في السيرة النبوية (قراءة لجوانب الحذر والحماية)

الدكتور / إبراهيم علي محمد أحمد

صفحة جزء
المطلب الثالث

فشل قيادة قريش في المفاوضات بعد أن أخفقت قيادة قريش في أسلوب الاضطهاد، ولم تجن منه سوى الخسران، إذ كان المسلمون يتزايدون كما فشلت من قبل حين استخدمت أسلوب الحرب النفسية لجأت إلى أسلوب المفاوضات غير المباشرة، والمباشرة مع النبي صلى الله عليه وسلم .

- قيادة قريش تجري مفاوضات غير مباشرة مع أبي طالب

قررت قيادة قريش أن تبدأ المفاوضات مع عم النبي صلى الله عليه وسلم ، باعتباره القائم على حمايته، والدفاع عنه، ضد عدوان قريش.. ذهب إلى أبي طالب وفد من قريش فقالوا له : يا أبا طالب! إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه.. فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا، وردهم ردا جميلا >[1] .

ولعل بدء قريش المفاوضات مع أبي طالب، أملته ظروف وملابسات معينة، من أظهرها أن أبا طالب يمثل خط الدفاع الأول عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولـه فضـل على المصطفـى، حيث تكفل برعايتـه بعـد مـوت جـده عبد المطلب ، [ ص: 79 ] لذا بدأت قيادة قريش المفاوضات معه، وحاولت التأثير عليه، فإذا خلى أبو طالب بينهم وبين ابن أخيه، فهذا يمكن قريشا من النبي صلى الله عليه وسلم ، فتفعل به ما تشاء، بعد أن يكون قد فقد حماية عمه أبي طالب. وإذا كفه عنهم فذلك غاية ما يتمنونه.. وما طلبوا من أبي طالب أن يكف ابن أخيـه عنهم، إلا لعلمهم أنه أقرب من يمكـن أن يكلـم الرسـول صلى الله عليه وسلم ، ويسمع منه، لقربه منه، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، فردهم أبو طالب ردا جميلا، فانصرفوا دون أن يظفروا منه بشيء.

ولكنهم عاودوا الاتصال مرة أخرى، فقالوا له : يا أبا طالب إن لك سنا، وشرفا، ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك، فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هـذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك على ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه.

فبعث أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : يا ابن أخي! إن قـومـك جـاءونـي، فقالـوا لـي كـذا وكـذا، فأبـق علـي وعـلى نفسـك، ولا تحملني من الأمر مالا أطيق، فظن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء، أنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، فقال: يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هـذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته.. ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى، ثم قام، فلمـا ولى نـاداه أبو طالب، [ ص: 80 ] فقـال: أقبـل يا ابن أخي! فأقبـل عليـه، فقال : اذهب يـا ابن أخي، فقـل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا >[2] .

لقد اختلف أسلوب قادة قريش هـنا تماما عن أسلوبها السابق في مخاطبة أبي طالب، حيث أصبحت اللهجة هـنا شديدة ممزوجة بالتهديد والتحذير من مغبة هـذا التأييد والحماية لمحمد صلى الله عليه وسلم ، فبات موقف أبي طالب صعبا، فقد وضعته قيادة قريش أمام خيارين لا ثالث لهما، كلاهما مر، مما جعل أبا طالب يرسل إلى ابن أخيه بخلاف المرة السابقة، التي لم يكن فيها أسلوب قريش بهذه الحدة والشدة.

ويبدو أن قيادة قريش استطاعت أن تؤثر نفسيا ومعنويا على أبي طالب ، بدليل أنه قال لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : (فأبـق علـي وعـلى نفسـك، ولا تحملني من الأمر مالا أطيق) ، فهذا مما ينبئ بالحالة النفسية التي وصل إليها أبو طالب من جراء تهديد قريش له، ولكن الموقف الثابت الصلب الصلد من النبي صلى الله عليه وسلم ورده الحاسم : والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هـذا الأمر، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه، ما تركته، وضع هـذا الرد الأمور في نصابها.. وهذا الرد قمة في الحكمة، إذ وضع النقاط على الحروف، وخط خطا فاصلا وجسرا منيعا بين المضي في طريق الدعوة حتى النهاية، وبين التراجع أو التنازل والتخاذل، مما كان له أكبر الأثر على أبي طالب، [ ص: 81 ] الذي حسم موقفه وتخلص من الخوف والتردد الذي أصابه من جراء تهديد قريش، وجزم ألا يسلم الرسول صلى الله عليه وسلم .

وكان من نتائج موقف النبي صلى الله عليه وسلم ، وعمه أبي طالب، أن تحققت قريش من أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه أجمع على فراقهم في ذلك، لذا مشوا إليه مرة ثالثة بعرض تفاوضي آخر، فأحضروا معهم هـذه المرة عمارة بن الوليد . فقالوا : يا أبا طالب هـذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش ، وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هـذا، الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم، فنقتله فإنما هـو رجل برجل، فقال : والله بئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هـذا والله ما لا يكون أبدا >[3] .

إنه أسلوب آخر تستخدمه طغمة الكفر مع أبي طالب، وهو يختلف عن سابقيه، حيث طرح فيه عرض تمثل في عمارة بن الوليد، الذي قدموه بطريقة فيها شيء من الذكاء، إذ أثنوا على عمارة بما يرغب فيه، ثم طلبوا من أبي طالب مبادلته بابن أخيه، الذي وصفوه بصفات تزهد فيه، حين قالوا : خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك.. وصفوه بذلك ليبرروا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهم لم يقولوا : أعطنا ابن أخيك لنقتله، بل قدموا هـذه التبريرات كي تكون تعليلا لقتله.

ولكن فات قريشا، على الرغم من ذكائها وعرضها المتوازن ماديا، [ ص: 82 ] والمختل عاطفيا وعقليا، فات عليها ما أدركه أبو طالب، حين قال لهم : والله لبئس ما تسومونني به، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟ فهذا بالطبع مالا يقبله عاقل منصف، وهو ما فات على قريش أن تدركه، فخاب سعيهم ولم يظفروا بشيء.

- إقدام قريش على المفاوضات المباشرة

بعد إخفاق قيادة قريش في المفاوضات غير المباشرة، اتجهت نحو المفاوضات المباشرة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك عقب اجتماع ضم أربعة عشر فردا من قادة معسكر الشرك، وهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان ، والنضر بن الحارث ، وأبو البختري بن هـشام ، والأسود بن المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هـشـام ، وعبـد الله ابن أمية ، والعاص بن وائل ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف >[4] .

ويلاحظ على هـؤلاء النفر أنهم من أشراف قريش وكبرائها، وهم من ألد خصوم الدعوة، ويجمع هـؤلاء جميعا هـم القضاء على الدعوة في مهدها، فتبادلوا الآراء، وتشاوروا في الأمر، حتى خلص عتبة إلى قوله : يا معشر قريش! ألا أقوم لمحمد، فأكلمه، وأعرض عليه أمورا، عله يقبل بعضها، فنعطه إياها فيكف عنا! فأجابه الحضور : يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه.

فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي في المسجد، فقال : يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، [ ص: 83 ] فرقت به جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني، أعرض عليك أمورا، تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها، فقال عليه الصلاة والسلام : قل يا أبا الوليد، أسمع. قال: يا ابن أخي! إن كنت تريد بما جئت به من هـذا الأمر مالا، جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان الذي يأتيك رئيا من الجن لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى.

فلما فرغ عتبة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال : نعم. قال: فاسمع مني. قال : أفعل. فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات من أول سورة فصلت إلى السجدة. فلما سمع عنه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها، يسمع منه، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها سجد، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليـد ما سمعت، فأنت وذلك >[5] .

وفي رواية، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن [ ص: 84 ] تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم >[6] .

فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض، يحلف بالله : لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي أني قد سمعت قولا، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هـو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة.. يا معشر قريش! أطيعوني، فاجعلوها بي، خلوا بين الرجل وبين ما هـو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لكلامه الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فعزه عزكم. فقالوا : لقد سحرك محمد. قال : هـذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم >[7] .

يظهر الحوار الذي دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعتبة بن ربيعة، ذكاء مندوب قيادة قريش، حين استخدم الأسلوب العاطفي مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فخاطبه بقوله : (يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمت) . وقوله : (قومك) . ثم كرر : (ابن أخي) مرة أخرى، وربما قصد من الأسلوب العاطفي، التأثير على النبي صلى الله عليه وسلم ، عله يستجيب لهم، أو على الأقل يفكر في الأمر.

ولإحكام العرض، نوعت قيادة قريش الخيارات للمصطفى صلى الله عليه وسلم ، من مال، وسيادة، وملك، وهي المطالب التي عادة ما يمكن أن يضمرها [ ص: 85 ] أصحاب الدعوات الجديدة، والمنادون بالثورة والإصلاح.. فظنت قيادة قريش أن هـدف محمد صلى الله عليه وسلم من دعوته هـذه، لا يخلو من أحد العروض آنفة الذكر. ولكن فات على قريش جوهر وحقيقة دعوة الإسلام، المغايرة لسائر الدعوات الوضعية، فهي مرتبطة بالسماء، غايتها وأهدافها سامية، لذا كـان الـرد قاطعـا وحاسما مـن قائـد الدعـوة: ما بي ما تقولـون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم...، إنما هـدفه وغايته إخراج الناس من الظلمات إلى النور.

- تعـقـيـب

ربما تساءل بعض الناس : لماذا لم يرض رسول صلى الله عليه وسلم من باب الحكمة والسياسة الزعامة، أو الملك، على أن يقرر في نفسه اتخاذ الملك والزعامة وسيلة إلى تحقيق دعوة الإسلام فيما بعد، خصوصا وأن للسلطان والملك تأثيرا قويا في النفوس؟ ولعل الإجابة تكمن في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرض سلوك هـذه السياسة والوسيلة إلى دعوته؛ لأن ذلك ينافي مبادئ الدعوة نفسها، ولأن المساومة كانت للعدول عن الدعوة، وفي الإسلام الغاية لا تبرر الوسيلة، فالله سبحانه وتعالى تعبدنا بالوسائل كما تعبدنا بالغايات، فليس لأحد أن يسلك إلى الغاية التي شرعها الله، إلا بالوسيلة السليمة الخالصة القاصدة التي شرعها الله، قال تعالى : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) (الكهف : 110) . [ ص: 86 ]

وهذا مبدأ هـام من مبادئ الإسلام.. فإذا كانت بعض المواقف في الشدة والمحنة، تحتاج إلى مداراة، فعلى المسلم أن يكون حذرا في ذلك، غير متجاوز حدود الشرع.

ونلاحظ أيضا حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في الرد على عتبة حين تخير هـذه الآيات من سورة فصلت، ليعرف محدثه حقيقة الرسالة، والرسول صلى الله عليه وسلم ، وكتاب الدعوة الذي فصلت آياته من لدن حكيم خبير إلى خلقه، كي يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم من ضلال، وينقذهم من خبال >[8] .

.. فكان لهذا الاختيار أثره البالغ على مندوب قريش، حتى طلب من النبي صلى الله عليه وسلم التوقف، ناشدا إياه بحق الرحم.

ولا يخفى ما في ذلك من جانب مهم، يتمثل في التأثير على العدو، ومحاولة إقناعه، وتغيير أفكاره، وقد كان التأثير على عتبة واضحا لدرجة أن أصحابه أقسموا على ذلك التأثير قبل أن يخبرهم، فبعد أن كان عدوا ينوي استئصال الدعوة والداعية، إذا به يدعو لعكس ذلك، فيطلب من قريش أن تخلي بين محمد صلى الله عليه وسلم وما يريد.

- قريش تساوم على التنازل عن بعض الإسلام

لما تأكد لقريش عدم جدوى المفاوضات السابقة في التنازل عن كل المنهج، لجأت إلى أسلوب آخر من المفاوضات، يقوم على طلب بعض التنازلات عن المنهج الإسلامي. فقام وفد من قيادة قريش، يتكون من الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد المطلب ، [ ص: 87 ] وأمية ابن خلف ، قاموا بتقديم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل في أن يعبد آلهتهم عاما ويعبدون إلهه عاما. فقال: معاذ الله أن أشرك به غيره، فأنزل الله سورة (الكافرون) >[9] .

وجاء وفد آخر بعد فشل الوفد السابق، يتكون من عبد الله بن أبي أمية ، والوليد بن المغيرة ، ومكرز بن حفـص ، وعمرو بن عبد الله ابن أبي قيس ، والعاص بن عامر >[10] ، جاء ليقدم عرضا آخر للتنـازل عن بعض مـا في القرآن، فطلبـوا من النبـي صلى الله عليه وسلم أن ينـزع مـن القـرآن ما يغيظهم من ذم آلهتهم، فأنزل الله لهم جوابا حاسما، قال تعالى: ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هـذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ) (يونس: 15) .

هاتان الحادثتان، تظهران مدى الإخفاق الذي منيت به قيادة قريش في عدم حصولها على التنازل الكلي عن الإسلام، الأمر الذي جعلها تلجأ إلى طلب الحصول على شيء من التنازل، لعل ذلك يساعدها مستقبلا في الحصول على تنازل آخر، حتى يتحقق لها التنازل التام شيئا فشيئا. ولكن فات قريشا أن الإسلام كل لا يتجزأ، وسبيل واحد لا يتعدد.. وحتى لا يبقى لقريش أي أمل في التنازل، جاء الرد مباشرة، قرآنا يتلى، ليظل دستورا لهم، ولمن يأتي من بعدهم، ألا تنازل عن شيء من الإسلام. [ ص: 88 ]

ويلاحظ أن التنازل الذي طلبوه في المرة الأولى، أكبر مما طلبوه في المرة الثانية، وهذا يدل على تدرجهم في التنازل من الأكبر إلى الأصغر، عله يجد آذانا صاغية لدى قائد الدعوة، كما أنهم كانوا يغيرون الأشخاص المتفاوضين، فالذين تفاوضوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى غير الذين تفاوضوا معه في المرة الثانية، ما خلا الوليد بن المغيرة ، وذلك حتى لا تتكرر الوجوه، وفي ذات الوقت تنويع الكفاءات والعقول المفاوضة، فربما أثر ذلك -في نظرهم- بعض الشيء.

وفي هـذا درس للدعاة إلى يوم القيامة بأن لا تنازل عن الإسلام، ولو كان هـذا التنازل شيئا يسيرا، فالإسلام دعوة ربانية، ولا مجال فيها للمساومة إطلاقا، مهما كانت الأسباب، والدوافع، والمبررات، قال تعالى : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ) (البقرة : 85) .

وعلى الدعاة اليوم الحذر من مثل هـذه العروض، والإغراءات المادية، التي قد لا تعرض بطريق مباشر، فقد تأخذ شكلا غير مباشر، في شكل وظائف عليا، أو عقود عمل مجزية، أو صفقات تجارية مربحة، وهذا ما تخطط له المؤسسات العالمية المشبوهة، لصرف الدعاة عن دعوتهم، وبخاصة القياديين منهم، وهناك تعاون تام في تبادل المعلومات بين هـذه المؤسسات، التي تعمل من مواقع متعددة لتدمير العالم الإسلامي. [ ص: 89 ]

ولقد جاء في التقرير الذي قدمه ( ريتشارد ب. ميشيل ) ، أحد كبار العاملين في مجال الشرق الأوسط، لرصد الصحوة الإسلامية، وتقديم النصح لكيفية ضربها، جاء في هـذا التقرير وضع تصور لخطة جديدة يمكن من خلالها تصفية الحركات الإسلامية، فكان من بين فقرات هـذا التقرير فقرة خاصة بإغراء قيادات الدعوة، فاقترح لتحقيق ذلك الإغراء، ما يلي :

أ - تعيين من يمكن إغراؤهم بالوظائف العليا، حيث يتم شغلهم بالمشروعات الإسلامية فارغة المضمون، وغيرها من الأعمال التي تستنفد جهدهم، وذلك مع الإغداق عليهم أدبيا وماديا، وتقديم تسهيلات كبيرة لذويهم، وبذلك يتم استهلاكهم محليا، وفصلهم عن قواعدهم الجماهيرية.

ب - العمل على جذب ذوي الميول التجارية والاقتصادية إلى المساهمة في المشروعات ذات الأهداف المشبوهة، التي تقام في المنطقة العربية لصالح أعدائها.

جـ - العمل على إيجاد فرص عمل وعقود مجزية في البلاد العربية الغنية، الأمر الذي يؤدي إلى بعدهم عن النشاط الإسلامي >[11] .

فالمتأمل في النقاط الثلاث سالفة الذكر، يجد أنها عبارة عن إغراءات مادية غير مباشرة.. وبنظرة فاحصة للعالم الإسلامي اليوم، نجد أن هـذه النقاط تنفذ وإلى حد كبير على أرض الواقع، فقد ألهت [ ص: 90 ] المناصب العليا بعض الدعاة، واستهلكت بعض الدول العربية الغنية جما غفيرا من الدعاة، وألهت التجارة بعضهم.

لجوء قريش إلى عروض تعجيزية

لم تعتبر قريش بالإخفاق الذي لازمه في جميع المفاوضات، المباشرة وغير المباشرة، بأساليبها المتباينة، بل عمدت إلى استخدام عروض تعجيزية، كعامل آخر من عوامل الضغط على قائد الدعوة، لتحقق بذلك تأثيرا معنويا عليه، وفي حالة عدم تحققها تكون قريش قد حفظت ماء وجهها، وفي الوقت ذاته تستخدم ذلك سلاحا دعائيا ضد الدعوة، وقائدها، فتشيع أن محمدا صلى الله عليه وسلم ، عجز عن تلبية طلباتهم، ولا يخفى ما في ذلك من أثر على عوام الناس.

ومما قالوا له : " يا محمد ! فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا، ولا أقل ماء، ولا أشد عيشا منا فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فيسير عنا هـذه الجبال التي ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب ، فإنه شيخ صدق، فنسأله عما تقول، أحق هـو أم باطل ؟ فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك، وعرفنا به منزلتك من الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول " .

فقال لهم صلى الله عليه وسلم : ما بهذا بعثت إليكم، إنما جئتكم من الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم [ ص: 91 ] في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله، حتى يحكم بيني وبينكم >[12] .

لقد غيرت قريش أسلوبها في المفاوضات، ولجأت إلى هـذا النوع من الطلبات، التي تعلم هـي قبل غيرها أن الغرض منها ليس الوصول إلى الحقيقة بقدر ما هـي مناورة، القصد منها المجادلة، حيث تضمنت هـذه الطلبات شروطا غير ممكنة التحقيق، وحددت أشخاصا ماتوا، وربطت إيمانها وتصديقها بإيمان وتصديق أولئك الأموات.. فكل ذلك يدل على تعنتهم واستهزائهم، وأنهم ما طلبوها على وجه الاسترشاد ودفع الشك، قال تعالى: ( ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ) (الحجر : 14-15) .

لذا بين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن هـذه الطلبات ليس لها صلة بما أرسل به، وأنها خروج عن محل النزاع، ورأى أن الخوض فيها مضيعة للوقت، وأن أي محاورة أو مجادلة حول هـذه الطلبات تعطي قريشا ثغرة ربما تحصل من خلالها على ما تريد، ومنعا لهذا الجدال كان رد الرسول صلى الله عليه وسلم واضحا وحاسما: ما بهذا بعثت إليكم.

ولكن لم تكتف قريش بهذا الرد، وإنما واصلت قيادتها أسلوبها الجدلي التعجيزي فكان ردهم : " فإذا لم تفعل هـذا لنا، فخذ لنفسك، سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا، وكنوزا من ذهب وفضة، يغنيك بها [ ص: 92 ] عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم، وتلتمس المعاش كما نلتمسه،حتى نعرف فضلك، ومنزلتك من ربك، إن كنت رسولا كما تزعم " . قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أنا بفاعل، وما أنا بالذي يسأل ربه هـذا. قالوا: " فأسقط علينا كسفا كما زعمت أن ربك إنشاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل " وقال بعضهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا >[13] .

لقد ظهر بوضوح تام تعنت واستهزاء قيادة قريش من خلال طرحها لطلباتها، حيث خرجت من الطلبات الخاصة بها إلى أشياء تتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو أمر لا يخص قريشا في شيء، وليس من لب محل النزاع، وموضع الخلاف، الأمر الذي يؤكد أن الغرض والهدف من تلك الطلبات هـو التعنت والاستهزاء، لا الوصول إلى الحق، لذا تولى الله الرد على طلباتهم تلك، فقال جل شأنه : ( وقالوا مال هـذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا * تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا ) (الفرقان: 7-10) >[14] . [ ص: 93 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية