارات متعاقبة شرقا وغربا.
[ ص: 68 ]
وكان عمرو متعاونا مع قادته المرءوسين، فقد أرسل قادته إلى نواحي مصر بعد فتح حصن بابليون ، ففتح كل قائد منهم المناطق التي وكل له فتحها، لأن عمرا كان يتعاون معهم، ويعاونهم بكل ما يحتاجون إليه، للنهوض بتنفيذ واجباتهم المرسومة.
وكان يتعاون مع السكان المحليين، كما فعل في سرية ذات السلاسل ، إذ استعان بقسم من المسلمين في تلك المناطق، كما ذكرنا سابقا.
وفي فتح مصر، عاونه المصريون، فكان القبط الذين كانوا
بالفرما أعوانا لعمرو
>[5] ، وعاونه
المقوقس >[6] ، كما عاونه القبط، حين خرج لفتح الإسكندرية ، فقد خرج معه جماعة من رؤساء القبط: أصلحوا للمسلمين الطرق، وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعوانا على ما أرادوا من قتال
الروم >[7] .
ولا يمكن أن نجد قائدا في التاريخ العسكري القديم أو الحديث، تعاون مثل هـذا التعاون الوثيق على أوسع نطاق مع من فوقه، ومع من يساويه، ومع مرءوسيه قادة وجنودا، ومع السكان المحليين من عرب وعجم، ومسلمين وغير مسلمين، فقد عهدنا أكثر القادة، يكون
[ ص: 69 ] متعاونا مـع من فوقـه، ولا يكـون مع أنـداده ومرءوسيـه.. ومنهم مـن لا يتعاون مع من هـو أعلى منه، ويتعـاون مع أنـداده ومـرءوسيـه.. وما أقل القادة الذين تعاونوا مع السكان المحليين.
ولكنه عمرو، في عقليته الراجحة، وكياسته، وحصافته، ودهائه، وبعد نظره، وهو قبل ذلك وبعد ذلك، آلف مألوف، سريرته كعلانيته، وعلانيته كسريرته، يعرف حقوقه وواجباته، فيؤدي واجباته، ويطالب بحقوقه، لا يعتدي على أحد، ولا يرضى أن يعتدي عليه أحد، أو على غيره من الناس.