أصول الحكم على المبتدعة (عند شيخ الإسلام ابن تيمية)

الدكتور / أحمد بن عبد العزيز الحليبي

صفحة جزء
الأصل الثالث

عذر المبتدع لا يقتضي إقراره على ما أظهره من بدعة، ولا إباحة اتباعه، بل يجب الإنكار عليه فيما يسوغ إنكاره، مع مراعاة الأدب في ذلك.

يرى ابن تيمية أن المجتهد المبتدع لا يقر على إظهار البدعة والدعوة إليها >[1] ، متى تبينت مخالفتها للكتاب والسنة، بل لا يجوز متابعته فيها، (نعم، قد يكون متأولا >[2] في هـذا الشرع، أي الذي ابتدعه، فيغفر له لأجل تأويله، إذا كان مجتهدا الاجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ، ويثاب أيضا على اجتهاده، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك، كما لا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل عملا قد علم الصواب في خلافه، وإن كان القائل أو الفاعل مأجورا أو معذورا، وقد قال سبحانه وتعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هـو سبحانه عما يشركون ) (التوبة: 31) ، ( قال عـدي بن حاتم >[3] [ ص: 78 ] للنبي صلى الله عليه وسلم : يـا رسـول الله! ما عبـدوهم. قـال: ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم ) >[4] فمن أطاع أحدا في دين لم يأذن به الله، في تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب، فقد لحقه من هـذا الذم نصيب) >[5] .

ويؤكد رحمه الله، أنه لا يكون معذورا من اتبع مخالفا لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مما هـو ظاهر بين، فيقول: (والذي يصدر عنه أمثال هـذه الأمور >[6] -أي المخالفة- إن كان معذورا بقصور في اجتهاده، أو غيبة في عقله، فليس من اتبعه بمعذور، مع وضوح الحق والسبيل، وإن كانت سيئته مغفورة، لما اقترن بها من حسن قصد، وعمل صالح، فيجب بيان المحمود والمذموم، لئلا يكون لبسا للحق والباطل) >[7] .

وبين متى تجب المتابعة في الأمور الشرعية، ومتى تمتنع، وأحوال المجتهدين معها، فقال: إن (الأمور -الشرعية- تعطى حقها من الكتاب والسنة، فما جاء به الكتاب والسنة من الخبر والأمر والنهي وجب [ ص: 79 ] إتباعه، ولم يلتفت إلى من خالفه كائنا من كان، ولم يجز اتباع أحد في خلاف ذلك كائنا من كان، كما دل عليه الكتاب والسنة >[8] وإجماع الأمة، من اتباع الرسول وطاعته... فإن كل أحد من الناس قد يؤخذ من قوله وأفعاله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما من الأئمة إلا من له أقوال وأفعال -تبين مخالفتها للكتاب والسنة- فهو لا يتبع عليها، مع أنه لا يذم عليها) >[9] .

أما ما (لم يعلم قطعا مخالفتها للكتاب والسنة، بل هـي من موارد الاجتهاد، التي تنازع فيها أهل العلم والإيمان، فهذه الأمور قد تكون قطعية عند بعض من بين الله له الحق فيها، لكنه لا يمكنه أن يلزم الناس بما بان له ولم يبن لهم... وقد تكون اجتهادية عنده أيضا، فهذه تسلم لكل مجتهد ومن قلده... بحيث لا ينكر ذلك عليهم) >[10] ، وأما الذي لا يسلم إليه حاله فهو آتي المحرمات وتارك الواجبات، من غير تأويل سائغ أو عـذر مشـروع، فإنـه يجب الإنكـار عليه بحسب [ ص: 80 ] ما جاءت به الشريعة، من اليد واللسان والقلب >[11] ، ويلحق به كل من أظهر مقالة تخالف الكتاب والسنة، فإنهـا من المنكـر الذي أمر الله بالنهـي عنـه >[12] في قولـه تعالـى: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (آل عمران: 104) .. أما من اشتبه أمره فيتوقف معه، فإن الإمام أن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة >[13] .

وإذا كان الاجتهاد يغفر للعالم خطأه، فإن هـذا يقتضي التأدب معه، ومراعاة حقه عند إنكار ما أظهره من بدعة وبيان مخالفته للسنة، وفي هـذا يقول رحمه الله: (وإن كان المخطئ المجتهد مغفورا له خطؤه، وهو مأجور على اجتهاده، فبيان القول والعمل الذي دل عليه الكتاب والسنة واجب، وإن كان في ذلك مخالفة لقوله وعمله، ومن علم منه الاجتهاد السائغ، فلا يجوز أن يذكر على وجه الذم والتأثيم له، فإن الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من الإيمان والتقوى موالاته ومحبته، والقيام بما أوجب الله له من حقوقه، من ثناء ودعاء وغير ذلك) >[14] . [ ص: 81 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية