ثانيا: خطاب المجادلة
إن كانت بعض الفئات من البشر تفتح قلبها القدوة الحسنة، فتسارع إلى الإيمان وتشهد بالتوحيد، فإن فئات أخرى تؤثر فيهم المجادلة بالحسنى، ويلزمهم الحوار بالتي هـي أحسن، فتنقاد عقولهم إلى الحق لتسلم القلوب لله رب العالمين.
والدعوات كلها تنطلق أساسا من الحوار، وتتخذ سبيل الجدال في كل أطوارها ومراحلها،ولا تتوقف المجادلة إلا باعتراض عنيد يستوجب إزالته باليد والسيف، ثم تواصل المجادلة سيرها تلزم الحجة، وتقنع المرتاب، وتهدي الحيران، وتثبت المتردد، وتصارع الأفكار، وتخاطب العقول، يبلج الحق فيها ويزهق الباطل، إذ تقذف بالحق عليه فيدمغ ويزهق.
[ ص: 76 ]
ولقد أكثر الدعاة من الجدال بالحسنى، عبر المرسلين والمتبعين لهم بإحسان، حتى تضايق قوم
نوح من جداله، يؤاخذونه به، ويرضى الله عنه، بذكر شكايتهم وتضايقهم، في معرض الإنكار عليهم في قوله تعالى:
( قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) (هود: 32) .
فالقرآن ينبه الداعين إليه إلى التزام المجادلة في الدعوة إليه، ويقرنها بالحكمة والموعظة الحسنة، فيقول تعالى:
( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هـي أحسن ) (النحل: 125) .
وينادي الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يكون خطابهم إلى أهل الكتاب خطاب مجادلة ومحاورة بالحسنى، يرسم لهم أساسيات هـذا الجدال، وما لا يضر الحق من الإقرار به، وإعلانه، والاتفاق فيه معهم، وذلك في قوله تعالى:
( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هـي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ) (العنكبوت: 46) .
بل يأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو أهل الكتاب من غير المسلمين، يناظرهم ويحاورهم ويجادلهم بأقصى ما يمكن اتخاذه من أساليب المجادلة والمحاورة، فيقول له تعالى:
( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) (آل عمران: 64) .
[ ص: 77 ]
يقول
الجصاص رحمه الله: " وفي هـذه الآيات دليل على وجوب المحاجة في الدين، وإقامة الحجة على المبطلين.. قال: وقوله تعالى:
( ها أنتم هـؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ) (آل عمران: 66) ، أوضح دليل على صحة الاحتجاج للحق "
>[1] .
ولقد وصل الحال برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباهل نصارى نجران في جداله معهم، وقد قدموا عليه يجادلونه في
عيسى عليه السلام ، فأنزل الله عليه قوله تعالى:
( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) (آل عمران: 59) ، يقطع عنهم الحجة ويلزمهم
>[2] .
ويقول
ابن القيم في فقه قصة مجادلته صلى الله عليه وسلم
لنصارى نجران : " ومنها: جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم، وإقامة الحجة عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة، فليول ذلك إلى أهله، وليخل بين المطي وحاديها، والقوس وباريها "
>[3] .
واستمر خطاب الحوار والجدال يقارع الحجة، ويصارع الأفكار والمذاهب والملل، كلما خاض معركة انتصر، ولا يزال في الأمة المجاهدون بألسنتهم، لا ينازلهم أحد إلا صرعوه.
[ ص: 78 ]