المبحث الثاني
جوانب الحماية في اختيار دار الأرقم
لقد وقع اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم على دار الأرقم، لتكون مقرا غير معلن للمستجيبين من المؤمنين، وذلك لتفردها بعدة صفات، وميزات سنحاول الوقوف عندها في هـذا المبحث بإذن الله.
- ميزات في اختيار دار الأرقم مقرا :
لما دخل في دين الله ما يربو على الثلاثين، وكان من اللازم اجتماع الرسول صلى الله عليه وسلم بهم، ليعلمهم أمور دينهم، اختار الرسول صلى الله عليه وسلم دار
الأرقم ابن أبي الأرقم >[1] .. وربما وقع الاختيار عليها دون سواها، لاعتبارات وميزات أمنية، تفردت بها عن غيرها، تتمثل في الآتي :
- تقع هـذه الدار على
الصفا ، وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم
>[2] ، ولا تخفى الأهمية الأمنية لهذا الموقع، فكونها
[ ص: 38 ] في معزل، يجعلها بعيدة عن مراقبة
قريش ، الأمر الذي يجعلها محاطة بالسرية، ولا تحتاج عملية الوصول إليها، أو الخروج منها، إلى كبير عناء، أو احتياطات معقدة، كما أن بعدها عن مجالس قريش يزيد من ميزتها، فمجالس قريش عادة ما يدور فيها الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه، فإذا كانت قريبة من تلك المجالس سهل رصد ومراقبة القادمين إليها والخارجين منها.
- كما أن لموقعها أسفل
جبل الصفا ، ميزة أخرى تضاف إلى الميزات الآنفة، فلو كانت في أعلاه، لأصبحت مكشوفة وسهلت مراقبتها.
- ثم إن الدار ليس فيها موضع، يمكن أن يستغله أعداء الدعوة، فيطلعوا من خلاله على ما يدور بداخلها، وهذا مما يجعل ما بداخلها بعيدا عن أعين الأعداء.. يضاف إلى ذلك، أن صاحبها الصحابي (
الأرقم ) ، لا يمكن أن يبوح بسر إعطائه هـذه الدار للمؤمنين، هـذا بخلاف ما إذا كانت الدار لكافر.
- كما أن الأرقم لم يكن معروفا بإسلامه، ولم يعلن إسلامه بعد، فما كان يخطر ببال قريش أن يتم لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بداره.. أضف إلى ذلك أنه كان فتى عند إسلامه، فلقد كان في حدود السادسة عشرة من عمره، ويوم تفكر قريش في البحث عن مركز التجمع الإسلامي، لا يتوقع أن تبحث في بيوت الفتيان الصغار من
[ ص: 39 ] أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل يتجه نظرها وتفكيرها إلى كبار الصحابة رضي الله عنهم .. هـذا إلى جانب أن
الأرقم من
بني مخزوم ، التي كانت تحمل لواء الحرب ضد
بني هـاشم ، فلو كان الأرقم معروفا بإسلامه، لصعب أن يكون اللقاء في داره؛ لأن هـذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو
>[3] .
ويلاحظ أن هـذه الدار كانت محاطة بالكتمان التام، ولم يرد فيما اطلعنا عليه أن
قريشا داهمت ذات يوم هـذا المقر السري، بل أقصى ما توصلت إليه هـو شكها أن يكون اللقاء في دار عند الصفا.. ومما يدل على ذلك، أن قياديا مثل
عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، عندما أراد إعلان إسلامه، لم يعرف مكان النبي صلى الله عليه وسلم ، فلو كانت تلك الدار معلومة لدى قريش، لما سأل عنها، بل لذهب إليها مباشرة.. وهذا يظهر مدى حرص الصحابة رضي الله عنهم على إخفاء خبر هـذه الدار، فلم يبوحوا بها إلى أحد سوى المسلمين فقط.
- ولعل تنظيم الدخول والخروج، من العوامل الهامة، التي ساعدت على الاحتفاظ بسرية المقر، فعملية الخروج والدخول إذا لم تنظم، تعتبر من أخطر الجوانب الأمنية، التي يؤدي إغفالها إلى كشف ومعرفة المقر.. وهذا التنظيم الدقيق، يظهر لنا من خلال موقفين :
[ ص: 40 ]
الأول، لسيدنا
علي مع سيدنا
أبي ذر ، رضي الله عنهما . فعندما أراد سيدنا علي أخذ سيدنا أبي ذر إلى دار الأرقم، لمقابلة الرسول صلى الله عليه وسلم ، اتفق معه على مصطلح معين في حالة وجود مراقبة، أو متابعة من قبل الأعداء، " فقال له : (إن رأيت أحدا أخافه عليك، قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي " ، وفي لفظ : (كأني أريق الماء، فامض أنت)
>[4] . وبناء على هـذا النص، يتجلى الاهتمام بعملية الذهاب إلى المقر، فهو يدل على أن
علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، كان يراقب الأعداء أثناء ذهابه إلى المقر، فإذا رأى من يراقبـه غير وجهتـه، وأمـر أبا ذر هنا أن يغير وجهته، بقوله : (فامض أنت) .
والموقف الثاني،
لأم جميل مع سيدنا أبي بكر رضي الله عنهما . فعندما أخذت أم جميل وأم الخير سيدنا
أبا بكر رضي الله عنه ، إلى دار الأرقم، قال ابن كثير : (فأمهلتا أي أم جميل وأم الخير حتى إذا هـدأت الرجل، وسكن الناس، خرجتا به، يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم )
>[5] هذا السلوك، يعتبر قمة الاحتياط، لعملية الذهاب، ففي هـذا الوقت، عندما تهدأ الأرجل، ويسكن الناس، تقل أو تنعدم المراقبة، وبالتالي يكون الذهاب إلى المقر محاطا بالاحتياطات شبه التامة.
[ ص: 41 ]
ومن جوانب الحماية التي روعيت في دار الأرقم، تصميم الباب الذي ترك فيه شقوق أي فتحات يمكن من خلالها مشاهدة من بالخارج، ومعرفة هـويته، ومن ثم يتم التصرف، وفقا لذلك، ويظهر لنا ذلك في قصة إسلام سيدنا
عمر رضي الله عنه ، حين طرق الباب، فقبل أن يفتح له، نظر أحد الصحابة من خلل الباب، فتأكد من هـوية الطارق، بأنه عمر، جاء متقلدا سيفه
>[6] ، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم .. فوجود هـذه الفتحات، ييسر معرفة الطارق.. ولكن هـناك أمر لا بد من مراعاته، هـو أهمية تغطية هـذه الفتحات من الداخل أو تصميمها بطريقة تمنع من بالخارج من رؤية الذي بالداخل، مثل ما تعارف الناس على تسميته اليوم (بالعين السحرية)
>[7] .. وذلك حتى لا تكون هـذه الفتحات ثغرات، يطلع من خلالها أعداء الدعوة على ما يدور بداخل المقر.
ومن جوانب الحيطة أيضا، التصرف السليم إبان حالات الطوارئ، وهو شيء ضروري وهام، ويعد مكملا للالتزام بالمنهج الأمني، فإذا ظهر طارئ، بالرغم من الاحتياطات، يأتي هـنا دور التصرف السليم لدرء هـذا الطارئ، فما قام به النبي صلى الله عليه وسلم تجاه سيدنا عمر، حينما دخل دار
الأرقم بن أبي الأرقم ، يعد تصرفا مهما ودقيقا، يتناسب والموقف.. فساعة دخول سيدنا عمر رضي الله عنه ، قام إليه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بمجامع ثوبه، وحمائل سيفه، وقال : ما أنت بمنته يا
عمر ،
[ ص: 42 ] حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزله الله بالوليد؟
>[8] .
والحكمة من هـذا التصرف، تظهر من أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمجامع ثوبه، وحمائل سيفه، ليمنعه من استخدام سلاحه، وفي ذات الوقت يسهل ردعه، إذا أبدى أي مقاومة، أضف إلى ذلك أسلوب الترهيب.