استدلالات أخرى للهجر يجب توجيهها:
ولا يزال بعضنا يحاول أن يجعل الأصل هـو هـجر أصحاب الذنب وأهل المعصية، وإن كانوا ثابتين على الملة غير مشركين، يستدلون بوقائع من ممارسات للسلف رضوان الله عليهم، ومواقف للرسول صلى الله عليه وسلم .
وليس الأمر كما ظنوا، إذ كل ما أثر في أمر الهجر لا يخلو من أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يكن الهجر من قبيل الغضب والعتب والموجدة في حقوق العشرة أو الأبوة أو الزوجية، كهجران الوالد الولد، والزوج الزوجة، ومن كان في معناهما، ولقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هـجر نساءه شهرا.
والحالة الثانية: أن يكون الهجر من قبيل العادة العامة والعرف العام، كالذي روي مرفوعا: هجران الأحمق قربان عند الله
>[1] والحالة الثالثة: أن يكون الهجر من قبيل هـجر المبتدع، وفرق بين المبتدع والمذنب، إذ هـجر المبتدع سائغ شيئا ما -وأقصد بالمبتدع: صاحب
[ ص: 57 ] البدعة في أصول الدين لا الفروع،كالقدري والمرجئ والمتكلم في القرآن بالخلق، والمستهزئ بالسنن ومظاهر الدين وشعائره، المجاهر بذلك، ونحوهم .. أما الفروع فجلها خلافية اجتهادية، لا يحسن الإنكار فيها، ناهيك عن الهجر والمقاطعة- فصاحب البدعة الأصولية يسوغ هجره إن كان في هجره نفعا له بردعه وجعله يقدم على التوبة، أو كفه عن الدعوة لبدعته، أو كان فيه مفسدة لجماعة من الأمة إن لم يهجر.
وفي سنن أبي داود ومسند أحمد
( عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون بالقدر، إن مرضوا فلا تعودهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم ) >[2] .
وفي طبقات ابن سعد أن رجلا من الأنصار مر على زر بن حبيش رضي الله عنه وهو يؤذن، فقال: يا أبا مريم! قد كنت أكرمك عن الأذان، فقال زر: إذن لا أكلمك كلمة حتى تلحق بالله
>[3] .
فهذا السفيه يسفه مظهرا من مظاهر الدين، ويهين شعيرة من شعائر الدين الظاهرة، التي لا تخفى على مسلم ولا يسع جهلها مسلما، يرى أن زرا أعظم من أن يأتي مثل هذا الفعل الذي هو الأذان، وينزهه عنه، فهذا مبتدع مستهزئ بالدين وشعائره، فاستحق ذلك.
[ ص: 58 ]
أما الحالة الرابعة: فالهجر لأصحاب المعصية والذنب، غير أن كل ما روي في هـذا الهجر قاصر عن الدلالة عليه، إما لضعفه، أو لتوجيهه، وهو ما تعلق به من أراد أن يكون هـجر المذنب هـو الأصل.
1- حديث
البخاري " أن
عائشة رضي الله عنها ، حدثت أن
عبد الله ابن الزبير -ابن أختها- قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: والله لتنتهين عائشة أو لأحجرن عليها. فقالت: أهو قال هـذا؟ قالوا: نعم. قالت: هـو لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبدا. فاستشفع ابن الزبير إليها حين طالت الهجرة، فقالت: لا والله لا أشفع فيه أبدا، ولا أتحنث إلى نذري. فلما طال ذلك على ابن الزبير كلم
المسور بن مخرمة وعبد الرحمن ابن الأسود بن عبد يغوث -وهما من
بني زهرة - وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة، فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي. فأقبل به المسور وعبد الرحمن مشتملين بأرديتهما، حتى استأذنا على عائشة، فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أندخل؟ قالت عائشة: ادخلوا. قالوا: كلنا؟ قالت: نعم، ادخلوا كلكم. ولا تعلم أن معهما ابن الزبير، فلما دخلوا، دخل ابن الزبير الحجاب، فاعتنق عائشة، وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبد الرحمن يناشدانها إلا ما كلمته وقبلت منه، ويقولان: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجرة؛ فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال. فلما أكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج، طفقت تذكرهما وتبكي، وتقول:
[ ص: 59 ] إني نذرت، والنذر شديد. فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة، وكانت تذكر نذرها بعد ذلك؛ فتبكي حتى تبل دموعها خمارها "
>[4] .
وبالنظر إلى ما وقع في هـذا الخبر، نتوصل إلى الآتي:
أولا: أن مثل هـذا الهجر لا يجوز طويلا، وهذا ما أكده
ابن الزبير رضي الله عنه " بقوله: فإنها لا يحل لها أن تنذر قطيعتي، " وكذلك أكده
المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود حين قالا
لعائشة : إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمت من الهجر، فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال.. وهذا تفسير لثلاثة من الصحابة لحديث النهي عن الهجر فوق الثلاث، وأن مثل هـذا داخل في المنع من الهجر بسببه طويلا.
ثانيا: أن عائشة رضي الله عنها كانت تخاف من وقوعها في إثم عظيم بنذرها على قطيعة ابن الزبير وهجره، ولا يجوز لها ذلك إن طال، فكانت رضي الله عنها تتألم لذلك وتبكي كلما ذكرت نذرها، وأعتقت أربعين رقبة لتقابل عظم الأمر بعظيم الكفارة.
ثالثا: وإن كان في الحديث ما يفيد وقوع الهجر، فإن ذلك من فعل عائشة رضي الله عنها ، فإن فعلها -مع فضلها وتقدمها- ليس بحجة، مع أن الظاهر أنها ندمت لفعلها وتراجعت عنه.
[ ص: 60 ]
فيتوجه أن الحدث إنما يدخل في الهجر الذي هـو من قبيل هـجر الغضب والعتب والموجدة في حقوق الأبوة، إذ هـي رضي الله عنها خالة
ابن الزبير ، والخالة في منزلة أم.
2- حديث
أبي داود ( عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قدمت على أهلي وقد تشققت يداي، فخلقوني بزعفران، فغدوت على النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فلم يرد علي، وقال: اذهب فاغسل هـذا عنك ) >[5] .
وهذا الحديث ضعيف لا يحتج به، وفي إسناده
عطاء الخراساني ، وهو صدوق يهم كثيرا، ويرسل ويدلس
>[6] ، ومع ذلك كله فقد عنعن هـذا الحديث،فلا يصلح للاحتجاج.
3- حديث أبي داود عن
عائشة رضي الله عنها أنه اعتل بعير
لصفية بنت حيي ، وعند
زينب رضي الله عنها فضل ظهر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزينب: " أعطيها بعيرا " . فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر
>[7] .
وهذا الحديث ضعيف لا يحتج به، إذ في إسناده
سمية ، وهي مقبولة ،والمقبول لا يحتج بحديثه إلا بمتابع، ولا نعرف له متابعا
>[8] ، فلا يصلح
[ ص: 61 ]
للاحتجاج به، ومع ذلك ليس فيه ما يدل على أن الأصل في المذنب أن يهجر، بقدر ما يفيد على أنه من الهجر الذي يكون من قبيل العتب والموجدة لحقوق العشرة، وما يكون بين الأزواج، إن صح الخبر أصلا.
فكيف ينصح بعض الدعاة أصحابهم أن يتخذوا مواقف الهجر والقطيعة مع كل من يقترف ذنبا أو يأتي بمعصية أو خطيئة، مهما كانت صغيرة، وأن يجعلوا الهجر أصلا في الدين ومنهجا في الدعوة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه هـجر أهل المعصية بالصورة التي يريدها بعض الناس اليوم؟
ولقد بالغ بعض الطيبين وجاوزوا الحد، يعقدون على المعصية معاقد الولاء والبراء،يعلنون البراء من كل مذنب وصاحب معصية مهما كانت صغيرة، ولا أتصور سوى أن يهجروا الجميع، ويتبروا من كل مسلم، إذا ما نجا أحد بإسلامه من المعصية والذنب، ولا عصمة للبشر سوى الأنبياء -على خلاف مشهور أيضا- بل ليس من سنن الله عز وجل ومقاصده تعالى في عباده أن يتجردوا من الذنب ولا يقربوه، وإنما سنته أن يذنبوا وإلا استحقوا التبديل بمن يذنب ليستغفر، كما أكد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح
مسلم ( فقال: والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم ) >[9] .
[ ص: 62 ]
فأين هـم من هـذا الحديث، والرسول صلى الله عليه وسلم ينبه أن من سنن الله في عباده أن يذنبوا؟ وكيف يعقد الولاء والبراء على الذنب، الذي هـو من سنن الله العبادية؟ والأدهى من ذلك أنهم جعلوا معاقد الولاء والبراء أيضا على من يخالف في رأيه ومذهبه، فيعلنون هـجره وقطيعته، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وهذه من العلل التي أصابت الصحوة هـذه السنين، وكادت أن تقضي عليها، وها هـي تضعف الأمة وتفتت جسدها وتنهكه، وتسلط سيفا بتارا جنبا إلى جنب مع سيوف الأعداء، وقد أحسن
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فقال: " وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان تهاجرا، لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة "
>[10] .
ويقول في موضع آخر: " مسائل الاجتهاد، من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه "
>[11] .
وكأن هـؤلاء يريدون أن يحملوا الناس على مذهب واحد ورأي واحد، وهذا يجب أن لا يكون ولا ينبغي، وكما قال
الإمام أحمد رحمه الله تعالى: " لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب ولا يشدد عليهم "
>[12] .
[ ص: 63 ]
هذا في حق الفقيه، وإن ترجح عنده المذهب، وإن غلب على ظنه الرأي، وإن ظهر لعينيه الحق، وإن برد على قلبه الصواب، فكيف بمن هـم دون الفقهاء؟
وغاية ما يمكن أن يقال في قضية الهجران،ويتخذ من إجراءات فيها، ما قاله
شيخ الإسلام ابن تيمية : " وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة، بحيث يفضي هـجره إلى ضعف الشر وخفيته، كان مشروعا.. وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر،والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف.. " اه
>[13] .
ومع كل هـذا لو افترضنا عموم الهجر لأهل المعصية والذنب وجوازه، فإنه يجب التنبيه على أن فعله لا يكون من الجماعات، بل يكون من الحاكم المسلم، تماما كالعقوبات الشرعية من الحدود والقصاص؛ لأن الهجر غايته أنه من باب العقوبات الشرعية وبمنزلة التعزير
>[14] ، ولا يوقع العقوبة على المسلمين كل فرد من أفراد المجتمع أو جماعة من جماعاتهم،
[ ص: 64 ] وإنما الذي يعاقب حدا أو تعزيرا هـو الحاكم، وإلا كان تصرفا شخصيا لا يجوز له دعوة غيره إلى ذلك مهما غلب على اجتهاده صلاحه أو ديانته.
ومعنى هـذا: أنه لا يجوز لأحد أن يعلن هـجره ويدعو من حوله إلى هـجر عاص إلا بأمر الحاكم.