المبحث الثاني
جوانب الحماية للدعوة خارج مكة
بعـد أن عـرضنـا للأسـاليب التي اتخذتهـا
قريش ضـد الدعـوة الإسلامية، كان لا بد من الوقوف على جوانب المواجهة الوقائية، التي تصدت بها الدعوة الإسلامية لتلك الأساليب، والخطوات التي اتبعتها في سبيل الاحتياط واليقظة الأمنية، لتسير بها أمورها في تلك الفترة، وسط الأساليب القاسية التي مارستها قريش ضد المسلمين.
لقد استخدمت القيادة المسلمة في تلك الفترة، عدة أساليب للمواجهة، منها الهجرة إلى الحبشة، وخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى
الطائف ، وصاحبت كل هـذه التحركات إجراءات للحماية، تستلزم الوقوف عندها، وهذا ما نحاول توضيحه من خلال هـذا المبحث بإذن الله، وسنتناول كل أسلوب على حدة.
المطلب الأول
جوانب الحماية في الهجرة إلى الحبشة
لما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هـم فيه من البلاء،
( قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم مخرجا مما أنتم فيه ) .
[ ص: 99 ] فخرج عند ذلك المسلمون متسللين سرا
>[1] .
إن اختيار
الحبشة عن سواها، إنما كان لميزات تمتاز بها، وتتطلبها حساسية المرحلة، لعل من أبرزها وجود الملك العادل، الذي لا يظلم عنده أحد.. وهذا العدل، ظهرت أهميته عندما عملت قريش على إرجاع المهاجرين، فقد وجدت أنها لا تستطيع ذلك دون أن يتحرى الملك في أمر هـؤلاء، قبل أن يصدر حكما بإخراجهم من أرضه، وهذا مما يقتضيه العدل، الذي جعل الملك يسمع حجة الخصم قبل إصدار الحكم، فلو كان الملك ظالما جائرا، لظفرت
قريش بما تريد.
ومن ميزات الحبشة، أنها أرض صدق وأرض دين سماوي، فهم أقرب إلى المسلمين من سواهم، فالرسالات السماوية منبعها واحد، وأصولها واحدة، وقد يسهل إقناع هـؤلاء بالحق بخلاف أهل الشرك، وهذا ما تم فعلا، فعندما تلا جعفر رضي الله عنه آيات من الذكر الحكيم على مسامع
النجاشي وقساوسته، فاضت أعينهم من الدمع تأثرا بما سمعوا من القرآن الكريم
>[2] :
( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين *
وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين *
فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ) (المائدة : 83-85) .
[ ص: 100 ]
وثمة نقطة استراتيجية هـامة، تمثلت في معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بما حوله من الدول والممالك، فكان يعلم طيبها من خبيثها، وعادلها من ظالمها، الأمر الذي ساعد على اختيار دار آمنة لهجرة أصحابه، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال قائد الدعوة، الذي لابد أن يكون ملما بما يجري حوله، مطلعا على أحوال وأوضاع الأمم، والحكومات من حوله، حتى إذا اتخذ قرارا، يكون القرار مبنيا على علم سابق مدروس، فتكون غالبا نتائجه طيبة، بخلاف ما لو بناه على جهل وعدم معرفة.
أما جانب الحماية الكامن في كيفية الخروج، فيتمثل في كونه تم تسللا وخفية، حتى لا تفطن له
قريش فتحبطه، كما أنه تم على نطاق ضيق لم يزد على ستة عشر فردا
>[3] ، فهذا العدد لا يلفت النظر في حالة تسللهم فردا أو فردين، وفي ذات الوقت يساعد على السير بسرعة، وهذا ما يتطلبه الموقف، فالركب يتوقع المطاردة والملاحقة في أي لحظة.
ولعل السرية المضروبة على هـذه الهجرة، فوتت على قريش العلم بها في حينها، فلم تعلم بها إلا مؤخرا، فقامت في إثرهم لتلحق بهم، لكنها أخفقت في ذلك، فعندما وصلت البحر لم تجد أحدا
>[4] .. وهذا مما يؤكد أن الحذر هـو مما يجب أن يلتزمه المؤمن في تحركاته الدعوية، فلا تكون التحركات كلها مكشوفة ومعلومة للعدو بحيث يترتب عليها الإضرار به وبالدعوة.
[ ص: 101 ] * قيادة قريش تعمل على إعادة المهاجرين من الحبشة
عز على
قريش أن يجد
المهاجرون مأمنا لأنفسهم ودينهم، وأغرتهم كراهيتهم للإسلام أن يبعثوا إلى
النجاشي وفدا منهم محملا بالهدايا والتحف، كي يحرم المسلمين وده، ويطوي عنهم بشره، وتخيروا لهذه المهمة
عمرو بن العاص ،
وعبد الله بن أبي ربيعة ، وقيل
عمارة بن الوليد >[5] .. ولكي نقف على مجريات هـذه المحاولة، نورد هـنا حديث أم سلمة رضي الله عنها عن رسولي قريش إلى النجاشي :
عن
أم سلمة بنت أبي أمية قالت : (لما نزلنا أرض
الحبشة ، جاورنا بها خير جار،
النجاشي ، أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى، لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا، ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا إلى النجاشي هـدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم
>[6] ، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هـدية، وقالوا لهما : ادفعا إلى كل بطريق هـديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هـداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم. قالت : فخرجا حتى قدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هـديته، قبل أن يكلما النجاشي، وقالا لكل بطريق منهم : إنه قد ضوى -لجأ- إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم،
[ ص: 102 ] ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا
>[7] ، وأعلم بما عابوا عليهم.. فقالوا لهما : نعم. ثم إنهما قدما هـداياهما إلى النجاشي، فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك إنه قد ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه... قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى
عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي. قالت : فقالت بطارقته حوله : صدقا أيها الملك. قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. قالت : فغضب النجاشي، ثم قال : لاها الله، إذن لا أسلمهم إليهمـا، ولا يكاد قوم جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هـذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني)
>[8] .
ثم أرسل إلى الصحابة، وقبل أن يحضروا اتفقوا على أن يقولوا
[ ص: 103 ] الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان ممثلهم
جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، فأجاب على أسئلة
النجاشي وبين له الحقيقة، فرد النجاشي وفد
قريش دون أن يسلمهم
المهاجرين .
* تعقيب على الموقف
وبالنظر إلى هـذا الموقف، نستخلص أمرين هـامين، هـما دهاء قيادة قريش، وتفوق المهاجرين عليها.. والنص السابق يظهر بوضوح الدهاء والإحكام المتقن، في الخطة التي رسمتها قريش، للعودة بالمهاجرين، ويظهر ذلك من خلال الملاحظات التالية :
- نلاحظ ابتداء الدقة في اختيار ممثلي الوفد،
فعمرو بن العاص يعد داهية من دهاة العرب، يمتاز بالذكاء، وحسن التصرف، ولا يقل عنه في ذلك عبد الله بن أبي ربيعة، فهما من أهل الرأي والمشورة في قريش
>[9] ، فمثل هـذه المهمة، تحتاج إلى نوعية معينة من الرجال، يمتازون بالذكاء، والحكمة، والدهاء، وحسن التصرف، حتى يكونوا أهلا للقيام بها.
- ولعل من أميز ما يمكن ملاحظته في هـذه المهمة، الاتفاق المسبق على كيفية التخاطب، وكيف يتم الحوار، فهم اختاروا أحب الهدايا للنجاشي، ثم قدموا هـدايا لجميع البطارقة، وطلبوا منهم أن يشيروا على النجاشي بتسليم المهاجرين، وكان هـذا الاتفاق قبل مقابلة النجاشي، مع الإصرار على عدم الكلام والتحدث مع المهاجرين.
[ ص: 104 ]
فتخير الهدايا التي يحبها
النجاشي ، محاولة لكسب جانبه، وبالتالي فقد يرضخ لطلبهم، كما أن إعطاء الهدايا للبطارقة قبل النجاشي، فيه أيضا محاولة لكسب حاشية الملك، التي غالبا ما تشاركه اتخاذ القرار، وبالتالي قد تزين له ذلك القرار، وتحمله على الموافقة عليه، وخاصة أن رسولي قريش قد طلبا من القساوسة أن ينصحوا الملك بتسليم
المهاجرين لهما.
كما أن تخير الوفد للألفاظ التي وصف بها المهاجرون، بكونهم غلمان سفهاء قد فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دين الملك، إنما كان لإثارة الغضب والسخط على المهاجرين من قبل الملك وبطارقته، بحيث يصبحون مهيئين تماما لقبول طلب التسليم، دون أن يكلم الملك المهاجرين، وهذا ما تصبو إليه
قريش .
وكان إصرار الوفد على عدم مقابلة النجاشي للمسلمين ليكلمهم، لعلمهم بأن الادعاء الذي قدموه، والوصف الذي وصفوهم به، لا يقوم على أساس من الصحة، فإذا كلمهم الملك اتضح له افتراء وفد قريش، مما قد يترتب عليه فشل الوفد في مهمته، وهذا ما حدث فعلا عندما تكلم النجاشي إلى المهاجرين.
* تفوق المهاجرين على مكائد قريش
وقع الاختيار على
جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، ليمثل المهاجرين أمام الملك، فكان اختيارا موفقا، وظهر ذلك في فصاحته ولباقته، ومن خلال الحس الأمني العالي الذي امتاز به سيدنا جعفر، أثناء مخاطبته للنجاشي.
[ ص: 105 ]
فأول ما فعله
جعفر ، أن عدد
للنجاشي عيوب الجاهلية، وعرضها بصورة تنفر منها السامع، وقصد بذلك تشويه صورة
قريش في عين الملك، وفي ذات الوقت إبراز محاسن الإسلام، التي هـي نقيض لأفعال الجاهلية، إضافة إلى ذلك، فقد نفى التهمة التي لفقتها عليهم قريش، وقد نجح أيما نجاح، بدليل أن النجاشي طلب منه أن يقرأ عليه شيئا من القرآن، فاختار سورة مريم، الأمر الذي أثر على النجاشي وبطارقته.. واختيار جعفر لسورة مريم، يظهر بوضوح حكمة وذكاء مندوب المهاجرين، فسورة مريم تتحدث عن
مريم وعيسى عليهما السلام، فأثرت في النجاشي وبطارقته، حتى بكوا جميعا. وبعد ذلك أصدر قراره في صالح المسلمين بعدم تسليمهم أبدا.
ومع ذلك لم تيأس قريش من محاولة التأثير على موقف النجاشي، فلجأ وفدهم إلى محاولة أخيرة لا تخلو من دهاء أيضا، فقد زعم عمرو أن
المهاجرين يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما، وهذه بالطبع مكيدة عظيمة، تؤكد ما قلناه عن ذكاء ودهاء عمرو بن العاص، ولقد كان لهذه المكيدة أثرها البالغ على المهاجرين، حتى قال قائلهم : (لم ينزل بنا مثلها قط) .. وقد جعلت النجاشي يستدعيهم مرة أخرى، ولكن ذكاء وثبات المسلمين على الحق رد هـذا السهم إلى نحور رماته، إذ كانت الإجابة واضحة، كما جاء بها الإسلام، هـو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فهذا الرد جعل النجاشي يضرب يده بالأرض، ويأخذ عودا، ثم يقول :
[ ص: 106 ] (والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هـذا العود!) ، وقال لهم : (اذهبوا فأنتم شيوم -أي آمنون- بأرضي)
>[10] .