ج - نعمة الولد في الفقه الإسلامي
1- شرع الزواج في الفقه الإسلامي ليحقق للفرد أهدافا ثلاثة، لا غنى عنها لأي إنسان، وهي أولا: الحصول على الولد، على نحو مشروع لا شبهة في نسبه، ومن هـنا فرضت أحكام العدة في فقه
[ ص: 47 ] الأسرة.. وثانيا: إرضاء الغريزة الفطرية من خلال قناتها المشروعة أيضا، ومن ثم أتيح في شرع الإسلام للزوجة من الزينة والتبرج داخل بيتها ما لم يتح لها خارجه على اعتبار أن هـذه الزينة مقدمات طبيعية، ومخاض يكاد يكون ضروريا لقضاء هـذه الغريزة وفق صحيح الشرع، وصحيح العقول السليمة.
يقول ربنا سبحانه:
( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم ) ( البقرة:223) ، وللقاضي
ابن العربي تعليق لطيف على النص، فارجع إليه إن شئت
>[1] .
أما الهدف الأخير، والثالث فمفاده: الأنس النفسي إلى الإلف، والسكن إليه، والتعاون معه على شدائد الحياة، وأحداثها، وصروفها.. وكل أهداف أو دوافع الزواج عند كل الناس لا تخرج عن هـذه الثلاثة، وقد لا تتحقق ثلاثتها في كل زواج، وعندئذ يكفي تحقيق بعضها، فالتكامل المثالي ليس شرطا، ولا ضرورة.
2- والزواج الذي له هـذه الأهمية في هـناءة الفرد، وسلامة المجتمع والأمة، قد يحكم شرعا بأنه واجب أو فرض، وبأنه مباح أو سنة، أو مكروه أو حرام، وذلك بحسب اختلاف حال الإنسان من ناحية الرغبة فيه، والقدرة عليه، وعلى ما يقتضيه، والعجز عنه، وعن تبعاته.
[ ص: 48 ] ولا شك أن الولد قاسم مشترك في كل ذلك، يقول
الإمام الشافعي رحمه الله، في ذلك: فإن الله تعالى أمر بالزواج، ورضيه وندب إليه، وجعل فيه منافع لهم،
( وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم، حتى بالسقط ) ،
( وقال: من أحب فطرتي فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح ) ، وروي أيضا أنه قال في الحض عليه: " إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده "
>[2] .
3- والولد بشرى في القرآن الكريم، قال تعالى في قصة
إبراهيم عليه السلام :
( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ *
فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط *
وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) ( هـود:69-71) ، وقال تعالى في قصة
زكريا عليه السلام :
( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى ) ( آل عمران:39) .
ومن لوازم هـذه البشرى، أن تنمو وتترعرع في جو إيماني، ومن ثم فإن عقيدة التوحيد ركن أساس في بناء الأسر المسلمة، لذلك لا تحل مصاهرة المشركين، والمشركات،
[ ص: 49 ] قال تعالى:
( ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ) ( البقرة:221) ، فإذا ما علمنا أن المراد بالأمة هـنا، الآدمية، وأن المراد بالعبد المشرك كل كافر بالحقيقة، أدركنا عمق المعنى المطلوب في النص
>[3] .
وإذا اعتبر التوحيد الخالص في الأبوين شرطا لإتمام، وصحة الزواج في الإسلام، فإن مناط ذلك استنبات الولد في محاضن خالية من الشرك، عندما يكون نطفة أو علقة يركض في أصلاب أمه. وامتدادا لهذا المعنى، كانت سنة الآذان في سمعه عندما يرى الدنيا للمرة الأولى في حياته، يقول
ابن القيم يرحمه الله في ذلك: أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان، كلمات نداء العلوي المتضمنة لكبرياء الرب، وعظمته، والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها، وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به، وإن لم يشعر.
>[4] .
[ ص: 50 ]
ومن مقتضيات صفاء المناخ العقائدي للطفل في الإسلام، حسن تسميته، وتكنيته، حتى ولو كان أنثى كأم عمارة، واسمها
نسيبة بنت كعب الأنصارية ، وقد تتخذ الكنية اسما، وتسمى بها البنت، كأم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم .. وحجم الأسرة في الإسلام يمتد، ليشمل كل القرابات من العصبات، وذوي الأرحام.. وتشريعات النفقة، والميراث بل والدية تمتد كذلك لتشمل هـذا الحجم، وفي الحديث الذي رواه
مسلم : أن أعظم الأجر في الدنيا الذي ينفق على الأهل، بما فيهم الولد، بل إن الأب في الإسلام يؤمر بالنفقة على الولد، منذ هـو نطفة في بطن أمه، تحدثا بنعمة الولد
>[5] .
ومن مقتضيات بشرى الولد -في الإسلام- الإحسان إليه صغيرا، وعدم التكلف معه، وفي
( حديث أبي هـريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي ، وعنده الأقرع بن حابس . فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحدا منهم، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من لا يرحم لا يرحم ) >[6] .. كما أن من مقتضياتها أيضا، حسن التربية، خلقيا، وعقليا
>[7] ، دون شدة أو قسوة، وكان ابن خلدون
[ ص: 51 ] رحمه الله ضد التربية بالقسوة والشدة، ومن أقواله: " من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر، وضيق على النفوس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه الى الكسل، وحمله على الخبث خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلى المكر، والخديعة، ولذلك صارت له هـذه عادة، وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له "
>[8] .
4- ويدخل في اهتمام الإسلام بالنسل تحريم الزنا، ودواعيه، حتى لا تختلط الأنساب، وقد جاء في صحيح السنة
( قول النبي صلى الله عليه وسلم أيما أمرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله عنه، وفضحه على رءوس الأولين والآخرين ) >[9] ومن هـنا حرم الشارع قتل الجنين، وأوجب الضمان المالي والكفارة على كل من يتعدى على تلك النفس البريئة، كما أوجب الحد على الزناة وأهل الدعارة، وبهذا يضفي الشرع حماية على الولد، حتى في مرحلة وجوده في صلب أبيه وترائب أمه، ثم يرعاه علقة أو مضغة يركض في أصلابها، ثم تمتد هـذه الرعاية، بعد انفصاله من أمه ثم اشتداد عوده.
[ ص: 52 ]
5- وإذا كان الإسلام يعتبر التناسل أمرا طبيعيا بين الأحياء، ومن أهم مقاصد الزواج، فإنه يرى كذلك أن التعدد في الأولاد أمرا لا بد منه لإكمال عملية التنشئة والتطبيع الاجتماعي، حيث عيش الطفل وحيدا يعرضه لمشاكل نفسية واجتماعية عديدة، ثمرة لحياة العزلة، ومن جانب آخر فإن كثرة الأولاد فيها قوة وحماية للأسرة والمجتمع. انظر إلى قوله تعالى:
( والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون ) (النحل: 72).
وعلينا أن نلاحظ إضافة الأزواج إلى النفس في النص الكريم، حيث جعلت الإضافة إلى الرجال دون النساء، لأن الرجل أصل للمرأة في الوجود، وقوامها في المعاش، وأميرها في التصرف، وعاقلها في النكاح، ومطلقها من قيده، وعاقل الصداق والنفقة عنها فيه، وواحد من هذا كله- كما يقول القاضي ابن العربي- يكفي للأصالة، فكيف بجميعها؟
أما إضافة البنين والحفدة إلى الزوجة دون الزوج، مع أن وجود البنين يكون منهما معا فسره: أنه لما كان تخلق الودود فيها، ووجوده ذا روح وصورة بها، وانفصاله كذلك عنها، أضيفت إليها، ولأجله
[ ص: 53 ] تبعها في الرق، والحرية، وصار مثلها في المالية، ولأن الطفل- في الأصل- انفصل عن الأب نطفة لاقيمة له، ولا مالية فيه، ولا منفعة مثبوتة عليه، وإنما اكتسب ما اكتسب بأمه ومنها، فلأجل ذلك تبعها، كما لو أكل رجل، تمرا في أرض رجل فسقطت منه نواة في الأرض من يد الآكل فصارت نخلة، فإنها ملك صاحب الأرض دون الآكل بإجماع من الأمة، لأنها انفصلت من الآكل ولا قيمة لها
>[10]
أما لفظ الحفدة، ففيه إشارة إلى مطلوب الشارع من الكثرة في الولد، حيث فسر بأنه ولد الرجل، وولد ولده، أو أعوان الرجل، وخدمه كما يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وقد روى ابن القاسم عن مالك، قال: وسألته عن قول الله تعالى:
( بنين وحفدة ) ، ما الحفدة؟ قال: الخدم، والأعوان في رأي.. ثم إن من يفقد من هذه الكثرة، له عوض عادل من الله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسوة من الأنصار:
( لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه إلا دخلت الجنة، فقالت امرأة منهن: أو اثنين يا رسول الله قال: أو اثنين ) >[11] .
[ ص: 54 ]