الأصل التاسع
رعاية شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الأمر بالسنة والنهي عن البدعة، وتقديم الأهم فالأهم في ذلك
أكد شيخ الإسلام
ابن تيمية على أهمية العمل بشروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الأمر بالسنة والنهي عن البدعة، وحذر من سوء النية والانتصار للهوى، لما يؤديان إليه من إبطال العمل، وإشاعة الفرقة، فقال: (والأمر بالسنة والنهي عن البدعة، هـما أمر بمعروف ونهي عن منكر، وهو من أفضل الأعمال الصالحة، فيجب أن يبتغى به وجه الله، وأن يكون مطابقا للأمر، وفي الحديث
>[1] من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فينبغي أن يكـون عالما بمـا يأمـر بـه، عالما بما ينهى عنه، رفيقا بما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه، فالعلم قبل الأمر، والرفق مع الأمر، والحلم مع الأمر، فإن لم يكن عالما لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم.. وإن كان عالما ولم يكن رفيقا، كان كالطبيب الذي لا رفق فيه، فيغلظ
[ ص: 124 ] على المريض فلا يقبل منه، وكالمؤدب الغليظ الذي لا يقبل منه الولد، وقد قال تعالى
لموسى وهارون عليهما السلام:
( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) (طه: 44) ..
ثم إذا أمر أو نهى، فلا بد أن يؤذى في العادة، فعليه أن يصبر ويحلم،
كما قال تعالى:
( أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور ) (لقمان: 17) ..
وقد أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع، وهو إمام الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإن الإنسان عليه أولا أن يكون أمره لله، وقصده طاعة الله فيما أمر به، وهو يحب صلاح المأمور، أو إقامة الحجة عليه.. فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره، كان ذلك خطيئة لا يقبلها الله، وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء، كان عمله حابطا، ثم إذا رد عليه ذلك، أو أوذي، أو نسب إلى أنه مخطئ، وغرضه فاسد، طلبت نفسه الانتصار لنفسه، وأتاه الشيطان، فكان مبدأ عمله لله، ثم صار له هـوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه، وربما اعتدى على ذلك المؤذي، وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة، إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه، وأنه على السنة، فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هـوى أن ينتصـر جاههـم أو رياستهـم، وما نسب إليهم، لا يقصدون أن تكون كلمة الله هـي العليا، وأن يكون الدين كله لله، بل يغضبون على من خالفهم، وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله
[ ص: 125 ] عليه، ويرضون عمن كان يوافقهم، وإن كان جاهلا سيء القصد، ليس له علم ولا حسن قصد، فيفضي هـذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ويذموا من لم يذمه الله ورسوله، وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم، لا على دين الله ورسوله)
>[2] .
ودعا شيخ الإسلام
ابن تيمية إلى سلامة النية، وإتباع الإحسان في مراتب الإنكار، مع جميع المبتدعة مهما غلظت بدعتهم، ومنهم
الرافضة ، لقصد الإصلاح، فيقول: (وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم، إن لم يقصد فيه بيان الحق، وهدي الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم، لم يكن عمله صالحا، وإذا غلظ في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد، ليحذرها العباد، كما في نصوص الوعيد وغيرها، وقد يهجر الرجل عقوبة وتعزيرا، والمقصود بذلك ردعه، وردع أمثاله، للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام... وهذا مبني على مسألتين:
إحداهما أن الذنب لا يوجب كفر صاحبه، كما تقوله
الخوارج ، بل ولا تخليده في النار ومنع الشفاعة فيه، كما يقوله
المعتزلة .
الثاني: أن المتأول الذي قصده متابعة الرسول، لا يكفر ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل الاعتقـاد فكثيـر من الناس كفروا المخطئين فيهـا، وهذا القـول
[ ص: 126 ] لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هـو في الأصل من أقوال أهل البدع، الذين يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم،
كالخوارج والمعتزلة والجهمية )
>[3] .
ولما كان الأمر بالسنة والنهي عن البدعة من الواجبات العملية، فإن الشيخ يؤكد على مراعاة الأدب في ذلك، واتباع ما يؤدي إلى إصلاح النفوس واستقامتها، من جهة الاقتداء والقبول، ودفع ما يئول إلى مفسدة أعظم، وتقديم الأهم فالأهم، ومراعاة المصالح، وفي هـذا الشأن يدعو فيقول: (عليك هـنا بأدبين:
أحدهما: أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنا وظاهرا، في خاصتك وخاصة من يطيعك، واعرف المعروف وأنكر المنكر.
والثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان، فإذا رأيت من يعمل هـذا ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هـو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب، تركه أضر من فعل ذلك المكروه، ولكن إذا كان في البدعة من الخير فعوض عنه من الخير المشـروع بحسـب الإمكـان، إذ النفـوس لا تتـرك شيئا إلا بشـيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرا إلا إلى مثله أو إلى خير منه ) .
[ ص: 127 ]
ثم قال: (وكثير من المنكرين لبدع العبادات والعادات، تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به، ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العبادات المشتملة على نوع من الكراهة، بل الدين هـو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، فلا ينهى عن منكر إلا ويؤمر بمعروف يغني عنه، كما يؤمر بعبادة الله سبحانه، وينهى عن عبادة ما سواه، إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله، والنفوس خلقت لتعمل لا لتترك، وإنما الترك مقصود لغيره، فإن لم يشتغل بعمل صالح وإلا لم يترك العمل السيء أو الناقص، لكن لما كان في الأعمال السيئة ما يفسد عليها العمل الصالح، نهيت عنه حفظا للعمل الصالح)
>[4] .
وينبه الشيخ إلى أن حقيقة العلم تظهر من الآمر والناهي، في تقديم الأهم فالأهم عند ازدحام المصالح والمفاسد، أو تركه النهي في حال إذا كان الانتقال سيكون إلى ما هـو أشد شرا وفسادا، وهذا يقع في الأعمال المختلفة التي فيها خير وشر، ويضرب أمثلة عملية لهذا الفقه، فيقول: (فتعظيم المولد
>[5] واتخاذه موسما، قد يفعله بعض الناس ويكون فيه أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن
[ ص: 128 ] المسدد، ولهذا قيل
للإمام أحمد عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار أو نحو ذلك، فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب، أو كما قال. مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة، وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجويد الورق والخط، وليس مقصود أحمد هـذا، وإنما قصده أن هـذا العمل فيه مصلحة وفيه أيضا مفسدة كره لأجلها، فهـؤلاء إن لم يفعلوا هـذا وإلا اعتاضـوا بفسـاد لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور، من كتب الأسمار أو الأشعار، أو حكمة فارس والروم. فتفطن لحقيقة الدين، وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد، بحيث تعرف ما مراتب المعروف ومراتب المنكر، حتى تقدم أهمها عند الازدحام، فإن هـذا حقيقة العلم بما جاءت به الرسل)
>[6] .
ومن الوقائع العملية التي يقدم فيها الأهم فالأهم، دفعا لمفسدة أعظم، ما ذكره
ابن القيم >[7] في هـذا الشأن، مستشهدا بفقـه شيخـه
ابن تيمية : (إذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هـو أحب إلى الله ورسوله، كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك.. وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو أو لعب أو سماع مكاء وتصدية،
[ ص: 129 ] فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرا من أن تفرغهم لما هـو أعظم من ذلك، فكان ما هـم فيه شاغلا لهم عن ذلك.. وكما إذا كان الرجل مشتغلا بكتب المجون ونحوها، وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر، فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع، وسمعت شيخ الإسلام
ابن تيمية ، قدس الله روحه ونور ضريحه، يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم)
>[8] .
ومن الوقائع التي تراعى فيها المصالح، وتدفع فيها المفاسد، أو تقلل بحسب الإمكان، ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة الصلاة خلف مظهر المنكر، إذا لم يمكن صرفه عن الإمامة (إلا بشر أعظم ضررا من ضرر ما أظهره من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين، إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا، ودفع شر الشرين، إذا لم يندفعا جميعا، فإذا لم يمكن
[ ص: 130 ] منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته، لم يجز ذلك، بل يصلى خلفه ما لا يمكن فعلها إلا خلفه، كالجمع والأعياد والجماعة، إذا لم يكن هـناك إمام غيره، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف
الحجاج >[9] ،
والمختار بن أبي عبيد الثقفي >[10] ، وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادا من الاقتداء فيها بإمام فاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره، فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة)
>[11] .
ولما كان قدر الإنكار مراعى فيه المصلحة، فإنها قد تكون في استعمال القوة للقضاء على البدعة الغليظة، وإلى هـذا وجه شيخ الإسلام
ابن تيمية في التعامل مع (أهل البدع والضلال، والكذب والجهل، وتبديل الدين وتغيير شريعة الرسل -وأنهم- أولى بأن يجاهدوا باليد واللسان بحسب الإمكان، وأنهم فيما استحلوه من جهاد أهل العلم والسنة، من جنس
الخوارج المارقين، بل هـم شر من أولئك، فإن أولئك لم يكونوا يدعون إلى الشرك ومعصية الرسول، وظنهم أنهم ينصرونهم، ظن باطل لا ينفعهم)
>[12] .
[ ص: 131 ]
وعلى العموم، فإن الإنكار على أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، وبيان حالهم، وتحذير المسلمين من باطلهم، ودفع أذاهم، واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، لا يجوز التساهل فيه أو التقصير نحوه، لما يترتب على ذلك من فساد القلوب وفساد الدين، وفي هـذا يقول شيخ الإسلام: (ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة، فإن بيان حالهم، وتحذير الأمة منهم، واجب باتفاق المسلمين، حتى قيل
لأحمد بن حنبل : الرجل يصوم ويصلي ويعتكف، أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلى واعتكف فإنما هـو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع، فإنما هـو للمسلين، هـذا أفضل. فبين أن نفع هـذا عام للمسلمين في دينهم، من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته، ودفع بغي هـؤلاء وعدوانهم على ذلك، واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هـؤلاء لفسد الدين، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هـؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء)
>[13] .
[ ص: 132 ]